العالم الجيولوجي عبدالعزيز بن لعبون: لهذا ارتديت الشماغ في رحلتي الى القطب
رأي 16 يناير 2014
عبد السلام الثميري- الرياض:
استطاع أن يصنع لنفسه اسماً لامعاً بين العلماء الجيولوجيين، حيث غامر بنفسه طيلة 40 عاماً متنقلاً بين تسلق الجبال والصعود إلى القمم العالية، والانحدار إلى الأودية السحيقة، واختراق كثبان الرمال وعبور السباخ والغابات، وقطع الأنهار والفيضانات، وركوب البحار والمحيطات.
زاحم البروفيسور عبدالعزيز بن عبد الله بن لعبون، أستاذ جيولوجيا وجيوفيزيا في جامعة الملك سعود، اقرانه العلماء والباحثين العالميين، مقدماً صورة مشرّفة عن المسلمين عموماً والسعوديين بوجه خاص، حيث يعدّ من أبرز العلماء العالميين في مجاله.
ويعدّ الدكتور ابن لعبون من أوائل السعوديون الذين تخصّصوا في علم الجيولوجيا، فلم يمنعه ضعف التعليم في ذلك الوقت من مواصلة دراستة، إلى أن تبوّأ درجات عالية في مسيرته التعليمية.
وكشف البروفيسور خلال حوارنا معه عن رفضه لعدد من المناصب القيادية في وطنه، خوفاً أن تشغله عن عشقة الأول في البحث والتحري في الفن الذي يحبه، حيث يؤكد أنه لا يستطيع العيش بعيداً عن الرحلات الاستكشافية، الملأى بالمخاطر، رافضاً فكرة التوقف عن مواصلة العمل الميداني.
أكد أنه قصد من خلال ارتدائه "الشماغ" ورفع راية بلاده في رحلته الأخيرة إلى القارة القطبية الجنوبية، من ضمن 96 باحثاً وباحثة من 16 دولة تعريف المشاركين بالسعودية، ونشر ثقافة بلده والاعتزاز بها، وأن ذلك هو ديدنه في كل رحلاته.
وبالرغم من تعامله مع الحجر والمعدن والمطرقة والمعمل، فإنه مهتم بالشعر والأدب والتاريخ والأنساب. "الرجل" التقته في منزله في الرياض وكان الحوار التالي:
- بروفيسور ابن لعبون، في زمن التحاقك بالجامعة لم يكن لعلم الجيولوجيا من تطبيق يذكر سوى في مجالات التدريس، كيف تجاوزت تلك المجالات إلى تطبيق أرحب وهو جيولوجيا النفط، فكنت بذلك من أوائل السعوديين المتخصّصين في هذا المجال.. حدثنا عن ذلك؟
فعلاً، فقد كان جميع الحاصلين على الشهادة الجامعية من كلية العلوم يوجهون إلزامياً من قبل ديوان الخدمة المدنية، للتدريس في مدارس وزارة التربية والتعليم (المعارف سابقاً)، ولكن لقناعتي بأهمية التطبيقات العملية للجيولوجيا، من جهة واعتماد اقتصادنا الوطني على النفط، ولندرة تخصّص أبناء الوطن في هذا المجال المهم من جهة أخرى، توجّهت ببادرة شخصية جريئة إلى أقصى شمال شرقيّ المملكة (المحايدة سابقاً) وأجريت مقابلات مع مسؤولين في شركة الزيت العربية (اليابانية) التي كانت تعمل في رأس الخفجي، وحصلت منهم على عرض للعمل في الشركة، وبموجبه استطعت إقناع الديوان بتوجيهي إلى العمل جيولوجيّ نفط في الشركة، وكان ذلك قبل نحو 40 سنة، ومنذ ذلك الحين توطدت علاقتي بجيولوجيا النفط علمياً وعملياً.
