نوبل في الاقتصاد 2020: السعي وراء المزاد المثالي وتجنب لعنة الفائز
في العادة، ومنذ آلاف السنين، يبيع الناس دائمًا الأشياء للمشتري الذي يدفع أعلى سعر، ويشترونها من البائع الذي يقدمها بأقل سعر. حاليًا يتم تداول أشياء بمبالغ فلكية يوميًا في صالات «Auctions - المزادات العلنية»، ليس فقط الأشياء المنزلية واللوحات الفنية والتحف والأثاث، هناك أيضًا البورصات وما يعرض بها من مختلف الأسهم والسندات، فهي تتبع نظام المزاد، كما انتشرت المزادات عبر الإنترنت، فبلغ إجمالي قيمة مبيعات سوق المزادات العالمية عبر الإنترنت حوالي 4071.9 مليون دولار أمريكي خلال العام الماضي 2019.
هل نسيتم مزاد الموزة الفنية المعلقة الشهيرة باسم Comedian؟ تلك الموزة الملصقة على الحائط بشريط لاصق، التي تم اعتبارها كعمل فني من أعمال الفنان الإيطالي «Maurizio Cattelan - مواريزو كاتيلان»، والذي باع منها ثلاث نسخ، الأولى بمبلغ 120 ألف دولار، والثانية بنفس السعر أيضًا، أما الثالثة فبيعت مقابل 150 ألف دولار، ليتم تصنيفها فيما بعد كأغلى موزة في العالم... هكذا هي المزادات يباع فيها الأشياء الثمينة والفريدة والغريبة أيضًا.
في الحقيقة، لقد اكتسبت المزادات أهمية كبيرة في عالمنا اليوم، بداية من صفقات الاندماج والاستحواذ إلى منصة eBay الشهيرة، بعدما خلقت «Online Auctions - المزادات عبر الإنترنت» بشكل فعال سوقًا افتراضيًا عملاقًا حيث يمكن للناس التجمع لشراء وبيع وتداول وفحص السلع.
فمنذ منتصف التسعينيات، يتم استخدام المزادات بشكل متزايد في تخصيص الأصول العامة المعقدة المملوكة للحكومات، مثل: نطاقات الترددات اللاسلكية للهاتف الخلوي والموارد الطبيعية والمعادن والطاقة، لصالح الشركات الخاصة.
نوبل في الاقتصاد لمطورَيْ نظرية المزاد
ومن هنا تحديدًا، شكلت المزادات العلنية بقواعدها الواضحة المكان شديد التخصص الذي قدم فيه الباحثان الاقتصاديان: «Robert Wilson – روبرت ويلسون»، «Paul Milgrom – بول ميلغروم»، الفائزان بجائزة نوبل في العلوم الاقتصادية لعام 2020، جهودهما وراء السعي نحو المزاد المثالي، وتحسين نظرية المزاد واختراعات تنسيقات المزاد الجديد، عبر صياغة أكثر واقعية وحداثة لما يعرف بـ «Auctions Theory - نظرية المزادات»، وذلك كجزء أساسي من «Game theory - نظرية المباريات»، والمعروفة أيضًا باسم «نظرية الألعاب».
فبحسب رأي لجنة نوبل في حيثيات منحها الجائزة لعام 2020: «كان بحثهما الرائد حول المزادات ذا فائدة كبيرة للمشترين والبائعين ودافعي الضرائب والمجتمع ككل»؛ مما ساهم في فهم أفضل للنتائج المختلفة لعطاءات السلع المعقدة وغير التقليدية، وفقًا لقواعد وشكل المزاد العلني المستحدث بفضل جهودهما.
يشتهر الثنائي الاقتصادي دوليًا بأبحاثه في تصميم تنسيقات مبتكرة ومستحدثة في سوق المزاد العلني والتسعير والمفاوضات وغيرها الكثير من الموضوعات المتعلقة بالتنظيم الصناعي واقتصاديات المعلومات، فضلًا عن وقوفه وراء تصميم آليات تخصيص مزادات أماكن مهبط الطائرات في المطارات، وبيع تراخيص نطاقات التردد اللاسلكي للهواتف الخلوية في مجال الاتصالات والإنترنت في الولايات المتحدة.
