مهارات المستقبل (3): التفكير الإبداعي والبحث داخل الصندوق قبل خارجه!
ما زلنا نتابع حديثنا عن مهارات المستقبل التي يحتاج إليها كل شخص للنجاح، التي اعتمدت على توصية المؤتمر الاقتصادي العالمي في عام 2016 من اختيارات مجموعة متنوعة من المسئولين عن التوظيف في الشركات الكبرى في العالم.
في عام 2015 جاء الإبداع في المركز الأخير، لكن حسب التوصيات الحديثة تقدم ليحتل المرتبة الثالثة، وهو الأمر الذي يوضّح الاختلاف الكبير في سوق العمل ورغباته، فبينما الحلول التقليدية أصبحت غير ملائمة حاليًا، فإنّ التفكير الإبداعي أصبح له الاهتمام الأكبر في العمل.
مهارات المستقبل (1): لماذا حل المشكلات المعقدة هي المهارة الأهم طلبًا في سوق العمل؟
التفكير الإبداعي: الفكرة وحدها لا تكفي.. ماذا عن التطبيق؟
يمكننا تعريف التفكير الإبداعي على أنّه أسلوب لرؤية المشاكل والمواقف المختلفة من منظور جديد، يقدّم حلولًا غير تقليدية للوضع الحالي، غالبًا ما يكون هناك شعور بالقلق في بادئ الأمر من الأفكار المختلفة، لهذا يتطلب الوضع الحاجة إلى تقييمها بشكل سليم، من خلال استخدام تقنيات إضافية كالعصف الذهبي أو بالتفكير الجانبي فيها.
على الرغم من ذلك، فإنّ الناس يخطئون أحيانًا في توجيه الاهتمام إلى الفكرة المجرّدة، فيصفونها على أنّها إبداعية لمجرد اختلافها أو تميزها النظري، لكن الصواب هو توجيه التركيز إلى قابلية تنفيذ الفكرة وتطبيقها في الواقع، ولهذا يقترن مع الإبداع مصطلح آخر وهو الابتكار.
فالإبداع يمكنك من الخروج عن المألوف في التفكير والاعتماد على الخيال في خلق الأفكار، لكن يأتي الابتكار لوضع هذه الأشياء في الواقع العملي، ويحولها إلى حلول تناسب الوضع الحالي والإمكانيات المتوفرة، وهو ما يخلق في النهاية القيمة الحقيقية من عملية الإبداع ككل.
كيف يمكنك تطوير مهارات التفكير الإبداعي؟
على الرغم من قناعة البعض بأنّ الإبداع لا يمكن تعليمه، فإن بعض الدراسات تشير إلى عكس ذلك، من بينها دراسة أجراها جورج لاند تشير إلى أننا مبدعون بشكل طبيعي، وما نتعلّمه مع الوقت هو ما يتحكم في استمرارية هذا الأمر من عدمه، فالإبداع مهارة يمكن تطويرها وإدارتها بشكل كامل.
يبدأ الإبداع بالتعلّم والمعرفة وتطويرها إلى ما يصل بها إلى الإبداع والابتكار، فيمكنك تعلّم كيف تصبح أكثر إبداعًا من خلال التجربة والاستكشاف وتنمية الخيال في المواقف المختلفة. كما أشارت بعض الدراسات إلى السلوكيات التي تساعد على تحقيق ذلك، حيث تتكون من خمس سلوكيات رئيسية تحسّن من قدرة الإبداع كالتالي:
1- الربط: القدرة على رسم الروابط بين التفاصيل المختلفة، سواءً من خلال طرح مجموعة من الأسئلة، أو جمع مكونات وأفكار قد لا يكون بينها صلة في تصور واحد. يزيد الربط من فاعلية الاستفادة من الأفكار، ويؤدي إلى خلق أفكار جديدة دون الحاجة إلى اختراعها من البداية، ويعتبر سلوك مهم في تطوير الإبداع.
2- التساؤل: القدرة على طرح أسئلة حول المواقف والظروف المختلفة، وهو ما يعني عدم القبول بالمألوف دون بحث، لكن دائمًا محاولة التركيز على الأسئلة المفتوحة التي تجعل هناك القدرة على رؤية الأمور من منظور آخر غير الموجود حاليًا. يحرر التساؤل الحدود التي نضعها حول العقل والتي تتحكم دائمًا في مساره في التفكير وتجعله يقبل بالإجابات التقليدية، وبالتالي يمكن تحسين قدرة الإبداع من ذلك.
3- المراقبة: لا يمكن تطوير الإبداع بدون وجود القدرة على الملاحظة والتدقيق في طريقة حدوث الأشياء من حولنا، لأنّ هذا ما يجعلنا نفهم الطرق التقليدية، ومن ثم إمكانية إيجاد طرق مختلفة لتنفيذها.
4- التشبيك: من أهم الأدوات في تطوير التفكير الإبداعي هي اللقاء بأشخاص وأفكار ووجهات نظر مختلفة عن المعتاد، فلطالما أحطنا أنفسنا بأشخاص يشبهوننا كليًا، فإنّ هذا يجعل هناك قدر كبير من التشابه في الأفكار وبالتالي زيادة التقليد والاعتياد لطرق واحدة في التعامل. أمّا اللقاء مع أشخاص مختلفين، فإنّه يغيّر من نظرتنا للأشياء تمامًا، لأنّه يجعلنا نرى العالم من أعينهم، ومن ثمّ تكوين تصورات مختلفة.