- هل كانت تجربتك العملية الوظيفية في شركة الزيت العربية (اليابانية) في الخفجي، هي الوحيدة قبل التحاقك بجامعة الملك سعود؟
كان عملي في الخفجي انطلاقة تجربتي العملية في الدراسات النفطية، اكتسبت من خلاله معرفة الكثير عن حقول النفط والغاز المغمورة، وخلال عملي في الشركة حصلت منها على بعثة لدراسة الماجستير من جامعة تلصا بولاية أوكلاهوما، والجامعة من أرقى الجامعات الأمريكية في الدراسات النفطية، وما أن حصلت على الماجستير وعدت إلى الخفجي، حتى بدأت في مشروع درجة الدكتوراه، فحصلت على قبول من جامعة الملك عبدالعزيز في جدة، فكنت أسافر براً من الخفجي إلى مطار الظهران، ومنه بالطائرة إلى جدة وأمضي أياماً في الجامعة للدراسة والبحث، ثم العودة إلى الظهران فالخفجي، واستمر الوضع على هذه الحال فترة طويلة، وأنا على رأس العمل، حتى قررت الانتقال للعمل في شركة الزيت العربية الأمريكية (أرامكو) (شركة الزيت العربية السعودية - أرامكو السعودية لاحقاً) في الظهران، وفي الشركة وجدت البيئة العلمية والبحثية، وواصلت العمل في مشروعي، وأنا على رأس العمل، فحصلت على شهادة الدكتوراه في سنة 1982، وتدرجت في المهام والمراتب في الشركة إلى أن تبوّأت مرتبة مستشار جيولوجيا نفط.
- هل كانت الجامعات السعودية تمنح درجة الدكتوراه في الثمانينات من القرن الميلادي الماضي؟
نعم؛ فقد كانت جامعة الملك عبدالعزيز تضم معهداً يمنح شهادة الماجستير في الدراسات الجيولوجية، وهو معهد الجيولوجيا التطبيقية، ثم طوّر برنامج هذا المعهد ضمن كلية علوم الأرض في الجامعة، وأصبحت تمنح درجات الدكتوراه، وكنت أول من سجل في هذا البرنامج، وأول من حصل على شهادة دكتوراه في الجيولوجيا من جامعة سعودية.
- هناك ما يدعو إلى التساؤل؛ مسيرتك مشبعة بالمهنية وبالعلمية التطبيقية، وما نتج عن هذه التجربة العملية الملأى بالبحوث والانجازات، ومع ذلك طلبت التقاعد المبكر، وقد تم لك ذلك، وانتقلت من معمعة العمل في أكبر شركة نفط في العالم، إلى سلك التعليم، فما فلسفتك في هذا الشأن؟
ربطي بين العملين التطبيقي والأكاديمي كان وما زال مستمراً، فحينما كنت على رأس العمل مع "أرامكو" السعودية، كنت أستاذاً غير متفرغ لتدريس عدد من المقررات لطلبة الدراسات العليا في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، وبعد التقاعد المبكر من "أرامكو" السعودية عملت على تأسيس مركز سعود البابطين الخيري للتراث والثقافة لمدة عام، ثم التحقت بجامعة الملك سعود، كلية العلوم قسم الجيولوجيا والجيوفيزياء.
الانتقال من المجال التطبيقي في الشركات إلى الأكاديمي في الجامعات، فرصة تتلقفها كبريات الجامعات في العالم، حيث الاستفادة من خبرات العاملين في مختلف القطاعات، وحرصاً مني على مواصلة العطاء ونقل خبرات العمل التطبيقي في مجال جيولوجيا النفط إلى العمل الأكاديمي، التحقت بجامعة الملك سعود، وذلك لقناعتي أن الجامعة هي مصنع لرجال المستقبل، وأول لبنة في صناعتهم هي بثّ الثقة في نفوسهم، ودفعهم للنهل من العلوم، والتطلع إلى العلياء، لذا توجهت إلى الجامعة للمساهمة في تحقيق تلك الأهداف السامية. وقد وجدت أن الجامعة تهيّئ جميع الفرص للبحث العلمي الجاد وتشجع النشر في الأوساط العلمية العالمية، لذا ارتقت الجامعة إلى مصاف أفضل جامعات العالم.
- بروفيسور ذكرت أن علم الجيولوجيا يتصل بعلوم وتطبيقات متعددة، وهناك من يرى أن الجيولوجيا علم منعزل وجاف وصعب؛ صخور وأحافير وديناصورات وملايين من السنين، أرى أن هذا الأمر يحتاج إلى تسليط الضوء.
