أجهزة كشف الكذب.. هل تُخبر الحقيقة حقًا؟
تُستخدم أجهزة كشف الكذب على نطاقٍ واسع ولأغراض مُتعددة، من قبل الحكومات والوكالات الأمنية وحتى في التحقيقات الجنائية. ولكن هل تُمكن هذه الأجهزة حقًا من كشف الكذب بدقة؟
الجدل حول مصداقية أجهزة كشف الكذب
تستخدم الحكومة الفيدرالية الأمريكية أجهزة كشف الكذب في عملية التوظيف والتحقيقات الأمنية، وتُستخدم هذه الأجهزة أيضًا من قبل وكالات مثل إدارة مكافحة المخدرات (DEA)، ووكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) على حوالي 70 ألف شخصٍ سنويًا.
في الأفلام والمسلسلات، نرى استخدام أجهزة كشف الكذب بكثرة في التحقيقات مع المتهمين، حتى أن بعض القُضاة يعتمدون على نتائج هذه الأجهزة في إصدار الأحكام.
لكن هل يمكن الاعتماد على هذه الأجهزة في تقرير مصير إنسان؟
ما قبل أجهزة كشف الكذب
منذ القدم، سعى الإنسان إلى ابتكار طرق لكشف الكذب، باحثًا عن أدوات تُعين على تمييز الصادق من الكاذب، ورغم تنوع هذه الأساليب، إلا أنها جميعها تُبنى على مبدأ واحد: الكذب يُسبب ردود فعلٍ فسيولوجيةً مميزة يمكن قياسها. فما هي بعض الأساليب القديمة لكشف الكذب؟
اختبار الأرز (الهند)
في الهند القديمة، كان يُطلب من المتهم مضغ حبات أرز ثم يبصقها، إذا خرجت الحبوب جافة، فهذا يدل على الكذب، بينما إذا كانت رطبة، فهذا دليل على الصدق.
يُفترض أن الكذب يُسبب جفاف الفم، وبالتالي يُقلل من إفراز اللعاب، ويُعد هذا الاختبار بدائيًا وافتراضيًا، ولا يعتمد على أي أساس علمي.
اختبار التيار الكهربائي (ألمانيا)
في عام 1897، اخترع الألماني "جورج ستيكر - Georg Sticker" جهازًا لكشف الكذب يعتمد على التيار الكهربائي. كان يُوصل تيارًا كهربائيًا ضعيفًا بجلد الشخص المشتبه به.
يُفترض أن الكذب يُسبب التوتر، وبالتالي يُحفز الغدد العرقية، ما يجعل الجسم يُوصل الكهرباء بشكلٍ أفضل، وواجه هذا الاختبار انتقاداتٍ واسعةً لعدم دقته وخطورته على صحة الإنسان.
اختبار ضغط الدم (إيطاليا)
في القرن التاسع عشر، اخترع الطبيب الإيطالي "تشيزري لومبروزو - Cesare Lombrosso" جهازًا لكشف الكذب يعتمد على قياس ضغط الدم، ويعتمد على أن الكذب يُسبب ارتفاعًا في ضغط الدم بسبب التوتر، وواجه هذا الاختبار أيضًا انتقاداتٍ لعدم دقته، حيث يمكن أن تتأثر قياسات ضغط الدم بعواملٍ أخرى غير الكذب.
"البوليغراف".. جهاز كشف الكذب كما نعرفه اليوم
خلال العقود الأولى من القرن العشرين، شهد العالم ثورةً في مجال كشف الكذب، مع تطوير إصداراتٍ مختلفة من جهاز "البوليغراف" الشهير.
ففي عام 1921، اخترع عالم النفس الأمريكي "جون أوغسطس لارسون" جهازًا أسماه "مُخطط القلب والرئتين النفسي - cardio-pneumo-psychograph". اعتمد هذا الجهاز على قياس مؤشرات ضغط الدم والتنفس وتغير معدلات النبض، وكان الهدف من الجهاز هو رصد التغيرات الفسيولوجية التي تحدث عند الكذب، مثل التوتر وزيادة إفراز العرق.
التطور والاستخدام
في عام 1923، تم استخدام جهاز لارسون لأول مرة في محاكمة جنائية، ومع مرور الوقت، تطورت تقنية البوليغراف وأصبحت أكثر تعقيدًا، وأصبح الجهاز قادرًا على قياس المزيد من المؤشرات الفسيولوجية، مثل استجابة الجلد للكهرباء.
انتشر استخدام البوليغراف بشكلٍ واسع لدى وكالات إنفاذ القانون في مختلف أنحاء العالم.
الجدل حول الدقة
مع ازدياد شعبية البوليغراف، بدأت تساؤلات حول دقته في كشف الكذب، وأُجريت العديد من الدراسات حول هذا الموضوع، وتوصلت نتائجها إلى أن دقة البوليغراف ليست مضمونة، وأظهرت بعض الدراسات أن دقة الجهاز لا تختلف عن الصدفة أو الحظ.
