حروب الرقائق الإلكترونية.. إلى أين؟
"قد تكون أشباه الموصلات في القرن الحادي والعشرين مثل النفط في القرن العشرين"، جملة قالها "لورانس إتش سامرز"، أستاذ الاقتصاد ووزير الخزانة الأمريكي خلال الفترة الممتدة بين عامي 1999 و2001، وهي الكلمات التي عبّرت بجلاء عن تلك الحروب الخفية التي اشتعلت منذ سنوات - وربما عقود - بين القوى العظمى حول البنية التحتية للتقنيات وتصنيعها، وفي المقدمة منها الرقائق الإلكترونية، التي تصدرت بدورها المشهد منذ إغلاقات جائحة كورونا، عندما تعطلت عجلة الإنتاج وسلاسل التوريد، مرورًا بتوتر الأوضاع في خليج تايوان، وصولاً إلى ما أثاره إعلان الصين الأخير حول إنتاج إحدى أكثر هذه الرقائق تقدمًا.
فقد تفاجأ العالم خلال الأسابيع القليلة الماضية بإعلان شركة "هواوي تكنولوجيز" الصينية، تصنيعها محليًّا لأول معالج متطور يستخدم تقنية 7 نانومتر الأكثر تقدمًا، لتشغيل أحدث هواتفها الذكية Mate 60 Pro ، متجاوزة بذلك العقوبات الأمريكية المفروضة عليها، وهو الأمر الذي أحدث - حسب بلومبيرغ - صدمة لدى صانعي القرار في واشنطن، بعد أن أحرزت بكين ذلك التقدم المدهش رغم الجهود الأمريكية الكبيرة لاحتوائها في مجال التكنولوجيا المتقدمة، ما يشير إلى إحراز الصين تقدمًا غير مسبوق في محاولاتها بناء نظام إنتاج محلي يحقق لها الاكتفاء الذاتي في صناعة الرقائق وأشباه الموصلات، مثلما يثير تساؤلات حول مدى فعالية عقوبات واشنطن، المدفوعة بمخاوفها من إمكانية تعزيز القدرات العسكرية الصينية باستخدام التكنولوجيا الأمريكية، ما سيحقق للتنين الصيني بجانب تفوقه الكمي المعروف، تفوقًا نوعيًا أيضًا.
ما يعني أن الرخاء والريادة والتفوق العسكري الذي تتمتع به الولايات المتحدة الأمريكية مقابل الصين قد صار على المحك، فكل شيء في عالمنا الحديث يعتمد الآن على الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات، بدءًا من الهواتف الذكية وأجهزة الميكروويف، مرورًا بالسيارات ذاتية القيادة والحوسبة المتقدمة وأسواق الأوراق المالية، وصولاً إلى التصنيع العسكري للأسلحة والصواريخ، إذ تدعم هذه الرقائق التكنولوجيا الرقمية الحديثة في كل صورها، ومع ذلك فإن حفنة من الشركات فقط هي القادرة على إنتاجها، أو إنتاج الأدوات الدقيقة اللازمة لتصنيعها، وربما يؤدي أي تحول في السيطرة على هذه الصناعة إلى إعادة تشكيل الأنظمة الاقتصادية والسياسية في العالم.
حروب الرقائق الإلكترونية.. كيف بدأت؟
على مدار العقود الماضية تنبهت القوى العظمى إلى أهمية الاحتفاظ بأسرارها التقنية، لتحقيق التفوق العلمي التكنولوجي الذي تستطيع من خلاله فرض هيمنتها وسطوتها في كل المجالات، مع جني الكثير من الأرباح وتحقيق المزيد من النفوذ، ولذلك فقد اشتعلت الحروب الخفية حول الرقائق الإلكترونية منذ اختراعها في الخمسينيات من القرن المنصرم، حتى طفت على السطح خلال الظروف الأخيرة التي مرّ بها العالم على مدار السنوات الثلاث الماضية، حيث بدا السباق المحموم بين الولايات المتحدة الأمريكية وكل من الصين وروسيا وعدد من الدول المنطلقة في هذا المضمار، ومنها الدول المصنعة لمعدات الإنتاج، والدول المصدرة لمستلزماته.