باختصار "جيولوجيا" مصطلح يعني علم الأرض، وعلوم الأرض كثيرة، وباختصار الجيولوجي هو من يعمل على استخراج ما استودعه الله سبحانه وتعالى في الأرض وما عليها من ثروات طبيعية، والجيولوجي هو من يعمل على كشف ما في الأرض وما عليها من مخاطر؛ للجيولوجيا دور مهم في حياتنا اليومية كاكتشاف مصادر للثروات الطبيعية من مياه ونفط وغاز ومعادن وموادّ خام؛ للجيولوجيا دور عند إنشاء السدود والطرق والأنفاق والمجمّعات السكنية والملاعب، وتحديد مجاري السيول، والتنبيه إلى انهيارات الجبال والخسوف الأرضية والزلازل والبراكين، وغير ذلك. فالحديث في هذا يطول، وأنا ممّن يعدوّن أن الجيولوجيا هو علم العلوم.
- حدثنا عن رحلتك إلى القارة القطبية الجنوبية؛ ما الأهمية العلمية لك شخصياً أو للمملكة؟
الرحلة مميّزة في جميع جوانبها العلمية والمناخية والجغرافية والاستكشافية، ولمشاركتي في هذه البعثة العلمية ارتباط علمي وثيق بجيولوجية المملكة العربية السعودية، فقد تعرضت جزيرة العرب لما لا يقل عن خمس فترات جليدية خلال تاريخها الجيولوجي، وكانت البعثة فرصة لمقارنة صخور ودلائل تلك الفترات الجليدية، وخاصة ما أعانني الله على اكتشافه من صخور جليدية في أقصى شمال غربيّ المملكة في منطقة مدين شرق خليج العقبة، مع الصخور الجليدية في القارة القطبية الجنوبية.
- ما الجهة التي تبنّت البعثة؟ وكيف وجدت الجوّ العلمي ضمن هذا الفريق المتنوع؟
تولت الجمعية الجيولوجية الأمريكية، وهي أكبر جمعية جيولوجية في العالم، ترتيب البرنامج العلمي والميداني للبعثة، ووضعه. وشارك فيها نخبة من أساتذة الجيولوجيا والجليد والتغيّرات المناخية والحياة الفطرية من مختلف الجامعات والهيئات العلمية العالمية، وشارك فيها 96 باحثاً وباحثة من 16 دولة، وكانت الأجواء علمية بحتة؛ محاضرات وورش عمل وعمل ميداني ومناقشات في مختلف العلوم والتخصصات. وكنا ونحن على متن الباخرة كأننا في جامعة عائمة.
- وكيف وجدت هذه التجربة العلمية؟
المشاركة في البعثة تجربة فريدة ومتميّزة على مختلف الصعد علمياً وإعلامياً وشخصياً؛ فمن الناحية الجيولوجية كانت البعثة فرصة لمقارنة جيولوجية جزيرة العرب بالقارة القطبية عندما كانت قارات العالم الجنوبية متصلة ببعضها في قارة عظيمة تعرف بقارة جوندوانا قبل 180 مليون سنة، ومن جهة أخرى التعرف إلى بيئات الترسيب الجليدية الحالية، ومقارنة الصخور التي ترسّبت في بيئات جليدية في المملكة، بصخور القارة القطبية، وتبادل المعلومات والخبرات مع أساتذة كبار متخصّصين في الجيولوجيا والجليد والتغيرات المناخية وغيرها.
- ماذا عن الدور الإعلامي في هذه الرحلة؟ هل قمت بالتعريف بوطنك وعاداته؟
- لقد أوليت الجانب الإعلامي دوراً كبيراً من نشاطي الجانبي في البعثة، لإبراز سماحة ديننا والوجه المشرق لبلدنا وعراقة تراثنا، فقد اجتهدت في التواصل مع وزارة الثقافة والإعلام وجامعة الملك سعود، للحصول على عدد من الهدايا والمنشورات والمطبوعات والبطاقات البريدية، وكذلك أحضرت ما استطعت الحصول عليه من الهدايا العينيّة التراثية البسيطة الهادفة المتنوعة، بالإضافة إلى كتيّبات التعريف بديننا الإسلامي الحنيف، ومصاحف مترجمة، وقمت بتوزيعها على فترات على المشاركين في البعثة، وقد لمست شعوراً طيّباً غامراً لدى المشاركين عند قبولهم لهذه الهدايا، والتي تركت بفضل من الله أبلغ الأثر، وأوجدت انطباعات الاستحسان في نفوسهم.