اقرأ أيضًا: هل يحلم المكفوفون؟ وكيف تكون رؤاهم؟
جهاز كشف "التوتر"
خلال الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، سعى المحققون إلى تحسين كفاءة جهاز كشف الكذب (البوليغراف) دون الحاجة إلى تعديل الجهاز نفسه. فما هي الطريقة التي ابتكروها؟
اختبار الأسئلة المتباينة
كان المحققون يطرحون على المشتبه به سؤالين: سؤالًا مُباشرًا متعلقًا بالجريمة، وسؤالًا آخر بعيدًا عنها. على سبيل المثال، قد يسأل المحقق المشتبه به: "هل سرقت المال؟"، وفي الوقت نفسه تقريبًا يسأله عما إذا كان قد كذب على مُحصّل الضرائب.
يُفترض أن مستويات التوتر لدى الشخص الصادق ستكون متشابهةً في كلا السؤالين، أما في حالة الجاني، فمستويات التوتر ستختلف، حيث ستكون أعلى عند الكذب على السؤال المتعلق بالجريمة وأقل عند الإجابة على السؤال البعيد عن القضية.
محدودية هذه الطريقة
مع ازدياد انتشار تقنية اختبار الأسئلة المتباينة، بدأ بعض الأشخاص بالتساؤل عن موثوقيتها. هل يمكن للمجرمين التحايل على الجهاز من خلال معرفة طريقة عمله؟ ماذا عن الأبرياء الذين قد يعانون من حالات طبية تُسبب لهم التوتر أو يشعرون بالخوف الشديد من الموقف؟
وجهة نظر علمية
يؤكد عالم النفس "ليونارد ساكس" من جامعة برانديز على عدم وجود دليلٍ علميٍ يُثبت أن المؤشرات الفسيولوجية التي يقيسها جهاز كشف الكذب (مثل معدل ضربات القلب، وضغط الدم، والتعرق، والتنفس) تُشير إلى الصدق أو الكذب.
يشير ساكس إلى أن هذه المؤشرات مرتبطة ببساطة بالخوف والقلق، وأن الناس قد يشعرون بالقلق عند قول الحقيقة، بينما قد لا يشعر البعض بالقلق عند الكذب، ويُضيف ساكس أن قدرة الشخص على التحكم بتوتره تزداد مع تكرار الكذب.
باختصار، لا يمكن الاعتماد على أجهزة كشف الكذب بشكلٍ مُطلقٍ في كشف الحقيقة، ويمكن اعتبارها مؤشراتٍ للتنفّر والقلق، ولكن لا يمكن الجزم من خلالها ما إذا كان الشخص يكذب أم لا.
لماذا لا يزال جهاز كشف الكذب يُستخدم على الرغم من عدم دقته؟
كما أوضحنا سابقًا، لا تتمتع أجهزة كشف الكذب بدقةٍ كافية لكشف الكذب بشكلٍ موثوق. ولكن، على الرغم من ذلك، لا تزال بعض الجهات تُستخدم هذه الأجهزة. فما هي أسباب ذلك؟
في الحقيقة تم حظر استخدام أجهزة كشف الكذب على موظفي القطاع الخاص في عام 1988.
وفي عام 1998، لم تعد المحاكم الفيدرالية تعترف بنتائج هذه الأجهزة كدليل لِما بها من ثغرات، ناهيك عن أن بعض أصحاب العمل ومسؤولي إنفاذ القانون قد يستغلونها لصالحهم.
ومع ذلك لا تزال بعض الجهات تستخدم هذه الأجهزة، ولعل السبب في ذلك، كما يقول عالم النفس ليونارد ساكس، وكما يقول المنطق: إن المُشتبه به عندما يُوضع تحت قبضة هذا الجهاز فإنه قد يعترف، لا سيما من هول الموقف أو إذا كان جاهلًا بآلية عمل أجهزة البوليغراف.
مستقبل "كشف الكذب"
لم تقتصر تقنيات كشف الكذب على جهاز البوليغراف فقط، بل تطورت لتشمل تقنياتٍ حديثةٍ أخرى، منها تحليل الصوت (تحليل الإجهاد الصوتي - Voice stress analysis) الذي يعتمد على رصد التغيرات في نبرة الصوت ودرجته لتحديد ما إذا كان الشخص يكذب أم لا. وتحليل وتصوير الدماغ brain analysis باستخدام تقنيات مثل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) لقياس النشاط الدماغي أثناء الكذب، والتعرف على الوجه بافتراض أن الكذب يُسبب تغيراتٍ في تعبيرات الوجه، مثل micro-expressions، وهي تعبيراتٍ سريعةٍ جدًا يصعب على الشخص التحكم بها.
ومع تطور الذكاء الاصطناعي، قد نشهد ظهور تقنياتٍ جديدةٍ لكشف الكذب أكثر دقةً وفعالية. ولكن، لا تزال هناك مخاوف أخلاقيةٌ حول استخدام هذه التقنيات، مثل إمكانية إساءة استخدامها وانتهاك خصوصية الأفراد.
في الختام، لا تزال رحلة تقنيات كشف الكذب مستمرةً، ومع تطور التكنولوجيا وازدياد فهمنا للسلوك البشري، قد نصل يومًا إلى أجهزةٍ تُمكننا من كشف الكذب بدقةٍ عاليةٍ.