اقرأ أيضًا:بعد نتائج الجولة الأولى.. هل نجحت ثريدز في إزاحة تويتر عن عرشه؟
وحسب صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية، فقد حفّزت العقوبات الأمريكية شركات التكنولوجيا الصينية على تسريع البحث عن البدائل، ومن ثم فقد طوّرت بمساعدة ذكاء اصطناعي متقدم صناعتها، من دون الاعتماد على ما وصلت إليه الرقائق الأمريكية، بينما كانت الولايات المتحدة تصوغ قانون الرقائق الإلكترونية والعلوم، في محاولة منها لإنعاش هذا القطاع من خلال تقديم حوافز لصانعي الرقائق، بعد أن تأثر الإنتاج التايواني المهيمن عالميًّا، نتيجة للأحداث الأخيرة التي مر بها العالم، وتطورات الأوضاع المرشحة للتفجر في أي وقت.
بينما استمرت المعارك المرتبطة بالملف نفسه، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر ذلك التحقيق الذي أطلقته مفوضية التجارة الأمريكية، مستهدفًا شركة "أنوسينيس Innoscience" الصينية الرائدة في مجال تكنولوجيا الرقائق الإلكترونية، حيث اتهمتها المفوضية بالسطو على 4 براءات اختراع، حسب بلاغ تقدمت به شركة "أفشنت باور كونفيشن Efficient Power Conversion (EPC) الأمريكية، ادعت فيه أن الشركة الصينية تحايلت للسطو على تقنية ترانزستور GaN، وهي التقنية التي ظهرت في أشباه الموصلات كبديل للسيليكون لتوفر كفاءة أكبر بأحجام أصغر.
وحسب "EPC" فإن مهندسين وعملاء تابعين للشركة الصينية تسللوا إلى وظائف داخل مواقع سرية بالشركة، وحصلوا بحكم وظائفهم على هذه التكنولوجيا، إذ وصل أحد هؤلاء لمنصب الرئيس التنفيذي للتكنولوجيا في الشركة!
وبعيدًا عن مدى صدق الرواية المطروحة، فقد استخدمت الولايات المتحدة - حسب الخبراء - سلاح الملكية الفكرية بجانب العقوبات والقيود المفروضة لفرملة طموح التنين الصيني في هذا المجال، كمنع تصدير التقنيات إليها، مع منعها من استخدام الخدمات المعلوماتية، في وقت تقدر فيه واشنطن خسائر شركاتها بسبب انتهاك براءات الاختراع بقيمة تصل إلى 600 مليار دولار.
ورغم ذلك يبدو أن محاولاتها لم تؤت أكلها حتى هذه اللحظة، رغم استهدافها كبرى الشركات الصينية العاملة في قطاع الرقائق الإلكترونية، إذ تحتكر بعض الشركات الصينية أنواعًا من هذه الرقائق الأكثر طلبًا حول العالم، بينما صارت المنافسة بين الشركات الأمريكية والصينية تميل لصالح الأخيرة، خاصة فيما يتعلق بالأسعار المنخفضة لمنتجات الشركات الصينية مقارنة بالأمريكية، ما مكّنها من ضمان حصص كبيرة في السوق العالمية، وهو ما صعّد بطبيعة الحال من وقع الأحداث، خاصة مع خروج بعض مسؤولي الإدارة الأمريكية ليعلنوا أن صبر شركاتهم قد بدأ ينفد، ما ينبئ باستمرار الحروب، التي يعتقد البعض أنها ستحدد القوة الأعظم في العالم.
سلام بارد وعقوبات ساخنة!
على الرغم من المبادرات الدبلوماسية، فإنّ المنافسة في التكنولوجيا بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين لا تُظهر أي علامة على التوقف.
وعلى سبيل المثال عندما توجهت وزيرة الخزانة الأمريكية "جانيت يلين" إلى بكين في محاولة لتوطيد العلاقات الاقتصادية، توقع الجميع أن يكون على رأس جدول أعمالها كيفية التعامل مع حرب الرقائق الإلكترونية المتنامية بين الطرفين، لكنّ النتائج العكسية سرعان ما ظهرت بفرض الصين قيودًا على تصدير معدنين، تقول الولايات المتحدة إنهما ضروريان لإنتاج أشباه الموصلات وغيرها من التكنولوجيا المتقدمة، بينما ردّت الصحف الصينية وعلى رأسها صحيفة "جلوبال تايمز" الرسمية قائلة إنه لا يوجد سبب يدعو الصين إلى الاستمرار في استنفاد مواردها المعدنية، ليتم منعها من متابعة التطوير التكنولوجي.