ما هو المزاد
يمثل المزاد في شكله التقليدي المعروف، حالة مبيعات من المستهلك إلى المستهلك (C2C)، يتنافس فيها المشترون من مقدمي العطاءات من أجل الحصول على الشيء المعروض في المزاد وفقًا لأعلى سعر، ويمكن إجراء المزادات تقليديًا في صالة المزادات، وكذلك المنصات الرقمية على الإنترنت.
علاوة على ذلك، يتم إدارة المزاد بقواعد معينة (تنسيق)، تحدد شكل العطاءات، وما إذا كان سيتم بيع سلعة واحدة أو أكثر بالمزاد العلني، ومتى يتم طرحها، وكيف سيتم تحديد الأسعار والفائزين في العطاءات، وهل المزاد مفتوح أم مغلق، إلخ.
وتشمل الأشياء التي تُعرض عادةً في صالات المزادات المنتجات القابلة للتلف، مثل: الفواكه والخضراوات والأسماك والزهور، وكذلك الأخشاب والنبيذ وغير ذلك الكثير من الأعمال الفنية، كالطوابع والتحف والآثار واللوحات الفنية، وأيضًا الأشياء المرهونة من حالات الإفلاس والسلع المستعملة.
أنواع المزادات
كلمة «Auction - المزاد» هي في الأصل مشتقة من الكلمة اللاتينية «Augeo - الزيادة»، بمعنى «أنا أزيد/أضاعف السعر»، والمزاد هو شكل من أشكال البيع، لا يتم فيه تحديد السعر النهائي أو الوصول إليه عن طريق التفاوض، ولكن من خلال عملية تقديم العطاءات التنافسية، فتباع الأسعار المعروضة للمزاد العلني لمن يدفع أعلى سعر.
تعد أسواق المزادات من أقدم أشكال السوق، لكنها تاريخيًا لم تكن هذه طريقة الشراء الشائعة، كانت «Bartering - المقايضة» والمساومة بالإضافة إلى تحديد سعر ثابت طريقة أكثر شيوعًا لممارسة الأعمال التجارية. وتختلف المزادات باختلاف القواعد التنظيمية لتقديم العطاءات ونوع الأشياء المراد بيعها فيه. وهناك نوعان أساسيان من المزادات، وهما:
● 1- المزاد الإنجليزي: يُطلق على المزاد في شكله التقليدي المعروف، وهو أبسط أشكال المزادات، فيه يبدأ المزاد بسعر أدنى يكون المالك جاهزًا للبيع به، وتقدم العطاءات بشكل علني وتصاعدي، ويعتمد سعر البيع على الشخص الذي قدم أعلى عرض، يستلم صاحب أعلى عطاء الشيء المراد بيعه بالمزاد، ويجوز لكل عارض تقديم العطاءات عدة مرات.
● 2- المزاد الهولندي: يُطلق عليه اسم «المزاد العكسي»، فيه يتم تحديد سعر البداية مرتفع نسبيًا، ثم يتم تخفيضه بمرور الوقت.
وبالتالي، وفقًا لقواعد اللعبة، تعتمد نتيجة المزادات على ثلاثة عوامل أساسية، وهي:
● 1- القواعد التنظيمية المعمول بها – Auction’s Rules لإدارة الشكل العام للمزاد، مثل: العطاءات عامة أم خاصة، مفتوحة أم مغلقة، عدد مرات المزايدة المسموح بها، إلخ.
● 2- درجة عدم اليقين – Concerns Uncertainty، بشأن توافر المعلومات المؤكدة حول قيمة الشيء المعروض في المزاد.
● 3- تقييم الشيء المعروض – Auctioned Object في المزاد.