- رحلة أرضها مختلفة، وجوّها مختلف، وكائناتها مختلفة، وموقعها في أقصى الدنيا، ألم ينتبْك شيء من القلق على سلامتك؟
القلق والخوف وحسابات السلامة، جزء مهم في استكشافاتنا الجيولوجية الاعتيادية، نتعرّض لمواقف صعبة ومخاطر نمرّ بها واعتدنا عليها، إلا أن لهذه الرحلة، كما ذكرت في سؤالك مشكوراً، خصوصية، فلها طبيعتها المختلفة كلياً، فالأجواء والظروف لا مقارنة لها مطلقا مع ما سبق أن تعودنا عليه؛ فالعواصف ثلجية، وأعاصير، وأمواج هائجة، ومعظم الوقت رهائن سفينة تأرجحها الأمواج العاتية، والإبحار بين جبال من الجليد.
العمل الميداني مبرمج في جدول محدد وبشكل جماعي، والنزول إلى الشاطئ عبر قوارب مطاطية تتقاذفها الرياح وترفعها وتهوي بها الأمواج. والشواطئ عموماً مغطاة بالجليد إلا من ساحل صخري، مع رياح عاتية وبرد قارس تصل درجات حرارته إلى ما تحت الصفر، ومخاطر الانزلاق بسبب قطع الجليد أو بعض الطحالب الملساء في بعض المناطق، ناهيك بالشواطئ التي تحرسها الفقمات الشرسة، فكل هذا وأكثر منه كان يشكل حالات ومواقف خطرة ومؤذية ومزعجة.
- ماذا عن فارق التوقيت؟
هناك فارق توقيت كبير، والأهم منه ما يترتب عليه من تغيّرات في التوقيت، فالنهار طويل جداً والليل قصير جداً، والشتاء هنا صيف هناك، وهذا يسبب خللاً وارتباكاً في الساعة البيولوجية، فكل شيء يجب إعادة برمجته، مواعيد النوم، مواعيد الطعام، وخاصة فروض الصلاة وتحديد مواقيتها؛ ففي أيام تغيب الشمس نحو الثانية عشرة مساء، وتشرق نحو الثانية صباحاً، ولكن من يتقّ الله يجعل له مخرجاً. أما منغصات الرحلة وأخطارها، فثمن لابدّ من دفعه للحصول على العلوم.
- في نقلة للطرف الآخر من الأرض، كنتم عضواً في الفريق العلمي في الرحلة العلمية لهيئة المساحة الجيولوجية السعودية، لاكتشاف الربع الخالي عام 2006، ما أبرز ملاحظاتك عن تلك الرحلة؟
كانت بعثة هيئة المساحة الجيولوجية السعودية أكبر رحلة استكشافية وأشملها، نظمت لعبور الربع الخالي واستطلاعه، فقد ضمّت خبراء في مختلف التخصّصات ومن مختلف البلدان، وكانت سريعة وقصيرة واستطلاعية، تم من خلالها التعرف إلى معالم الربع الخالي، وقد حصل كل متخصص على علوم قيّمة في تخصّصه، ولكن أثيرت حولها ضجة إعلامية مبالغ فيها.
- وعن الربع الخالي؟
الربع الخالي منطقة بكر، وهو عمق استراتيجي للمملكة، لما يختزنه من مياه جوفية يجب المحافظة عليها بكل صرامة. ونحن بحاجة إلى حماية حياته الفطرية، بل وتنميتها، والمحافظة عليه بيئياً من التلوث، فهو من أنظف بقاع الأرض بيئياً وإشعاعياً، ونحن بحاجة إلى رعاية قبائله، ودراسة لهجاتها بل لغاتها، وتراثها، وعاداتها، ومعرفة تنقلاتها، ومرابعها، ودراسة مظاهر الربع الخالي الطبيعية بالتفصيل: كثبان وسباخ وآبار وعيون ونيازك ونباتات وحيوانات وجيولوجيا ودحول ومسميات وغير ذلك.