5- التجريب: لا يمكنك الاكتفاء بالسلوكيات السابقة بدون التجريب للأفكار التي ستظهر، لذا يتطلب الأمر دائمًا القيام بتجارب متنوعة لمحاولة معرفة الأفكار التي ستنتج عن هذا الأمر وكيف سيكون أثرها في الواقع، حتى لو تمثل ذلك في مجرد طرح بسيط للتصورات المختلفة التي تظهر كنتيجة لذلك.
كيف يمكنك تطبيق التفكير الإبداعي في خطوات عملية؟
يترتب على الفقرتين السابقتين إدراك أنّ السر الأكبر للنجاح لا يتمثل فقط في التفكير الإبداعي المطلق، ولكن في القدرة على خلق قيمة حقيقية من هذا الإبداع، ومن خلال تطوير السلوكيات التي تسهّل حدوث ذلك، وفي الوقت ذاته استخدام منهجية في تطبيقه على أرض الواقع، يمكن تمثيلها في الخطوات التالية:
1- التحضير: تبدأ الخطوة الأولى في التفكير الإبداعي بتحديد الوضع الحالي الموجود بالضبط، هل هناك مشكلة مع العملاء وعدم قناعتهم بالمنتج؟ هل لديك رغبة في تحقيق المزيد عن الموجود حاليًا وزيادة المبيعات؟ لأنّ التعريف المحدد للوضع الحالي هو ما سيوجّه تفكيرك.
بعد الانتهاء من تحديد الوضع الحالي، يتطلب الأمر البحث عن المعلومات المرتبطة به، سواءً الإحصائيات أو الأرقام أو التقارير السابقة، والتي يمكنك منها فهم كل ما يتعلّق بالوضع الموجود تحديدًا. من المهم في خطوة التحضير ألّا تضع عليها أي قيود لتحكمها، بل اهتم دائمًا بالبحث في جميع الاتّجاهات التي من شأنها مساعدتك، سواءً داخل عملك أو خارجه.
2- الاستعداد النفسي للإبداع: من أهم الأسباب التي تؤدي إلى فشل الكثير من الأفكار الإبداعية هي تمسكنا بالأفكار التي نألفها، حتى لو كانت البيانات تقول عكس ذلك، لذا تحتاج عملية الإبداع أن نستعد لها جيدًا، أن نظهر قبولنا بالخروج من مناطق الراحة التي اعتدنا عليها في التعامل مع المشكلات، مع إظهار القدرة على تحمل المخاطرة.
في الوقت ذاته يجب أن ندرك بأنّ التفكير الإبداعي يعني بالضرورة مصطلح التفكير خارج الصندوق، بل يحتمل كون الأفكار المبدعة هي من داخل الصندوق، لكن من خلال التفكير بها بصورة مختلفة، في النهاية الهدف هو الإتيان بأفكار قابلة للتحقيق في الواقع، لا أفكار خيالية جيدة ولكنّها غير صالحة للتطبيق.
في الواقع هذا يتنافى مع معنى الإبداع والابتكار، لذا من المهم الإدراك بأنّ الإبداع ليس سحرًا لإنجاح الفكرة، لكنّه فقط يساعدك على رؤية الأشياء من منظور مختلف. قد يكون أبسط نهج للتفكير الإبداعي هو الاستفادة من العناصر الموجودة بالفعل، وإعادة تحويلها ودمجها معًا بشكلٍ آخر.
3- الاحتضان.. ما هي الحلول المتاحة؟: في هذه الخطوة يمكنك البدء في توظيف مهارة مثل حل المشكلات من أجل تحديد الأفكار المناسبة، هنا أنت لا تختار أي حل لتطبيقها، لكنّك تعمل على جمع واستيعاب كل الأفكار المطروحة واحتضانها معًا، ومنها تضع الأساس المناسب لتنفيذها بالتصور الأفضل في الخطوات القادمة.
4- التنوير.. أن تضع يدك على الفكرة المناسبة: في هذه الخطوة يمكنك البدء في المقارنة بين الأفكار، حتى يمكنك اختيار الفكرة الأكثر ملاءمة، وفي هذه النقطة تحديدًا يمكنك القول بأنّك تحولت إلى حالة الابتكار، حيث خرجت من حيّز التصورات النظرية، وبدأت في مرحلة التطبيق العملي للأفكار.
5- التحقق من فاعلية الحل: بعد الانتهاء من تطوير فكرتك بشكل كامل، يجب عليك الحكم على قدرتها على العمل بنجاح أو لا في الواقع، الأفضل في هذه الخطوة هو الاستعانة بالحكم من زملائك أو من خبراء في المجال، بحيث يمكنك التأكد من كون الفكرة مقبولة، أو تحتاج إلى تعديلات سواءً كانت بسيطة أو كبيرة، أو مرفوضة تمامًا، وبالتالي لا بد من إعادة العملية مرة أخرى بالكامل.
6- التفكير النقدي: في هذه الخطوة من التفكير الإبداعي يجب عليك التحول للتحلي بالتفكير النقدي، حيث ترى الأمور بنظرة ناقدة وتقيّم جدواها، من خلال توقع المشاكل التي يمكنها الحدوث وكيف يجب التعامل معها، تختلف هذه الخطوة عن السابقة في أنّها غالبًا تكون شخصية فقط.
يمكنك أن تفهم من خلال خطوات عملية التفكير الإبداعي لماذا جاءت في المرتبة الثالثة بعد كلٍ من حل المشكلات المعقدة والتفكير النقدي في التوصيات حول مهارات المستقبل، لأنّ الإبداع الحقيقي يحتاج لامتلاكك المهارتين السابقتين معًا، ويضيف لهما قيمة كبيرة، لأنّ المستقبل يحتاج إلى قدرتك على التفكير بمختلف أنواعه في المقام الأول، فهذا ما يضمن لك النجاح في أي مهمة تسند إليك في أي عمل.
المصادر: