"الصندوق الأسود" بئر أسرار الطائرات.. كيف يعمل؟
الصندوق الأسود، مُسجل بيانات الرحلات الجوية FDR، مسجل صوت قُمرة القيادة CVR، كلها مسميات لأحد أهم عناصر السلامة في الطائرات، الذي يستخدم بدوره خلال إجراءات التحقيق في حوادث الطائرات والاستدلال على مسبباتها، حيث تسجل هذه الأجهزة مجموعة واسعة من البيانات، مثل: سرعة الطائرة وارتفاعها واتجاهها، بالإضافة إلى المحادثات داخل قمرة القيادة، فكيف يعمل الصندوق الأسود؟ ومم يتكون؟ وما أشهر الحوادث التي استُخدم للتحقيق فيها؟
لماذا سُمي بـ"الصندوق الأسود"؟
في البداية دعونا نُخبركم أن الصندوق الأسود ليس أسود اللون، بل برتقاليّ، وذلك لتمييزه ولضمان سهولة رؤيته في حال وقوع الحوادث، فبعد أن فرضت صناعة الطيران استخدام هذه المُسجّلات في الستينيات، نصت اللوائح على وجوب طلاء جميع هذه الأجهزة باللون البرتقالي، ولكن السؤال هنا: لماذا سُمي بالصندوق الأسود إذاً؟!
هناك افتراضان أساسيان؛ الأول متعلق بالسياق التاريخي حيث كان مصطلح "الصندوق الأسود" شائعاً في أثناء الحرب العالمية الثانية من قِبل البريطانيين، لأنه كان يُغلّف في صندوق مطليّ بالأسود، والثاني أن مُسجلات الطيران المبكرة كانت ذات تصاميم داخلية داكنة أو غير شفافة.
من اخترع الصندوق الأسود؟
على الرغم من أن الفضل في اختراع أول مسجلٍ في صناعة الطيران التجاري يرجع إلى العالم الأسترالي "ديفيد وارن"، فإن أول تصميم معروف للصندوق الأسود يُنسب إلى المهندس الفرنسي "فرانسوا هوسينو" في عام 1939، وقد سُمي الجهاز في البداية -تيمناً باسمه- "هوسينوغراف- Hussenograph"، وبالتعاون مع المهندس "بول بودوين" أسسا عام 1947ما يُعرف بـ "الشركة الفرنسية لأدوات القياس- Société Française des Instruments de Mesure" (هي الآن جزء من مجموعة سافران Safran لتصنيع محركات ومعدات الطائرات)، وبفضل مساهماتهما، تم إرساء الأساس لأجهزة التسجيل المُستخدمة اليوم في الطيران الحديث.
الجدير بالذكر أنه في أثناء الحرب العالمية الثانية، طوّر كلٌ من "لين هاريسون" و"ڨيك هازبند" جهازًا مقاومًا للصدمات والحرائق، وهو ما وضع معايير جديدة من حيث المتانة والموثوقية، وأدى في النهاية إلى النسخة المعاصرة والمتطورة من الصندوق الأسود، القادرة على تحمل الظروف القاسية وحماية البيانات الحيوية بالطائرات.
كيف يعمل الصندوق الأسود؟
في البداية، وتحديداً في الستينيات، كانت الصناديق السوداء تستخدم أشرطة مغناطيسية تعمل كأي جهاز تسجيل تقليدي آنذاك، إلى أن تطورت في التسعينيات لتستخدم الأقراص الصلبة، التي تعتمد على مكونات إلكترونية لتسجيل البيانات، وهو ما حسّن الأداء وسرّعه، مثلما تحسنت الصلابة والفاعلية بشكلٍ عام.
ويتكون الصندوق الأسود بشكلٍ أساسي من جهازين، هما: مُسجل أصوات قُمرة القيادة CVR، ومسجل بيانات الرحلة FDR، حيث يقوم الأول بتسجيل المحادثات بين الطيارين، والاتصالات الراديوية، والأصوات المحيطة في القمرة بشكلٍ عام، ليوفر سياقاً مهماً لفهم التصرفات والقرارات التي تم اتخاذها في أثناء الحادث.
أما مسجل بيانات الرحلة FDR، فيختص بتسجيل البيانات الكمية المتعلقة بأداء الطائرة، مثل: الاتجاه، والارتفاع، والسرعة، ومستويات الوقود، ودرجة حرارة المقصورة، وأداء المحرك، وتصل مدة تخزين البيانات إلى نحو 25 ساعة، ما يساعد على إعادة محاكاة سيناريو الحادث عن طريق إعادة بناء الطائرة والرحلة "افتراضياً"، وتحديد المشكلات التي أدت إلى وقوع الحادث.