- يتطلب العمل الميداني الجيولوجي، الجرأة والإقدام، إلى درجة الاقتراب من المغامرة للكشف عن كل ما هو مجهول فوق سطح الأرض وتحته، ما أبرز مخاطر ذلك العمل؟
العمل الجيولوجي ميدانيّ بالدرجة الأولى، وكأي عمل ميداني، لابدّ من الاستعداد النفسي للجرأة والمغامرة، ومع الأخذ بأسباب السلامة والاحتياط، لا يخلو العمل من حوادث خطرة؛ فالدخول إلى دحول (مغارات تحت سطح الأرض) عميقة مظلمة فيها من الأفاعي والعقارب والحيوانات من ثعالب وضباع وذئاب وخفافيش وغيرها، أو عبور كثبان الرمل وقطع السباخ وتسلق الجبال، وتقلبات الجو من أمطار غزيرة وسيول وعواصف رملية، وحوادث سير، وإعطال السيارات في أماكن نائية، كل ذلك ينتج عنه الكثير من المخاطر.
- حدثنا عن بعض هذه التجارب.
كثيرة هي تلك التجارب، ولعل من أبرزها عندما كنا مع فريق من أساتذة جامعة الملك فهد للبترول والمعادن وطلابها، لزيارة منجم مهد الذهب في سيارتين، وقبل الوصول كان سائق سيارتنا متعباً وينتابه النعاس، وفجأة انفجرت إحدى عجلات السيارة، فارتبك السائق وضغط على الكابح (الفرامل) فجأة وبقوة، مما نتج عنه انقلاب السيارة وتتطاير زجاجها وتقلب من بداخلها وأصيبوا، وكنت أكثرهم إصابة، فقد تهشمت يدي وتقطع جلدها وتكسّرت عظامها وتقطعت أوتارها، وكدت أفقدها لولا لطف الله، وكان ممّن أصيب أيضاً الدكتور عبدالرؤوف جادو، الذي أصيب في حاجب عينه، والدكتور سيف الإسلام في كتفه وإصابات أخرى طفيفة.
وحادثة أخرى رأيت الهلاك بعينه، عندما تعطلت سيارتنا عند نفود شرق ريع الذئاب في جبال القهر، واضطررنا للسير لبضع ساعات تحت وهج الشمس المحرقة، ما تسبب في إضاعتنا للطريق وحدوث حالات إغماء، فلا بدّ أخذ الحذر واستكمال أسباب السلامة قبل التحرك في أي رحلة، مهما كان الغرض منها، قريبة كانت أو بعيدة.
- ما الأدوات التي تحرص على اقتنائها في رحلاتك الاستكشافية؟
عند القيام بأية رحلة ميدانية أو حتى سفرة اعتيادية، لابدّ من إجراء ترتيبات وأخذ احتياطات واصطحاب أدوات، من الترتيبات إبلاغ من هم حولك من أقرباء وأصدقاء بجهة سفرك وخط سيرك والمدة، ومن الاحتياطات معرفة أحوال الطقس والظروف المناخية. أما الأدوات فتعتمد على طبيعة الرحلة ومن أهمها فحص المركبة جيداً، وأخذ مستلزمات إصلاح الأعطال، وكميات من المياه والأغذية، وأجهزة تحديد المواقع، وأجهزة الاتصال، وتحديداً جهاز الثريا، وإبلاغ الجهات الرسمية وخاصة الدفاع المدني، و توقع الأسوأ دائماً، فالحذر واجب.
- من هذا الكم الهائل من الرحلات التي شاركت فيها، نودّ أن نتعرف إلى عددها مع نبذة قصيرة عنها ونوعياتها؟
عدد الرحلات لم أحصه، ولكنه بالمئات، أما نوعيتها، وهذا هو الأهم، فهي متنوعة الأهداف والتخصصات والاتجاهات في مختلف أنحاء المملكة، فمنها صوب الربع الخالي، وجزر المملكة وسواحلها في البحر الأحمر وخليج العقبة والخليج العربي وخور العديد، والحرات (الصخور البركانية)، وزلازل العيص، ودرب زبيدة، والرسوم الصخرية، وسلسلة جبال طويق، والصخور النارية والمتحولة، والصخور الرسوبية والجليدية، والآثار، والأحافير والأشجار المتحجّرة، والسباخ، والمناجم القديمة، والكهوف والمغارات والدحول وغيرها. وخارج المملكة رحلات جيولوجية في سيناء والأردن وسوريا والكويت والبحرين والإمارات وعمان واليمن وأوروبا والأمريكتين وأستراليا، ومؤخراً القارّة القطبية الجنوبية.
- هل تم توثيق هذه الرحلات؟
معظمها وثقته بآلاف الصور، وعدد من التقارير، وبعضها نشرته كتباً، ومقالات، واستطلاعات، وأبحاثاً علمية.