المزادات لها تاريخ طويل
المزادات لها تاريخ طويل، حيث توثق السجلات المتوارثة من الكتبة اليونانيون القدماء وجود المزادات، فكان المؤرخ اليوناني الشهير «Herodotus - هيرودوت» أول من أشار إلى عملية المزاد، وذكر أنه حوالي عام 500 قبل الميلاد تم استخدام المزاد لعرض النساء للزواج، فيما ما يعرف بـ «مزاد الزفاف البابلي»، وكان يُعتبر السماح بزواج الابنة خارج طريقة المزاد أمرا غير قانوني.
وفي روما القديمة، استخدم المقرضون المزادات لبيع وتصفية الأصول والممتلكات والبضائع التي صادروها من المقترضين الذين لم يتمكنوا من سداد مديونياتهم، كما استخدم الجنود الرومان هذه الطريقة أيضًا لتقاسم غنائم الحرب، وكان يشار إليها باسم Atrium Auctionarium، فيقوم صاحب المزاد المرخص، المسمى بـ Magister Auctionarium، بضرب رمح في الأرض لبدء المزاد، أمّا اليوم تستخدم المطرقة لبدء المزاد.
وبعد إعدام الإمبراطور« Pertinax - برتيناكس»، تم بيع الإمبراطورية الرومانية بأكملها في المزاد العلني، وقدّم السياسي الشهير «Didius Julianus - ديديوس جوليانوس» مبلغًا هائلًا تفوق من خلاله على بقية منافسيه في المزاد، الذي حصل بموجبه على عرش روما، ونصّب إمبراطورًا خلفًا لبرتيناكس.
تاريخيًا، تأسست أقدم صالة مزادات في العالم في عام 1674، وتدعى Stockholms Auktionsverk، بهدف بيع الممتلكات المخصصة، ولا تزال قائمة حتى اليوم.
المزادات عبر الإنترنت
خلال التسعينيات من القرن الماضي، وجدت التكنولوجيا طريقها إلى صالات المزادات العلنية، فكان الباعة في المزاد يستخدمون أجهزة الحاسوب والفاكس والهواتف الخلوية وشاشات العرض الضخمة وغيرها من التقنيات الحديثة؛ لجعل أعمالهم تعمل بشكل أكثر سهولة وسلاسة.
اقتحمت المزادات الفضاء الإلكتروني، وتم إطلاق موقع eBay الشهير في عام 1995، ليصبح فيما بعد رائد تقديم العطاءات عبر الإنترنت، وقدم العديد من بائعي المزادات عطاءات مباشرة عبر الإنترنت؛ لتلبية احتياجات العملاء القريبين والبعيدين جغرافيًّا، دون الحاجة للتواجد في نفس المكان.
المزادات في حياتنا اليوم
عندما نسمع كلمة مزاد، ربما نفكر في مزادات المحاصيل التقليدية أو المزادات الفنية الراقية، ولكن قد يتعلق الأمر أيضًا ببيع شيء ما على الإنترنت، لكن في وقتنا الحالي ما يحدث على أرض الواقع أبعد من ذلك بكثير.
حاليًا، أصبحت المزادات مهمة جدًا وشائعة بشكل متزايد ومعقد، وتؤثر نتائج المزادات العلنية على كافة المستويات والأوجه المختلفة لحياتنا جميعًا.
تقترض جميع بلدان العالم الآن عن طريق بيع السندات الحكومية من خلال المزادات، وتفوز الشركات العامة والخاصة التي تدير تجميع وفرز نفايات المنازل بالعطاءات عن طريق المزادات.
وتؤثر أسعار الكهرباء (المرنة)، التي يتم تحديدها يوميًّا في مزادات الكهرباء الإقليمية (في الدول الأجنبية التي تتبع هذا الأسلوب)، على تكلفة تدفئة المنازل هناك، بينما تعتمد تغطية الهاتف الخلوي على الترددات اللاسلكية التي حصل عليها مشغلو خدمات الاتصالات من خلال المزادات.
