لماذا تسقط الشركات الكبرى رغم نجاحها؟ نظرة على قِصر النظر الاستراتيجي
هل سمعت من قبل عن مُصطلح "قِصر النظر الاستراتيجي" أو ما يُعرف بالـ(Strategic Myopia)؟
قد يبدو مُصطلحًا متخصصًا بعض الشيء، غير أنه قد يواجه جميع الشركات ويودي بها، ونحن هنا لا نتحدث عن الشركات الصغيرة، بل شركات رائدة، أُتيحت لها الفرصة لتكتسح السوق، ولكنها رفضت ذلك بشكلٍ أو بآخر!
فما المقصود بقِصر النظر الاستراتيجي؟ وما أشهر الأمثلة عليه؟ والأهم من ذلك: كيف يمكن تجنبه؟!
قصر النظر الاستراتيجي!
يُعرف "قِصر النظر الاستراتيجي"، بأنه الرؤية القاصرة في استراتيجيات الأعمال، التي تنشأ عندما يُركز أصحاب الأعمال إما على تحقيق المكاسب الفورية، وإما تحقيق الأهداف دون دراسة!
إذ تُغفِل هذه النظرة القاصرة أصحابها عن التغيرات الجوهرية التي تحدث في السوق، ونتيجة لذلك، قد تُصبح الشركات أو المؤسسات عاجزة عن الاستجابة للتغيرات أو التهديدات، أو غير ذلك من العوامل الخارجية مع مرور الوقت، ما قد يتسبب في تراجعها.
غالبية الحالات التي يحدث فيها قِصر النظر الاستراتيجية تظهر، عندما تُصر المؤسسات -بشكلٍ مُتعنت- على تحقيق إنجازات سريعة، ما يدفعها للتمسك باستراتيجيات قديمة، وتفويت الفُرص مع تغير متطلبات السوق كما أشرنا.
ومن ثم يمكننا القول بأن قِصر النظر الاستراتيجي يعكس فجوة معرفية ضخمة، بين الممارسات الراسخة لدى المنظمات والواقع الديناميكي للبيئات الخارجية، وإذا لم يتم سد هذه الفجوة، فإنها ستحد من القدرة على التكيف، وبالتالي قد تُودي بالمؤسسة بأكملها، وهذا ما سنحاول معرفة كيفية تجنبه بعد أن نتعرف على أمثلة واقعية على ذلك.
أمثلة على قصر النظر الاستراتيجي
سنتناول هنا 3 أمثلة لشركات كانت عملاقة يومًا ما، ولكنها لم تعد موجودة على الساحة اليوم، لأن نظرتها الاستراتيجية كانت قاصرة:
1. كوداك Kodak
تُعد قصة شركة "كوداك" مثالاً كلاسيكيًّا ودليلاً واضحًا على: كيف يمكن لقصر النظر الاستراتيجي أن يُسقط حتى أكبر الشركات.
كانت "كوداك" من روّاد مجال التصوير الفوتوغرافي لسنوات عديدة، بل كانت الشركة الأشهر في وقتٍ من الأوقات، إلا أنها فشلت في مواكبة التطور التكنولوجي السريع، وأبت أن تتحول نحو التصوير الرقمي.
وفي عام 1975، اخترع المهندس "ستيف ساسون" أول كاميرا رقمية وعرضها على الشركة، مما يُقيم الحجة على "كوداك" مرتين، حيث نظرت الشركة في المشروع، لكن الإدارة فضلت التمسك بتقاليدها -المُربحة صراحة في ذلك الوقت- مُعتبرة أن التصوير الرقمي مجرد خيالٍ علمي لن يُشكل تهديدًا حقيقيًّا!
بحلول الثمانينيات، كانت الأبحاث تُدعّم وتُشير إلى أن التصوير الرقمي هو المستقبل، وأنه قد يحل محل الأفلام التقليدية خلالٍ عقد من الزمن. ومرةً أخرى، تجاهلت "كوداك" هذه التحذيرات، واستمرت في التركيز على تقنياتها القديمة.
بسبب تعيينها لقادة تقليديين افتقروا لبُعد النظر الاستراتيجي، انتهت "كوداك" نهاية مؤسفة في عام 2012، بعد أن حققت نجاحات بارزة على مدار أكثر من قرن، وبعد أن كانت الفُرصة أمامها لتقود مستقبل الكاميرات الرقمية.
اقرأ أيضًا| دراسة تكشف: التسويق باستخدام الذكاء الاصطناعي يقلل المبيعات!
2. بلاك بيري BlackBerry
تُجسد قصة "بلاك بيري" كيف يمكن لقصر النظر الاستراتيجي أن يُحول شركةً رائدة إلى لاعبٍ ثانويّ مُهمّش، لا يلقى قدرًا كبيرًا من الاهتمام.
فقد تأسست "بلاك بيري" في عام 1984، واستطاعت في أوائل الألفية أن تفرض سيطرتها على سوق الهواتف الذكية في الولايات المتحدة الأمريكية، بفضل أجهزتها الذكية التي كانت تتمتع بلوحة المفاتيح الشهيرة.
لكن، مع ظهور المنافسين الحقيقيين على الساحة، وعلى رأسهم "أبل"، كان لا بد أن تتأقلم "بلاك بيري" مع الواقع، وتُغير من تصميم أداة التحكم في الهاتف، وهي لوحة المفاتيح، وكما توقعت، ظلت الشركة مُتمسكة بتصميمها التقليدي، ظنًا منها أن أحدًا لن يتعوّد على شاشات اللمس، وهو ما أُثبت عكسه تمامًا.