- حماسك وعشقك لمادتك العلمية والمخاطرة من أجلها، هل وجدت من طلابك من ينتهج منهجك في الرحلات الاستكشافية في مجالات الجيولوجيا والآثار؟
لا أبالغ إذا ما قلت إن معظم طلابي (لا أسميهم طلاباً بل باحثين) يعشقون الاستكشاف، وحتى بعد التخرج والعمل يطلب بعضهم المشاركة في رحلاتنا الجيولوجية، أو يطلب منا زيارته في مقرّ عمله أو بلدته لأخذنا في رحلة علمية.
- بجانب جهودكم الفردية في التدريس والبحوث والرحلات الداخلية والدولية، كان لكم دور في تشجيع التميّز العلمي، فما الرسالة التي تودّ إيصالها في هذا الشأن؟
العلم فريضة والتنافس فيه شرف، ومن الواجب على جميع مؤسسات الدولة تشجيع المتميّزين فيها علمياً وفكرياً وعطاءً وتكريمهم وإشهارهم، لذا أسّست وتبنّيت جائزة للتفوق العلمي لأبناء الأسرة وبناتها، ووضعت جائزة لأفضل رسالة ماجستير في الدراسات الأثرية.
- شاركتم في تحرير عدد من المؤلفات المتميّزة والموسوعات، ولابدّ أن يكون لها الفائدة المتعددة في مجالات شتى، فهلّا حدثتنا عن أبرز هذه المشاركات؟
مهما قدمنا من مشاركات وبذلنا من جهد وحققنا من إنجازات، فهي لا تذكر أمام ما في أعناقنا من دين تجاه ديننا وأمتنا ووطننا ومجتمعنا. لقد شاركت في تحرير عدد من الأعمال كموسوعة المملكة العربية السعودية التي أصدرتها مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، وأطلس السعودية الذي تصدره وزارة التعليم العالي، وغيرهما من الأعمال الجيولوجية والنفطية المتخصصة وكتب المقررات الدراسية، وتاريخ صناعة النفط في المملكة.
- مع جميع ما ذكرته في هذا اللقاء، يعرف عنك حبّك للأدب والشعر والتاريخ والأنساب، وإصدارك كتباً في ذلك، فما هي معادلة الجمع بين الشعر والجيولوجيا؟
هذا السؤال يتكرر بين فينة وأخرى، وقد طرحه عليّ الشيخان حمد الجاسر وعبدالله بن خميس - رحمهما الله - عندما قدما لكتابين من كتبي وهما "أمير شعراء النبط محمد بن لعبون - سيرته ودراسة في شعره"، و"ديوان أمير شعراء النبط محمد بن لعبون"، فقد استغربا أن يكون لمن يتعامل مع الحجر والمعدن والمطرقة والمعمل، اهتمام بالشعر وحسّ شاعري. وعلى كل حال وإن كنت أتذوق الشعر والأدب والتاريخ والأنساب وأتعب من أجله، فإنني لا أعدّ نفسي شاعراً ولا أنشر شعري (عدا قصيدة وقعت في يد شاعر فنشرها في الكويت)، ولا أديبا ولا مؤرخاً ولا نسّابة.
- اسمح لي بروفيسور بهذا السؤال: متى ستتوقف عن رحلاتك الاستكشافية؟ وهل طلبت أسرتك التوقف عنها؟
هذا السؤال أشك أن من أوحى لك به، هم الأهل والأقرباء وخلّص الأصدقاء الذين يلحّون علي للتوقف عن الرحلات، بسبب طبيعتها ومشاقها وخطورتها والتفرغ للعمل المكتبي، وفي الحقيقة ما دمت أستطيع مواصلة العمل الميداني فلن أتوقف عنه رغم خطورته، ورغم إصابتي المزمنة بالانزلاق الغضروفي وآلام مفاصل الركبة، وكانت آخر رحلة لي هي استكشاف دحول ضيقة وعميقة ومظلمة في الصمّان، والنزول إليها بالحبال، وزيارة حرات وفوّهات براكين في حرة خيبر، وسأغادر - بإذن الله - مع بداية السنة الميلادية إلى جنوب شرقيّ القارة القطبية الجنوبية، وأخطط للتوجه إلى القطب الشمالي.