كما تحدد المزادات اتجاهات جديدة لأسواق تجارة الكربون، وقطاعات الأعمال المرتبطة بالتكنولوجيا الخضراء في العالم، فنجد أن الغرض من مزاد حكومات الاتحاد الأوروبي، والمعروفة باتباع أسلوب وحدات الكميات المخصصة، لتحديد وتداول وبيع (تخصيص) مخططات الاتجار بالانبعاثات، هو تخفيض مقدار انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بسبب الأنشطة البشرية، ومنها توليد الطاقة من النفط والفحم والغاز الطبيعي، بهدف الحد من ظاهرة الاحتباس الحراري، وتحديد مقدار ضريبة الكربون الواجب تحصيلها.
نظرية المزادات العلنية
تعد «نظرية المزادات» فرع من «نظرية المباريات» أو كما هي معروفة بنظرية الألعاب، ومجال تطبيقي لها، استخدمت فيه فروض النظرية بنجاحٍ ساحق في حل المسائل التطبيقية للمزادات على أرض الواقع.
فيما مضى، كان تحليل نتائج المزادات للأشياء المعقدة وغير التقليدية عملية صعبة؛ نظرًا لأن مقدمي العطاءات يتصرفون بشكل استراتيجي، بناءً على المعلومات المتاحة، فيأخذون في الاعتبار ما يعرفونه بأنفسهم، وما يعتقدون أن مقدمي العطاءات الآخرين يعرفونه من معلومات حول الشيء المعروض للمزاد.
وبمرور الوقت، خصصت المجتمعات أشياء وسلعا أكثر تعقيدًا بين المستخدمين، مثل: مزادات تخصيص ﻣدارج وﻣﻣرات الهبوط في المطارات (أماكن مهبط الطائرات)، ومزادات بيع وتخصيص ترددات الراديو اللاسلكية لمشغلي خدمة الاتصالات والهواتف الخلوية والإنترنت.
ردًا على ذلك، بدأ الثنائي الاقتصادي الفائز بجائزة نوبل في العلوم الاقتصادية لهذا العام 2020، «روبرت ويلسون» و«بول ميلغروم»، وكلاهما ضمن طاقم التدريس في جامعة ستانفورد، العمل على «نظرية المباريات» كنظرية أساسية، مستخدمين النتائج لاحقًا في تطبيقات عملية ضمن مجال المزادات العلنية، انتشرت بصورة واقعية على مستوى العالم.
فقد سعى الثنائي الاقتصادي لابتكار تنسيقات جديدة لشكل المزادات للعديد من الأشياء المعقدة بدافع من المنفعة المجتمعية، باستخدام «نظرية المباريات»، كوسيلة لتحليل السلوك الاستراتيجي فيما يتعلق بكيفية تصرف الأطراف المختلفة (مقدمي العروض) ضمن حالات تضارب المصالح، في ظل توافر معلومات متباينة عن نفس الموقف البيعي (المزاد العلني)، أصبحت الرؤية التحليلية أكثر وضوحًا وواقعية.
كما لم يكتف الثنائي الاقتصادي بتوضيح كيفية عمل المزادات، وتحليل لماذا يتصرف مقدمو العروض بطريقة معينة، بل استخدام اكتشافاتهم النظرية لابتكار أشكال وتنسيقات جديدة تمامًا للمزادات، تغلبت على تحديات بيع الأشياء والسلع والخدمات غير التقليدية، وحققت انتشار على نطاق واسع حول العالم، وبالتالي طورا معًا المبادئ النظرية والتطبيقات العملية لها أيضًا.
القيمة المشتركة والقيمة الخاصة
في البداية، طور الاقتصادي «روبرت ويلسون» نظرية مزادات الأشياء ذات القيمة المشتركة أو Common Value Auctions، تشمل الأمثلة عليها القيمة المستقبلية للترددات اللاسلكية أو مقدار حجم المعادن في منطقة معينة.
