محمد نصار يكتب: كيف نقلق بنجاح؟
قد يبدو لك العنوان متناقضًا للوهلة الأولى، فهل يمكن أن أقلق وبنجاح؟! نعم فطالما أن القلق واقع لا محال، فما رأيك أن تنجح بالتحكم به قبل أن يتحكم بك.
القلق ليس منقصة أو عيبًا فهو آلية طبيعية يلجأ إليها العقل البشري للإحاطة بالمخاطر والاحتمالات التي تكتنف استحقاقًا ننتظر وقوعه قريبًا كان أم بعيدًا، فأما هذا فقلق في حدوده الطبيعية الصحية، وأما ذلك القلق الذي يجعلك أسيرًا لمخاوفك في النهار مستسلمًا للأرق أو الحبوب المنومة في الليل فهو ما أحكي عنه.
سأحدثكم عن خير شيء تفعله لتقطع دابر هذا النوع من القلق، من خلال وصفة تؤكد تجربتي الشخصية أنها سحرية.
يروي ديل كارنيجي في كتابه الشهير "دع القلق وابدأ الحياة" أن صديقًا له كان يعيش دوامة يومية من القلق والتفكير بسبب ظروف مهنية ألمت به، كان القلق ينهشه، وفي يوم طلب منه ابنه الصغير أن يصنع له سيارة من الأسلاك الحديدية، نَهر الأب ابنه، فمزاجه لا يسمح، ألح الطفل، وتحت وقع إلحاحه رضخ الأب وانهمك لثلاث ساعات يصنع تلك السيارة، يقول كانت أجمل ثلاث ساعات أعيشها منذ أن ألمت بي الأزمة، كانت جرعة مهدئة، كففت خلالها كليًّا عن اجترار قلقي وأفكاري وانصرف تركيزي نحو تلك السيارة.
لذا يبدو أن أفضل طريقة لتصرف عنك القلق المفرط والتفكير الزائد دون جدوى هو أن لا يملك عقلك وقتًا ليقلق.
اقرأ أيضًا:محمد نصار يكتب: «اجمع الفُتات»
وهل تعلمون من هم أكثر من يتقنون ذلك؟ إنهم رجال الأعمال والتنفيذيون المحترفون فتجدهم يمارسون أنواعًا معينة من الرياضات دون غيرها، خذ عندك الجولف.. فهل تساءلت لماذا يقبل الأثرياء والتنفيذيون عليها؟ إنها إلى جانب أنها فرصة اجتماعية وفسحة سياحية، ورياضة نخبوية هي أيضًا بحاجة إلى تركيز ونظرة استراتيجية تجعل لاعبها ينفصل عن واقعه ليعيش واقعًا آخر.
قبل أيام كنت أناقش فكرة مقالي هذا مع صديق فقال مبتسمًا: الآن عرفت لماذا كان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب يلعب الجولف في لحظة إعلان نتائج الانتخابات الأمريكية التي أخرجته من البيت الأبيض.
هوايات أخرى لا تستغرب أن يعشقها مدير تنفيذي كبير كالبستنة مثلاً، وكمثال: يقضي مدير لشركة كبيرة وقت فراغه على قلته في مزرعته منهمكًا في تفاصيل عديدة.
يقول "إنها في الحقيقة إجازة للعقل من متاهات الحياة والالتزامات، هذا هو المكان الوحيد الذي أكفّ فيه عن التفكير بما فات وما هو آت، ألا يستحق العقل هذه الفسحة".
حقًّا لا شيء يثقل اللحظات كالقلق، فهو لا يصدع الرأس فقط وإنما ينتقل إلى أجزاء أخرى من الجسم تباعًا، فبعد رأسك ستشعر به في معدتك.
وكما يقول جوزيف مونتاجي مؤلف "إضرابات المعدة العصبية": "سبب قرحة المعدة ليس ما تأكله وإنما ما يأكلك"، فإلى جانب ما تأكله من طعام راقب ما يأكلك من أفكار.
ألا تتفق معي أن نسبة كبيرة من أفكار القلق المزمن التي تعترينا ونقلبها في كل الاتجاهات لا تقدم أي حلول حيال ما يشغل بالنا وإنما تصبح ضجيجًا وطنينًا من الأجدى الإسراع في التخلص منه.
اقرأ أيضًا:محمد نصار يكتب: هوس المقارنة
سأحدثكم عن تجربتي الشخصية. أنا لا أتخيل ليلتي بلا جهاز القارئ الإلكتروني، لا أتركه حتى يتركني بعد أن تخور قواي وأغط في نوم عميق، أذكر أني كنت أحتاج إلى 30 دقيقة حتى أنام لكنها أحيانًا كانت تمتد لساعات ولك أن تتخيل ما يداهمني من أفكار، لكني بحكم العادة أصبحت كلما اجتاحني القلق والتفكير أقتله بالقراءة وبتركيز.
في سبتمبر 2021 نشرت جمعية علم النفس الأمريكية بحثًا علميًّا ذكرت فيه أن وجود فراغ في وقتك مفيد للصحة النفسية، لكنها أشارت إلى أن الفراغ إذا وصل إلى خمس ساعات في اليوم فسينعكس على جودة حياتك، لأنه يفتح الباب واسعًا للتفكير المفرط الذي لا بد أن يتحول إلى قلق، وما الذي يدمر جودة الحياة أكثر من ضجيج رأس لا يهدأ ولا يتوقف عن استدعاء أفكار من الماضي أو رسم سيناريوهات لا تنتهي للمستقبل.
لا شيء يعكر الحياة فعلا كالقلق، لا شيء يمتص لحظاتك كضجيج عقلك، فتركيزك الذي يفترض أن تتذوق به الحياة منصرف كليًّا إلى أشياء أخرى وفي الوقت الخطأ، لذا لا بد لك أن تتقن فن القلق بنجاح، وهو للأمانة العلمية عنوان كتاب شهير لعالم النفس الأمريكي ديفيد سيبري how to worry successfully.