د. محمد النغيمش يكتب: العلم.. وحيرة تعلم مهارة الإنصات
ما زال العلماء في حيرة تجاه الكيفية المُثلى لتعلم مهارة الإنصات.
فهناك العديد من الدراسات التي تحاول أن تفهم هذه المهارة الجوهرية في مهارات التواصل الأربع (الاستماع، والتحدث، والقراءة والكتابة)، وذلك لأن الإنصات هو أصل تعلم التحدث والقراءة والكتابة، وهي قاعدة التواصل البشرية الأساسية، وبها يحدث سوء الفهم، والأخطاء، وغيرها، ومع ذلك لا تعطى حقها من التعلم والتدريب.
من تلك الأبحاث الشمولية (ميتا) أو ما أسميها بـ"أمهات الدراسات" Meta-Analysis للباحث برينكس وزملائه بعنوان "تعليمات الإنصات: دراسة شمولية لنتائج 24 دراسة وصفية"، إذ جمع العلماء أبحاثًا منتقاة بناء على أسس علمية منها أن تكون دراسات تجريبية ومرتبطة بتعليمات أو إرشادات الإنصات تحديدًا (instruction)، فاتضح لهم أن الأبحاث تظهر نتائج متعارضة، فمنها مثلاً أن الدراسات لم تتوصل إلى نتيجة حاسمة بشأن ما إذا كان الإنصات يمكن تدريسه من عدمه، بمعنى أن هناك محاولات لكن الدراسات لم تقدم شيئًا قاطعًا.
وأظهرت الدراسة العديد من التكنيكات لتدريس الإنصات دارت حول ثلاث فئات رئيسة: وهي الأسلوب المباشر في التدريس، وغير المباشر (التقليدي)، والنهج المباشر (المبرمج).
وهذا يعني أن تدريس الإنصات لا يقوم على أسلوب أو منهج واحد فهناك طرق عديدة لتعليمه للناس.
ليس هذا فحسب بل إن فعالية كل أسلوب في تدريس الإنصات تفاوتت تفاوتًا ملحوظًا.
ونفهم من هذا أن تدريس هذه المهارة أو التدرب عليها يحتاج إلى طرق عدة لتعزيزها في المتلقي أو اكتسابها بشكل أفضل، فلا نعتمد على أسلوب واحد.
وهذا ما يدفعنا في الدورات التدريبية إلى تنويع طرق إيصال المعلومة فمنها ما هو مباشر ومكثف من معلومات، ومنها ما هو غير مباشر كأسلوب القصص، والفيديوهات، والأمثلة الصادمة، والمشاهد الحقيقية التي تحدث في التلفزيونات مثل الملاسنات، والمقاطعات، وإتيكيت (أصول) التواصل وتبادل الحوار والإصغاء لتفاصيل الكلام وثنايا ما يريد إيصاله المتحدث.
اقرأ أيضًا: د. محمد النغيمش يكتب لـ«الرجل»:صيام الأذن..!
وفي ما يتعلق بالمدة، لا يبدو أن هناك مدة زمنية محددة مثالية، ما إن يجتازها المرء يتقن مهارة الإنصات.
وبالرغم من ذلك فإن طول مدة إرشادات أو تعليم الإنصات يؤدي إلى "نتائج إيجابية" positive results.
فمن الجيد أن يطيل الإنسان مدة تطوير قدراته السمعية.
نستطيع القول إن تلك الدراسة التي قامت على منهج إحصائي دقيق يدمج بيانات ونتائج دراسات سابقة بغية الوصول إلى استنتاجات إحصائية دقيقة لتلك "الدراسة الأم" (الشمولية)، قد توصلت إلى حقيقة مهمة وهي أن الإنصات هو "ظاهرة متعددة الأبعاد" multidimensional phenomena كما يحلو للعلماء تسميتها، إذ تتداخل فيها الاختصاصات والعوامل مؤثرة متعددة.
وربما هذا ما يفسر أن أبحاث الإنصات تحتضنها دوريات محكمة في شتى التخصصات، فتجدها تارة منشورة في الأدبيات الإدارية، وتارة في علم النفس واللغويات، وتارة في الإعلام والتربية والتعليم وغيرها.
فهي بحق مهارة متشعبة ومعقدة.
فيدخل فيها شيء من المران أو التدريب، والقدرات الذهنية، والصحة النفسية، أو قليل من الجينات هو ما يجعل صاحبها محظوظًا لأن الله تعالى "وهبه" مهارة حسن الإصغاء للناس منذ نعومة أظفاره.
فلا يتعب في تعلمها أو اكتسابها.
وهناك من يحتاج إلى جهد جهيد لتعلمها ثم يفاجأ مثلاً أن لديه مشكلة خارجة عن إرادته في التركيز مثل تشتت الانتباه وغيره، فكلما أنصت بكل جوارحه وتدرب وأعمل ذهنه للتركيز تسلل إليه التشتت الذهني؛ فلا يستطيع أن يصب جل تركيزه في ما يقوله محدثه، وربما لا يتذكر تفاصيل الكلام.
أما الخبر السار في الموضوع، فأنه بإمكان المرء "اكتساب" مهارة الإنصات، غير أنه ربما يحتاج إلى طرق عديدة كالممارسة والتجربة والخطأ، ولا يعتمد فقط التلقين المباشر كالقراءة المعلوماتية فقط.
فلا بُد من دورة تدريبية مطولة يقدمها محترفون لعلها تسهم في اكتساب المشاركين، أعظم مهارة في التواصل، وهي "فضيلة الإنصات المنسية"، كما أسميها في سلسلة كتبي في هذا المجال.