ففي معظم المزادات، يكون لدى مقدمي العطاءات قيمتان، هما:
● 1- «Common Value - قيمة مشتركة»: هي قيمة فعلية موضوعية لشيء ما، وقد تكون غير مؤكدة مسبقًا، وقد يختلف بشأنها أثناء المزاد، ولكنها في النهاية قيمة مشتركة مستقبلية بين جميع مقدمي العطاءات.
● 2- «Private Value - قيمة خاصة»: قيمة تقديرية خاصة بمقدم العطاء للشيء، وتختلف من مقدم عطاء إلى آخر.
في نموذج القيمة المشتركة، يكون لدى مقدمي العطاءات معلومات خاصة مختلفة (إشارات/تقديرات) حول ماهية هذه القيمة في الواقع. في هذه الحالة، قد يغير مقدم العطاء تقديره للقيمة إذا علم شيئا عن تقديرات مقدم عرض آخر، ويعلم مقدمو العطاءات ذو القيم الخاصة تقديراتِهم قبل أن يبدأ المزاد، ولكنهم ربما لا تتوافر لديهم أي معلوماتٍ أثناء المزاد من شأنها أن تؤدي إلى تغيير تقديراتهم تلك.
في المقابل، في نموذج القيم الخاصة، يعرف كل مقدم عطاء مقدار تقديره للعنصر المعروض للبيع في المزاد، ولكن قيمته هي معلومات خاصة. على عكس إعداد القيمة المشتركة، لن تتأثر قيمة مقدم العطاء بمعرفة معلومات أي مقدم عرض آخر.
بينما الممارسة العملية، نجد أن العديد من الأشياء ليس لها قيم خاصة بحتة ولا قيم مشتركة بحتة، ومن المحتمل أن يكون لها جانب هام من جوانب القيمة الخاصة، حيث يعرف كل مقدم عطاء بشكل فردي مدى إعجابه أو عدم إعجابه بالشيء، بالإضافة أيضًا لجانب مهم ذي قيمة مشتركة مستقبلية، لأن أي شخص يفوز بالمزاد قد يقرر إعادة بيع العمل لاحقًا.
لنفترض أنك تفكر في تقديم عطاء في مزاد لشراء منزل؛ استعدادك للدفع هنا يعتمد على كل من القيمة الخاصة، أي مدى تقديرك لحالة المنزل ومخطط تصميم المنزل والموقع الخاص به، وتقديرك للقيمة المشتركة، أي المبلغ الذي قد تتمكن من بيع المنزل مقابله في المستقبل.
كما أن البنك الذي يقدم عطاءات للحصول على سندات حكومية يأخذ في الاعتبار سعر الفائدة السوقي المستقبلي (قيمة مشتركة)، وعدد عملائه الذين يرغبون في شراء السندات (قيمة خاصة).
معضلة مزادات الأشياء ذات القيمة المشتركة
على سبيل المثال، عندما تباع تراخيص بالمزاد لحق استخراج الغاز الطبيعي في مناطق معينة في قاع البحر، والمقدر وجوده بحجم معين (قيمة مشتركة)، فإن كمية الغاز في أي منطقة تكون واحدة بالنسبة إلى الجميع، وذلك بتكلفة استخراج (قيمة خاصة، حيث تعتمد التكلفة على التكنولوجيا المتاحة للشركة).
لكن تقديرات مقدمي العطاءات لكمية الغاز المحتمَل وجودها في المنطقة ستعتمد على استطلاعات المسح الجيولوجي المختلفة التي يقومون بها. ولا تكون هذه الاستطلاعات باهظةً فحسب، لكن كما هو معروف لا يمكن الاعتماد عليها؛ لذا، سيتلقَّى بعض مقدمو العطاءات المحتمَلون استطلاعات تفاؤلية، بينما سيتلقى آخرون استطلاعات تشاؤمية.. فمَن سيكون الفائز في هذه الحالة المعقدة؟
لقد أوضح «ويلسون» في أبحاثه الاقتصادية أن سبب ميل مقدمي العطاءات العقلانيين إلى وضع العطاءات أقل من أفضل تقدير خاص بهم للقيمة المشتركة، فهم قلقون بشأن ما يسمى بـ «Winner’s Curse - لعنة الفائز»، أي الفوز بالمزاد مع دفع أكثر من القيمة الفعلية/الموضوعية ومن ثم الخسارة، فالأشياء والأصول ذات القيمة المشتركة يكون لها قيمة ما لدى جميع مقدمي العطاءات، وفي سبيل الفوز يبالغ الفائز في تقدير القيمة.