اقرأ أيضًا:ChatGPT.. هل نثق به في الوصول إلى نظام غذائي مناسب؟
وكما هو معلن فقد وجه الرئيس الصيني جيش بلاده بأن يصبح جيشًا عالميًّا بحلول عام 2049، ويتضمن جزءًا كبيرًا من التطوير الجاري أسلحة ذاتية التشغيل وصواريخ فرط صوتية، مع الاستخدام الموسع للذكاء الاصطناعي بما في ذلك الحرب الإلكترونية، وغيرها من التقنيات المتقدمة، لكنّ الصناعة الصينية لم تكن قادرة على إنتاج كل ما تحتاج إليه من أشباه الموصلات الأكثر تقدمًا التي تعمل على تشغيل مثل هذه التقنيات، لذا اعتمدت على استيرادها من الخارج، حتى فرضت الإدارة الأمريكية خلال أكتوبر الماضي مجموعة من الضوابط لضمان عدم حصول الصين إلى أشباه الموصلات ذات المنشأ الأمريكي والمنتجات المرتبطة بها.
وقد عززت الولايات المتحدة هذه الضوابط في يناير الماضي من خلال إقناع هولندا واليابان بالحد من صادرات التكنولوجيا المستخدمة في إنتاج الرقائق، بصفتهما موطن لتقنيات تصنيع الرقائق الأكثر تقدمًا في العالم، بما في ذلك شركة "ASML" الهولندية، وهي الوحيدة التي يمكنها توفير أحدث جيل من المعدات المستخدمة لحفر الدوائر الدقيقة على رقائق السيليكون، حيث قررت هولندا تنفيذ ضوابط لتصدير هذه التكنولوجيا بحجة حماية الأمن القومي، وهو قرار جاء - بحسب الصين - كنتيجة للضغوط الأمريكية.
السيناريو نفسه حدث بشكل أو بآخر في المملكة المتحدة في أغسطس من العام الماضي، إذ طفى على السطح آنذاك المبرر نفسه، عندما ناقشت حكومتها صفقة شركة Nexperia Holding BV الصينية للاستحواذ على شركة Newport Wafer Fab، وكيفية الحفاظ على نفوذ بكين تحت السيطرة، وبعد أيام فقط من حظر بيع مصنع آخر للرقائق الإلكترونية في ألمانيا للسبب ذاته، حيث منعت وزارة الاقتصاد هناك شركة Elmos Semiconductor، وهي شركة لتصنيع شرائح السيارات، من بيع مصنعها في مدينة دورتموند إلى شركة Silex، وهي شركة سويدية تابعة لشركة Sai Microelectronics الصينية، ما يدل على حجم الضغوط التي تتعرض لها أوروبا ومسئوليها للتحرك، إذ يواجهون دعوات أمريكية لإبعاد القطاعات الرئيسة عن السيطرة الصينية.
هنا تعالت التصريحات الصينية حول الدول التي تقوم بإكراه وحث دول أخرى على اتخاذ إجراءات تقييد الصادرات ضد الصين، التي أعلنت بدورها أنها ستتخذ جميع التدابير المضادة اللازمة لحماية حقوقها ومصالحها المشروعة، حسب تصريحات المتحدث باسم خارجيتها، إذ تتهم القيادة الصينية في أعلى مستوياتها وعلى لسان رئيسها، الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة بأنها تحاول احتواء وقمع الصين، بينما أطلق دعوته للشركات الخاصة الصينية لـ "تقاتل" إلى جانب الدولة، وهو ما أعطى زخمًا لمعركة يبدو أنها لن تتوقف بسهولة.
وبالتأكيد فإن كل ما سبق عرّض الشركات الصينية للضغط، خاصة مع انخفاض واردات الرقائق خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الجاري بنسبة تصل إلى 30% تقريبًا، مقارنة بالفترة نفسها من عام 2022، ولكنها رغم ذلك لا تزال حريصة على الوصول إلى الرقائق الإلكترونية المتطورة بأي وسيلة، ربما تلبية لنداء المعركة المتصاعد ضد سياسة الاحتواء والقمع، لتستمر حروب الرقائق الإلكترونية كما أطلق عليها "كريس ميلر" في كتابه "Chip War" حتى إعلان المنتصر النهائي الذي سيتسيد المستقبل.