وفي عام 2008، اعترفت "بلاك بيري" بخطئها، وأطلقت جهازها الأول بشاشة اللمس "Storm" لمنافسة الآيفون، ولكنها تأخرت، خاصةً أن الهاتف افتقر إلى ميزة الواي فاي، وكان يعاني مشكلات برمجية عديدة، مما خيب آمال المستهلكين، وزعزع الثقة في العلامة التجارية.
ولتزيد الطين بلة، أطلقت "بلاك بيري" جهازًا لوحيًّا "PlayBook" بدون الخاصية التي كانت تتمتع بها، ألا وهي البريد الإلكتروني، مما زاد من تراجعها أكثر وأكثر.
وعلى الجانب الآخر، بدأ المنافسون بالبحث عن البدائل مثل "واتساب"، واستغلالها أحسن استغلال، لتتراجع حصة "بلاك بيري" إلى مستويات غير مسبوقة، تحديدًا إلى أقل من 1%، وتخرج من سوق إنتاج الهواتف الذكية تمامًا.
3. بلوكباستر Blockbuster
في وقتٍ ما كانت شركة Blockbuster مُهيمنةً على صناعة استئجار شرائط الفيديو، من خلال شبكة واسعة من المتاجر التقليدية المُنتشرة في كل مكان، ولكن يبدو أن هذا النجاح أخمد الشركة وطموحاتها قليلًا، كما أنه أعماها عن الفرص المستقبلية مثلما أعمى Kodak وغيرها من الشركات.
ففي عام 2000 رفضت Blockbuster فرصةً كانت ستعطيها الريادة في مجال البث عبر الإنترنت، غير أنها تجاهلت هذه الفرصة، لتندثر مستقبلاً، وتصعد على أكتافها شركات البث الشهيرة التي نعرفها اليوم جميعًا.
اقرأ أيضًا: ما أخطاء الشركات الناشئة؟ وكيف تتجنبها؟ (فيديوجراف)
كيف تتغلب على قِصر النظر الاستراتيجي؟
لحسن الحظ هناك أكثر من حلٍ لمشكلة قِصر النظر الاستراتيجي، على سبيل المثال:
1. تحليل البيئة الخارجية:
عن طريق رصد التغيرات في السوق ومتابعتها أولًا بأول، وتشمل تغيرات السوق التغيرات التكنولوجية، والاتجاهات الاستهلاكية، والقوانين والتنظيمات، إلخ.
عليك أيضًا أن تدرس المنافسين وتُحدد نقاط قوتهم وضعفهم، مع إجراء تحليل للفرص والمخاطر أو ما يُعرف بالـ"SWOT Analysis"، لتعرف نقاط القوة (Strengths)، ونقاط الضعف (Weaknesses)، والفُرص (Opportunities)، والتهديدات (Threats) الخاصة بشركتك أو مشروعك، وعادةً ما يتم إجراء هذا التحليل في بداية التأسيس، غير أنه يُجرى أيضًا في عدة مراحل من عمر الشركة أو المؤسسة.
2. تشجيع الثقافة الإبداعية:
يؤدي الإبداع إلى ما يمكننا أن نُسميه بـ"الثقافة الاستباقية"، وهي المعنى المُغاير لقِصر النظر الاستراتيجي، ولكن كيف تكون مؤسستك أو شركتك مُبدعة؟
كلمة السر تتلخص في "البحث والتطوير" (الـ R&D)، فهذا القسم يُعد بمثابة الوقود الدافع للإبداع، ويُمكننا تعريفه بأنه العملية المنهجية لاكتشاف حلول جديدة للمشكلات أو الفجوات الموجودة في السوق، لذلك، اهتم بزرع ثقافة الإبداع في موظفيك، وركز على امتلاك قسم قوي للبحث والتطوير.
3. تطوير رؤية مستقبلية واضحة:
إن امتلاكك لرؤية مستقبلية واضحة، والتركيز على الأهداف طويلة الأمد، قد يعني القضاء الفوري والمباشر على قصر النظر الاستراتيجي، فكما قُلنا، تحدث هذه المشكلة بسبب التسرع واللهث وراء الحلول والأهداف اللحظية.
أما امتلاك رؤية مستقبلية واضحة، والعمل المستمر على تحقيقها، حتى وإن كان بطيئًا في بعض الأحيان، فسيجعل وصولك بعيدًا شبه محتوم، وربما تجاوز أهدافك بمراحل.
اقرأ أيضًا| نقاط التسويق العمياء.. أبرز 3 أزمات تعيق نمو شركتك وطرق تجاوزها
4. الشفافية والتواصل الفعال:
يتم عن طريق تشجيع التواصل بين الجميع، وإشراك جميع الموظفين في عملية صُنع القرار، وتقديم تقارير دورية توضح درجة التقدم المُحرز.
كل هذه الأمور تزيد من فرص الإنتاجية والالتزام بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، ما ينعكس على جودة العمل ككل، ومن ثم تقل فرص قصر النظر الاستراتيجي.
5. التعلم المستمر والتطوير:
عليك أيضًا أن تُحفز الموظفين على التعلم المستمر والتطوير كلما سنحت الفرصة، ويُنصح أن توفر برامج تدريبية للموظفين لمساعدتهم على تطوير مهاراتهم ومعارفهم.
شجعهم على البحث والقراءة داخل وخارج مجالات عمل موظفيك، وساعدهم على بناء شبكات علاقات تفيدهم قدر المستطاع.
فالتغلب على قصر النظر الاستراتيجي يحتاج إلى وقت قد يطول أو يقصر، وفي كل الأحوال يجب القضاء على هذه الآفة، لأنها قد تؤدي إلى هلاك الشركة أو المؤسسة بأكملها، أو في أفضل الأحوال إلى تراجعها وتأخرها عن المنافسين.