العودة إلى فضيلة الإنصات.. بقصة
محمد النغيمش
التقيت قارئة من سلطة عمان، وعاتبتي بشدّة بسبب انقطاعي عن الكتابة في فنون الإنصات التي ترى أن "قلة من المقالات والكتب العربية" تتناول هذا "الموضوع المهم". فكان ردي بأنني أمضيت أكثر من تسع سنوات في الكتابة عن هذا الموضوع، في هذه الزاوية التي كانت بعنوان كتابي: "أنصت يحبّك الناس" التي تعدّ أول عمود في الصحافة العربية متخصص في فن الإنصات. وهذا شكر يسجل لمجلة "الرجل". وقد وفقني الله تعالى لكتابة ثلاثة كتب وثلاث دراسات في هذا المجال، فضلاً عن الدورات المستمرة. ولم يفلح ذلك كله في إقناع القارئة العمانية التي تُلِحّ هي وغيرها، ممّن ألتقيهم، بالعودة إلى كتابة شيء عن فضيلة الإنصات.
لديّ ما اكتبه عن هذا الموضوع حتى آخر يوم في حياتي، لأن قضية الإنصات شغفي وهي جزء أصيل في الحوار والأهم أنها "منسية" ولذا أطلقت على كتبي "سلسلة كتب فضيلة الإنصات المنسية". وهي بالفعل كذلك، ورغم أن الناس تتحدث بمعدل 40 في المئة من ساعات اليقظة وتستمع بمعدل 35 في المئة وتقرأ وتكتب بنحو 16 و9 في المئة، على التوالي، فإننا لا نعطي الإنصات حقه. بمعنى آخر نحن نقضي 75 في المئة من أنشطتنا إما متحدثين أو مستمعين، ومع ذلك لا نجد مادة متخصصة تدرس أجيالنا فضيلة الإنصات.
وما زاد الطين بلة، تأصَّل "الثقافة الشفهية" في بيئاتنا العربية منذ الأزل. فمشكلة بعضنا اعتقاده بأن المتحدث أهم من المستمع ولذا لا نكف عن إقحام أنفسنا في كل شاردة وواردة في الحوار. مع أنه لو لم يوجد مستمع جيد، لما وجدت المتحدث أصلاً.
وحتى أفي بوعدي للقراء الأعزاء، أعود إلى فضيلتنا المنسية التي يبدو أن العلماء لم ينسوها. فقد جاءتنا مجلة "الإنصات" الدولية بدراسة جديدة قدمت دليلاً علمياً يؤكد ما يشعر به الناس من قوة تأثير القصة في متلقيها. فلاغرابة في أن تخلد "قصص ألف ليلة وليلة" وتترجم إلى عشرات اللغات، لأن القصة هي العامل المشترك في لفت انتباه الشعوب بمختلف أعمارهم.
وزبدة الدراسة أنه حينما يسرد المتحدث قصصا ذات معنى، فإنه يدفع الآخرين إلى الإصغاء جيداً إليه، وليس هذا فحسب، بل يجعلهم يشعرون "بالأمان النفسي". واتضح أن هذا السرد القصصي يخفض لديهم شعورهم "بالقلق الاجتماعي".
وممّا كشفه لنا الباحثون أنه "كلما تحلى المتحدثون بقدرات سردية جيدة للقصة تمكنوا من الحصول على إنصات أفضل" من جلسائهم. وهذا ما دفعهم إلى أن يطلقوا على دراستهم عنوان: "إذا أردت آذاناً صاغية.. فأسرد قصة".
ولذا نجد أن معظم القادة والزعماء الملهمين يبدأون خطاباتهم ومحاضراتهم بقصة، لأنها تدخل المستمع فورا في صلب الموضوع، عبر سرد روائي رشيق يفضّل أن يكون ذا صلة بالموضوع الرئيسي، حتى يكون تأثيره أبلغ. ومن أسرار القصة في التحاور مع الآخرين أنها "تذيب الجليد" كما يقال، وتزيل عنا رهبة افتتاح الاجتماع أو المحاضرة أوالدورة.