لعنة الفائز والقيمة المشتركة
إحدى أكثر الظواهر المرتبطة بالمزادات معروفة باسم «لعنة الفائز»، أي دفع الكثير ومن ثم الشعور بالخسارة. فغالبًا ما يبالغ مقدم العطاء الأكثر تفاؤلًا في تقدير القيمة المشتركة للعنصر المعروض بالمزاد، بحيث يتضح أن الفوز بالمزاد يسبب لعنة للفائز؛ ففي كثير من الحالات، يدفع الفائز بالمزاد أكثر من قيمته الحقيقية مقابل الحصول على العنصر الذي ربحه.
في الأصل، تمت صياغة مصطلح «لعنة الفائز» كنتيجة لمزادات شركات النفط والطاقة للحصول على حقوق التنقيب عن النفط البحرية في خليج المكسيك.
ففي أوائل السبعينيات انهارت العديد من شركات النفط الأمريكية بعد فترة وجيزة من فوزها بالمزادات التي تمنحها حقوق التنقيب في عدة أماكن في الولايات المتحدة.
فقد كان لدى هذه الشركات عدد كبير من الجيولوجيين والاقتصاديين الذين يقومون بتقييم قيم حقوق الحفر التي كانوا يقدمونها، ولكن اتضح أن لديهم أسعارا مزايدة أعلى بكثير من القيم المشتركة (الموضوعية والحقيقية) لحقوق الحفر المعروضة، مما أدى في النهاية إلى إفلاسهم.
علاقة لعنة الفائز بمشاكل التفاوض
تصف ظاهرة لعنة الفائز مشكلة شائعة بشأن التفاوض في العطاءات التنافسية، عند الحاجة إلى الفوز والنجاح في نيل العطاء بأي ثمن، ومن أجل تحقيق ذلك فإن الطرف الذي يربح مزادًا لشيء أو أصل أو سلعة ذات القيمة المشتركة، لكن غير المؤكدة مسبقًا مع عدد معقول من المزايدين، فيدفع عادةً أكثر مما يستحق الأصل بالفعل.
يمكن تطبيق نظرية لعنة الفائز على أي عملية شراء تتم من خلال المزاد، وهذه ظاهرة لا تُلاحظ فقط في مزادات السلع منخفضة السعر التي يكون المشاركون فيها من الهواة؛ لكن الشركات الكبيرة التي تقدم عطاءات في المناقصات الكبرى هي أيضًا قد تقع ضحية لعنة الفائز.
في المزاد الإنجليزي، حيث يبدأ المزاد بسعر منخفض ثم يرفع. وبالتالي، يحصل المزايدون من مقدمي العطاءات الذين يراقبون السعر الذي يخرج به مقدمو العطاءات الآخرون على معلومات حول تقييماتهم؛ نظرًا لأن مقدمي العطاءات الباقين لديهم معلومات أكثر مما كانت عليه في بداية المزاد، فهم أقل عرضة لتقديم عطاءات أقل من قيمتها المقدرة، وبالتالي أقل عرضة للعنة الفوز.
من ناحية أخرى، فإن المزاد الهولندي، حيث يبدأ المزاد بسعر مرتفع ويخفض إلى أن يرغب شخص ما في شراء الشيء المعروض، لا ينتج عنه أي معلومات جديدة. وبالتالي، فإن مشكلة لعنة الفائز تكون أكبر في المزادات الهولندية منها في المزادات الإنجليزي، مما يؤدي إلى انخفاض الأسعار النهائية.
