محمد نصار يكتب : نورة
لحظة فارقة عاشتها السينما السعودية في مهرجان "كان" السينمائي، أحد أهم المهرجانات الخمسة الكبار في العالم، حيث حاز فيلم "نورة" للمخرج السعودي توفيق الزايدي تنويهًا خاصًا من لجنة التحكيم، ما يفتح الباب واسعًا أمام حلم السينما السعودية في المضي قدمًا وبخطى واثقة على السجاد الأحمر، جنبًا إلى جنب مع نجوم العالم و"شيوخ الكار" في صناعة السينما، القادمين من مؤسسات عريقة ولديهم تاريخ طويل وأمجاد سينمائية لا تحصى.
الفريق السينمائي السعودي ذهب إلى مهرجان "كان" بمنتج فني محلي مصنوع باحترافية عالية، يحمل هوية سعودية من الألف إلى الياء: النص والإخراج والإنتاج والممثلين وأيضًا مكان التصوير حيث تم اختيار "العلا" موطنًا لحكاية الفيلم لتضيف للمشهد لوحات بصرية فائقة الجمال، ترسم تفاصيل حياة الشخصيات في قرية نائية في الصحراء، وتلعب الكاميرا على التناقض داخل المشهد ما بين قسوة الطبيعة ورقة المشاعر ورهافة الأحاسيس التي يعيشها أبطال الفيلم.
المسابقة التي جرى اختيار فيلم "نورة" للمشاركة بها في المهرجان حملت اسم نظرة ما (Un Certain Regard)، وهي مخصصة للأفلام "الجريئة والمختلفة"، ومصممة أيضًا لتعكس تطور السينما المعاصرة وحساسية المخرجين تجاه القضايا الراهنة. وفيلم "نورة" دخل المنافسة مع 17 فيلمًا، كل منها قادم من دولة لها تاريخ طويل وعريق في صناعة السينما، وهذا بحد ذاته اعتراف بأهمية ما وصلت اليه السينما السعودية التي لم يمض سوى سنوات معدودة على انطلاقتها الجديدة.
اقرأ أيضًا: محمد نصار يكتب : (بنات ألفة) وحلم الأوسكار
ومع ذلك، لم يعز النص الذي كتبه الزايدي الجرأة في الطرح ولا الحساسية في التقاط ما يجري اليوم في المملكة من تغيير وانفتاح وتقديمه من خلال سرد حكاية تدور أحداثها في تسعينيات القرن الماضي في قرية بسيطة ونائية، الفتاة "نورة" التي تجسد دورها الممثلة السعودية ماريا بحراوي تعبر عن التوق إلى فضاءات أرحب وأبعد من حدود القرية، ومع وصول المعلم الجديد إلى القرية "نادر" الذى يجسد دوره الممثل السعودي يعقوب الفرحان تنفتح أمام نورة نوافذ جديدة من الأمل لتعقب شغفها بالرسم وتحقيق أحلامها ورغباتها في الانتقال إلى حداثة المدينة، وبالمقابل توقظ "نورة" لدى المعلم موهبته المدفونة وتدفعه إلى إعادة تشكيل علاقته باللوحة والفن. نعيش جدلية التوق إلى التغيير والرغبة في الانعتاق من التقاليد والعادات التي عفا عليها الزمن، والخروج من الأماكن المغلقة إلى فضاءات أرحب. حقًا لقد جسدت شخصية نورة أحلام الجيل الجديد والرغبة في تحقيق الذات والدخول في الحداثة، والبحث عن مساحات جديدة للعيش تحلق فيها الروح وتسمو وتخرج أجمل ما لديها.
هذه المرة الأولى التي تشارك فيها السينما السعودية في مسابقة مهرجان كان، بعد غياب 76 دورة ذهب الفريق السينمائي السعودي إلى الدورة 77 ليعيش مشاعر غامرة من الفرح.
بطلة الفيلم الممثلة الشابة ماريا البحراوي لفتت بشكل عفوي إلى أمر في غاية الأهمية، حيث ربطت فرحها بمشهد رؤية جمهور المهرجان في صالة عرض فيلم نورة وهم "جالسين يشاهدوا قصصنا ويسمعوا بها، كما نحن شاهدنا قصصهم، والحين جاء دورنا نحن نطلع قصصنا ونريهم اياها"، نعم هذا ما يلفت إليه نقاد السينما أن الحكايا المحلية، ابنة بيئتها وخصوصيتها والمشغولة باحترافية عالية هي الطريق إلى جذب انتباه العالم.
اليوم أتى نجاح فيلم نورة " ليقص الشريط" - بحسب تعبير الزايدي- وليؤكد لكل صاحب مشروع فني مبدع بأن لا شيء مستحيل، بل إنه الوقت المناسب للاشتغال على الفرص في بيئة محفزة على الإبداع وداعمة لمشاريع تعبر عن روح السينما المعاصرة المنفتحة على الجديد والمغاير. السعودية لا تزال أرضًا بكرًا لحكايا سينمائية لم ترو بعد، في بيئة طموحة حيث تستمر مؤسسة البحر الأحمر السينمائي في دعم وتمكين رواية القصص والمواهب السينمائية ليس فقط في المملكة بل في المنطقة والعالم، ما يجعل أحلام المبدعين وعشاق السينما وصناعها أقرب من أي وقت مضى إلى تحقيق أحلامهم ومشاريعهم.