وتُقدر البيانات التي تجمعها الصناديق السوداء بأحجام مهولة، ففي طائرة بوينغ 787 مثلاً، يمكن أن يتجاوز الحجم آلاف الجيجابايت لكل رحلة، وهذه الكمية المهولة تعتبر سلاحاً ذا حدين، فهي مفيدة لمعرفة كل التفاصيل، ولكنها في الوقت نفسه مُرهقة للمهندسين وفريق الصيانة وتحتاج إلى برامج دائمة التطور لإدارتها.
في كل الأحوال يتم إرسال جميع البيانات التي تجمعها المستشعرات المختلفة وأنظمة الملاحة والقيادة إلى "وحدة جمع بيانات الرحلة- FDAU" الموجودة في مقدمة الطائرة، ومنها إلى الصندوق الأسود، الذي عادة ما يُثبّت في الجزء الخلفي من الطائرة، ويكون مطليًّا باللون البرتقالي الزاهي كما ذكرنا، حتى يتم تمييزه بسهولة.
اقرأ أيضًا: تتأخر ثانية واحدة فقط كل 33 مليار عام.. ما هي الساعات الذرية وكيف تعمل؟
أشهر الحوادث الجوية التي حل لغزها الصندوق الأسود
لطالما لعب الصندوق الأسود دوراً كبيراً في حل ألغاز الكثير من حوادث الطائرات وكشف أسرارها، ومن أشهر هذه الحوادث:
1. رحلة 447، الخطوط الجوية الفرنسية (عام 2009): تحطمت طائرة هذه الرحلة في المحيط الأطلسي، واستغرق الأمر قرابة العامين لاستعادة الصندوق الأسود من على عمقٍ يقارب 13 ألف قدم، وقد تبين لاحقاً أن الطيّار قد أخطأ، ما أدى إلى انخفاضٍ مفاجئ في السرعة، ومن ثم سقوط الطائرة ووفاة جميع من على متنها (288 شخصاً).
2. رحلة 800، خطوط TWA (عام 1996): انفجرت الطائرة بعد إقلاعها من مطار "جون كينيدي" بوقتٍ قصير، ولولا الصندوق الأسود لما استطاع المحققون أن يعرفوا السبب، وبينما كانت أصابع الاتهام تشير في البداية إلى عمل إرهابي، كشفت البيانات عن شرارة انطلقت في خزان الوقود شبه الفارغ.
3. رحلة 103، خطوط بان أميريكان العالمية (عام 1988): انفجرت الطائرة المتجهة من لندن إلى نيويورك، فوق قرية لوكربي الإسكتلندية بسبب قُنبلة زرعت في حجرة البضائع الأمامية، وهي الأدلة التي أظهرها الصندوق الأسود، ليشير إلى عمل إرهابي كانت له تبعاته على كل المستويات.
4. رحلة 610، خطوط Lion Air (عام 2018): تم انتشال الصندوق الأسود من بحر جاوا، ومنه عُرف أن السبب كان في برنامج التحكم بالطائرة، وقد أسفر عن هذا الحادث مقتل جميع الركّاب البالغ عددهم 189 شخصًا. (وقد حدثت واقعة مشابهة بالرحلة 302، الخطوط الجوية الإثيوبية عام 2019).
الصندوق الأسود ليس حكرًا على الطائرات
لا يقتصر وجود الصندوق الأسود على الطائرات فقط، حيث يستخدم في العديد من المركبات الأخرى مثل السيارات والشاحنات، وفي السيارات مثلاً، يُشار إلى هذه الصناديق بالـ EDRs أو "مُسجّلات بيانات الحوادث"، وتقوم بجمع البيانات الحاسمة مثل سرعة السيارة، وقوة التسارع، وغيرهما من المعلومات اللازمة لتحديد أسباب الحوادث.
الشيء نفسه -تقريبًا- ينطبق على الشاحنات، إذ يُستخدم فيها الصندوق الأسود لمراقبة أداء المحرك واستخلاص البيانات والمعلومات المحورية، مثل: معدل استهلاك الوقود، ودرجة الحرارة، والأداء الميكانيكي، إلخ، من المؤشرات التي تساعد على تشخيص المشكلات وتحسين ممارسات الصيانة والسلامة العامة.
وأخيرًا يتضح أن الصندوق الأسود هو أداة لا غنى عنها في عالم الطيران والنقل بشكلٍ عام، إذ يكشف الكثير من الأسرار، ويحافظ على حقوق الركاب، ويضمن للأهل حقهم في معرفة الحقيقة حول الحوادث، والأهم من ذلك يمنح الفرصة للاستفادة من الحوادث، وإجراء التطوير وسد الثغرات بما ينقذ الكثير من الأرواح، ويحسن من النقل والملاحة حول العالم.