تعكس هذه النتيجة تحديدًا مبدأً عامًا: «أن شكل تنسيق المزاد يوفر عائدًا أعلى كلما كان الرابط أقوى بين العطاءات والمعلومات الخاصة لدى مقدمي العطاءات».
لذلك، فإن البائع له مصلحة في تزويد المشاركين بأكبر قدر ممكن من المعلومات حول قيمة الشيء محل البيع قبل بدء تقديم العطاءات. فمثلًا، يمكن لبائع المنزل أن يتوقع سعرًا نهائيًا أعلى إذا كان لدى مقدمي العروض إمكانية للوصول إلى تقييم خبير (مستقل) قبل بدء تقديم العطاءات.
القيم الخاصة لنظرية أكثر عمومية
فيما صاغ الاقتصادي «بول ميلغروم» نظرية أكثر عمومية للمزادات، لا تسمح فقط بحل معضلة القيم المشتركة، ولكن أيضًا بالقيم الخاصة Private Value التي تختلف من عارض إلى آخر، حيث يتم الجمع بين البحث عن الحوافز ومستوى التعقيد للسلع والأشياء الفريدة المعروضة للمزاد.
فقد قام بتحليل إستراتيجيات عروض الأسعار في عدد من تنسيقات المزادات المعروفة، والعمل على إظهار كيف تؤثر القيم الخاصة والقيم المشتركة على نتائج المزاد، موضحًا أن الشكل سيمنح البائع أرباحًا متوقعة أعلى عندما يعلم مقدمو العروض المزيد حول القيم المقدرة لدى بعضهم البعض أثناء تقديم عروض الأسعار.
المزاد متعدد الجولات المتزامن
وغالبًا ما يرغب مقدمو العطاءات في مزادات الأشياء المترابطة، مثل ترددات اللاسلكي للهواتف الخلوية في مناطق مختلفة جغرافيًا، في المزايدة على (وحدة/حزمة) من الأشياء. مما يؤدي إلى تعقيد تصميم المزاد، خاصةً إذا كان منسق المزاد أو البائع يريد منع مقدمي العطاءات من التواطؤ لإبقاء الأسعار منخفضة.
لحل هذه المعضلة، ابتكر الثنائي الاقتصادي «روبرت ويلسون» و«بول ميلغروم»، بالمشاركة جزئيًا مع الخبير الاقتصادي «Preston McAfee - بريستون مكافي» تنسيقًا جديدًا تمامًا للمزاد، وهو Simultaneous Multiple Round Auction - المزاد متعدد الجولات المتزامن، والمعروف اختصارًا بـ (SMRA)، كشكل سهل التنفيذ، وبالتالي يصلح للعديد من الأسواق متعددة الأغراض.
يقدم تنسيق المزاد هذا جميع الأشياء المرتبطة، مثل: نطاقات التردد اللاسلكي للهواتف الخلوية في مناطق جغرافية مختلفة، كحزمة في وقت واحد، من خلال البدء بأسعار منخفضة والسماح بالعطاءات المتكررة، وبالتالي يقلل المشاكل الناجمة عن عدم اليقين بشأن المعلومات المتوفرة ومعضلة لعنة الفائز.
يعد المزاد متعدد الجولات المتزامن (SMRA)، امتداد للمزاد الإنجليزي لكن لأكثر من عنصر واحد، حيث يسمح فيه بالمزايدة على أشياء متعددة في وقت واحد والفوز بأشياء متعددة، فيتم بيع جميع العناصر في نفس الوقت، ولكل منها سعر مرتبط بها، ويمكن تقديم العطاءات على أي عدد من العناصر والأشياء.
يستمر المزاد في جولات، وهي فترات زمنية محددة يمكن لجميع مقدمي العطاءات خلالها تقديم العطاءات، وبعد إغلاق الجولة، يكشف المسؤول بالمزاد عن الفائز وسعر كل عنصر، والذي يتزامن مع أعلى عطاء تم تقديمه على العنصر.
