محمد النغيمش يكتب:عندما يرتدي القائد ثياب "مدير"
تهتز صورة القائد في أذهان الناس، عندما يتحول إلى "مدير" منشغل بالصغائر اليومية. القائد، في الأصل، هو من ينظر إلى الصورة الكلية والنتيجة النهائية، أما المدير فهو من ينشغل بكيفية الوصول إلى تلك النتيجة، بمتابعة مدى تطبيق فريقه للوائح والقوانين والإجراءات الإدارية بحذافيرها.
لأن القائد المؤثر (التحويلي)، عُرف عنه بعده عن معاملة من حوله بطريقة "شرطية"، أو على طريقة العصا والجزرة كما يفعل القائد التبادلي (المدير). فالقائد لا يشترط مقابلاً لأسلوبه في قيادة من حوله، بل يلهمهم ويحمّسهم ويشجعهم لتحقيق الأهداف، بحضوره وأسلوبه وكلماته، بغضّ النظر عن أدائهم، وليس كما يفعل القائد التبادلي المنشغل في الأداء ومدى مطابقته بالإجراءات.
الناس لديهم "قرون استشعار" قوية - إن جاز التعبير - ويمكنهم أن يلحظوا أي تغير في أسلوب من يقودهم. ولذا هم يكتشفون بسهولة من يتحول من قائد إلى مدير إجرائي بحت، وينسى دوره الأساسي في إدارة دفة السفينة. فما إن يرتدي القائد ثياب المدير حتى ينظر إليه الناس نظرة مختلفة.
في نظرية القيادة التحويلية الشهيرة transformational، وهي موضوع رسالتي في الدكتوراه، شرحت أهمية هذه النظرية التي تعدّ من أبرز وأشهر النظريات وأكثرها عمقاً من ناحية البحث العلمي. إذ تبين بالفعل وجود "قائد تحويلي" يؤثر في من حوله عبر جاذبيته، ودافعيته الإلهامية، واستمالته الذهنية، ومراعاة الحسابات الفردية لمن حوله.
أما القائد التبادلي (أو الإجرائي) transactional، فهو في الواقع أقرب إلى المدير الذي يُسَيِّر اليوميات المتعارف عليها، ويفتقر للتأثير الذي يتحلى به نظيره التحويلي. والسبب كما ذكرنا آنفاً بأنه يعامل من حوله بأسلوب "المكافأة المشروطة"، فضلاً عما يسمى "بالإدارة بالاستثناء" وهي نوعان: الأول، محاولة تصحيحية "إيجابية" يتدخل على إثرها المدير التبادلي فوراً، لحل مشكلة وقع فيها بعض مرؤوسيه، كأن يحيدوا عن اللوائح أو النظم أو القوانين وغيرها (في الإدارات الصغيرة). والثاني، المحاولة "السلبية" انتظار المدير لوقوع من حوله في أخطاء أو انحرافات عن المعايير الموضوعة، ليبدأ بتصحيحها، وعادة ما يحدث ذلك عندما يشرف المدير (التبادلي) على أعداد كبيرة من الموظفين. فهو لا يستطيع أن يتدخل فوراً في كل شيء إلى أن تقع مشكلة، والسبب هو الأعداد الغفيرة التي يحول عددها بين المدير وتدخله الفوري. أما في الحالة (الإيجابية)، فهو من يتدخل طواعية لحل ما يراه مشكلة أو مشروع مشكلة متوقعة.
ولذلك فإن الناس عندما يتعاملون مع قائد (مدير) تبادلي، فإنهم يشعرون بأنهم مراقبون، وأن من يقودهم لا يضع بصمته عليهم أفراداً، عبر التطوير والإلهام، ومردّ ذلك إلى أن جل تفكيره يتمحور حول مبدأ الثواب والعقاب. فالمدير الإجرائي كمن يحمل عدسة مكبّرة يحاول بها تفحّص خطوات من حوله، ومدى قربها أو بعدها من النظم والتعليمات؛ وشتان بين ذلك وأسلوب القائد الملهم.
صحيح أن بعض المرؤوسين يجدون في تصحيح أعمالهم نعمة تقويم الأداء، خاصة أولئك الجدد أو الذين يفتقرون إلى الخبرة، غير أن الناس في نهاية المطاف يحرصون على مصاحبة أو مجالسة من يبثّ في نفوسهم الحماسة، وحيوية النشاط، ويتحول إلى مثال عملي في العمل المتفاني والقيادي بأبهى صوره. فالموظفون، لن يبقوا مرؤوسين طوال الوقت، لأنهم سيجدون أنفسهم يوماً ما في موقع المسؤولية (القيادة). ولأن فاقد الشيء لا يعطيه، فمن الطبيعي أن يشعروا بحاجة إلى قائد ملهم، وليس تمضية حياتهم بصحبة مدير أو قائد تبادلي يبني علاقته على قدر ما يبذله الموظف من جد واجتهاد. وذلك عكس أسلوب القائد التحويلي الذي يشعل في نفوس المقصرين قبل النشيطين شعلة الحماسة، بمجرد مروره في أروقة العمل، إذ تصحبه "هالة الجاذبية" فتشرئبّ إليه أعناق من حوله عن كل حركاته وسكناته وكلماته التشجيعية.
وعليه فإذا ما قرر أحد القياديين خلع ردائه، ليرتدي رداء المديرين ويومياتهم الإجرائية، فليتذكر بأنه سيخسر دوراً حيوياً في إدارة دفة القطاع أو المنظمة والتأثير في الناس. وهذا الدور لا يقلّ أهمية عن دور المدير الذي يعدّ القلب النابض للمؤسسة. ولحسن الحظ، يمكن أن يكون المرء مديراً وقائداً في الوقت نفسه، إذا كان يمارس أبجديات القيادة وتأثيرها في من حوله.