عمري ١٠٢ عام
سلمان الدوسري*
حالي لا تختلف كثيراً عن الفنان الكبير محمد عبده، عندما غنى "كنت أظنّ وكنت أظنّ وخاب ظنّي"، فعندما كتبت مقالي الشهر الماضي "صديقتي إيزابيل" ظننت - خاطئاً - أن تلك المرأة وهي في سن الثامنة والثمانين، تقدم نموذجاً فريداً للإنسان الذي يكبر في السن ولا يكبر في العمر، إلا أن الدكتور وليام فرانكلين فاجأني بقصة جديدة تعمّق أزمتنا مع أعمارنا، وحكمنا على الكبار سناً بالرحيل قبل أوانهم بوقت طويل. الدكتور فرانكلين يستقبل المرضى بوصفه استشارياً في عيادته بوسط العاصمة البريطانية لندن، يومياً، من الأحد إلى الخميس. شكرته على استضافته ومنحي القليل من وقته وتجربته، خاصة أنه يبلغ من العمر ١٠١، قاطعني وهو يتوكأ على عصاه، مشيراً إليّ بالجلوس: ١٠٢ لو سمحت.
الدكتور فرانكلين أسهم في اختراع البنسلين، وخدم طبيباً في الجيش البريطاني، وأُسر لستّ سنوات في سنغافورة إبّان الحرب العالمية الثانية، وعُذّب حتى قلعت أسنانه، ومع هذا فهو لا يرى سراً في حياته الممتدة لأكثر من قرن، يقول: ليس لديّ ما أنصحك به، فأنا أفعل ما يفعله الآخرون، ربما كنت محظوظاً جداً لأني بقيت على قيد الحياة، غير أن حظي الأكبر أني أمارس حياتي بشكل طبيعيّ، ولم أنظر لعمري مرة واحدة في حياتي. لديّ برنامج مواعيد مزدحم حتى نهاية العام. لا أعرف كلمة التقاعد عن العمل، ولا أتحمّس لها، ولا أنصح بها بتاتاً.
رحلت زوجة فرانكلين قبل ثماني سنوات، وكان حينها في الرابعة والتسعين من العمر؛ شريكة الحياة والحب والسعادة غادرت حياته وتركته وحيداً. ما الذي فعله أسير الحرب السابق؟ لم يبكِ على الأطلال ويندب حظه. يقول: كان لزاماً أن أعود لحياتي وأعتاد ماجرى؛ من اليوم الأول دخلت المطبخ لأتعلم الطبخ، فلم يعد لديّ من يساعدني عليه. تخيّلوا الدكتور فرانكلين لم يخجل من تعلّم الطبخ في العقد المئة. يفخر أنه تعلم شيئاً جديداً في هذا العمر.
ما الذي يجعل مثل هذا الشخص وهو يبلغ من العمر عتياً، ينظر إلى الحياة بتفاؤل وحب واحتياج، بينما نرى آخرين يحكمون على أنفسهم بالموت، فقط لأنهم بلغوا السبعين مثلاً؟ هل ينبغي على الإنسان أن يضع سناً معيّنة تتوقف معها بوصلة الحياة؟ العمر ليس ماتسجّله شهادة ميلادنا، عمرنا الحقيقي يكمن في مقدار إنجازنا ومانقدمه من عمل لمن حولنا.هل كل من بلغ الستين بلغها فعلاًً؟ ربّ أناس عاشوا ورحلوا وهم على أطراف الحياة، لم يسهموا حتى بابتسامة تسعد أقرب المقربين منهم.
قبل خروجي من عيادة الدكتور فرانكلين، تذكرت أني لم أركب المصعد للدور الثاني، سألته مستغرباً: هل تصعد الدرج وتنزل منه يومياً؟ ابتسم وهو يصلح ربطة عنقه وأجاب: وأحياناً أكثر من مرة، إنه يساعدني على الحركة، ولا تنسَ عصاي تساندني. ودعته ونزلت من الدرج الصغير جداً وأنا أسأل: يا ترى كم عمراً عاشه فرانكلين؟ ربما خمسة أو ستة من أعمار من قتلوا أنفسهم عمداً، حتى لو كانوا حاضرين بأجسادهم بيننا.
رئيس تحرير صحيفة الشرق الاوسط ومجلة الرجل