هناك اختلافات في مستوى المعلومات التي تم الكشف عنها حول عروض العطاءات الأخرى. في بعض الأحيان يتم الكشف عن جميع العطاءات بعد كل جولة؛ أحيانًا يتم نشر أسعار العطاءات الفائزة خلال الجولة فقط.
يستمر المزاد حتى لا يرغب أي عارض في رفع المزايدة على أي شيء أكثر. بمعنى آخر، إذا لم يتم تقديم عطاءات جديدة في إحدى الجولات، فإن مقدمي العطاءات يتلقون الشيء الذي يمتلكون فيه أعلى عطاء (نشط)؛ ثم ينتهي المزاد، مع فوز كل مزايد بالكتل أو الحزم التي حصل عليها بأعلى سعر.
يستخدم مزاد SMRA قاعدة (نشاط) بسيطة، والتي تجبر مقدمي العطاءات على أن يكونوا نشطين منذ البداية. بدون هذه القواعد، قد يميل مقدمو العروض إلى إخفاء طلبهم والانتظار ليروا كيف تتطور الأسعار قبل أن يبدأوا في المزايدة.
لكن هنا تُستخدم بانتظام قواعد الروتين التنظيمي، حيث لا يمكن لمقدمي العطاءات المزايدة على المزيد من العناصر في الجولات اللاحقة. هذا يفرض على مقدمي العطاءات أن يكونوا نشطين منذ البداية. يمكن اعتبار قاعدة النشاط ابتكارًا رئيسًا لشكل المزاد هذا.
المزاد المتزامن الأشهر على الإطلاق
تعليق الصورة: منح الباحثان الاقتصاديان «روبرت ويلسون» و«بول ميلغروم» جائزة نوبل 2020 عن تحسين نظرية المزاد.
اشتهر الثنائي الاقتصادي لجائزة نوبل في العلوم الاقتصادية لعام 2020، بدورهم الرائد في تصميمات المزادات واستراتيجيات العطاءات التنافسية لقطاعات الاتصالات والنفط والطاقة، وفي تصميم مخططات تسعير جديدة ومبتكرة.
ففي عام 1994، استخدمت السلطات الأمريكية لأول مرة تنسيق (SMRA) للمزادات، لتخصيص وبيع الترددات اللاسلكية للهاتف الخلوي لمشغلي الاتصالات في جميع أنحاء العالم لسنوات عديدة مستقبلًا، وجمعت لجنة الاتصالات الفيدرالية الأمريكية (FCC) من خلاله مبالغ فلكية (617 مليون دولار عبر بيع 10 رخص من خلال 47 جولة عطاءات)، كما تم تخصيص وبيع عقود إيجار الكهرباء والنفط والغاز باستخدام نفس الفكرة.
بعدها، وطوال 20 عامًا، خلال الفترة من عام 1994 وحتى عام 2014، باعت لجنة الاتصالات الفيدرالية الأمريكية رخصًا بقيمة 120 مليار دولار باستخدام تنسيق المزادات (SMRA) المبتكر. ومنذ ذلك الحين، حذت العديد من الدول الأخرى حذوها، بما في ذلك فنلندا والهند وكندا والنرويج وبولندا وإسبانيا والمملكة المتحدة والسويد وألمانيا.
المصادر:
-
الموقع الرسمي لجائزة نوبل من هنا.
-
الصور من البيان الصحفي الخاص بالأكاديمية الملكية السويدية للعلوم.
-
السيرة العلمية لـ«روبرت ويلسون» على جامعة ستانفورد الأمريكية من هنا.
-
السيرة العلمية لـ«بول ميلغروم» على جامعة ستانفورد الأمريكية من هنا.
-
مارك سكاوزن، كتاب «قوة الاقتصاد»، الفصل السادس عشر، ترجمة شيماء الريدي، ضمن إصدارات مؤسسة هنداوي للنشر، عام 2016.
-
كين بينمور، كتاب «نظرية الألعاب: مقدمة قصيرة جدًا»، الفصل السابع، ترجمة نجوى عبد المطلب، ضمن إصدارات مؤسسة هنداوي للنشر، عام 2016.