كيف شكلت الثورات الصناعية مهام إدارة الموارد البشرية؟
يقول رجل الأعمال الأمريكي دوغلاس كونانت: "للفوز بالسوق، يجب عليك أولًا الفوز في مكان العمل"، في إشارة لأنّ النجاح في النهاية يقوم على أداء الأفراد داخل الشركات، فأي وظائف تُؤدى بواسطة البشر وهم المسؤولون عن كل شيء، وبالتالي لا بد من توجيه الأولوية دائمًا لهم.
لم يكن هذا الوضع منذ عدة عقود، نظرًا لأنّ طبيعة المهام ذاتها اختلفت عن قبل، ولهذا ارتبط التطور في الاهتمام بالأفراد، متمثلًا فيما وصلت إليه إدارة الموارد البشرية الآن، بظهور الثورات الصناعية، التي غيّرت شكل العمل تمامًا.
من المجتمع الزراعي إلى الثورة الصناعة: عندما تغيّر محور الاهتمام
قبل بدء الثورة الصناعية، قام المجتمع في أساسه على الاقتصاد الزراعي بالإنتاج المحدود الذي ينتجه الأفراد، إلى جانب وجود عدد قليل من الحرف، والتي تُجرى بواسطة مجموعة بسيطة من الأفراد، ولم يكن الأمر يحتاج إلى قدر من التخصصية، وبالتالي لم يكن هناك حاجة لأي تنظيم للأمر.
بعد قيام الثورة الصناعية الأولى، تحوّل الاقتصاد من الزراعة إلى الصناعة، وترتب على ذلك بالتبعية حدوث تغيّر وتحديث في الوسائل المستخدمة في العمل، مع زيادة في العمالة، وبالتالي أصبح هناك حاجة إلى وجود قسم يؤدي هذا الدور ويتولى المسئولية، فتم إنشاء إدارة شئون الموظفين لتولي هذا الدور، ومسئوليها الرئيسية هي: الرواتب، سجلات العمالة، مرافق السكن والرعاية الصحية للعمالة.
بعد عام 1850 شهد مصطلح إدارة الموارد البشرية تطورًا كبيرًا، حيث بدأ يُنظر للموارد البشرية في إطار كونها أكثر أهمية، فتخطى الأمر النظر إلى العمال باعتبارهم وسائل للتنفيذ، ولكن كذلك موارد يجب الاستثمار فيها بصورة أكبر.
أدت هذه النظرة إلى تطوير مبادئ إدارة الموارد البشرية، فأصبحت تشمل كذلك: تدريب العمالة، والمحافظة على انتظام الأجور، وكيفية تحقيق إنتاجية أفضل في العمل. واستمرت الدراسات في الظهور بهدف واحد وهو كيفية استثمار الموارد البشرية بأفضل شكل ممكن، لأنّهم من أهم موارد الشركة.
كنتيجة لهذه المبادئ، أصبحت إدارة الموارد البشرية وظيفة ضرورية ضمن أنشطة أي عمل تجاري، ولا غنى عن وجودها أبدًا، وتوسّعت المهام لتشمل: كيفية توظيف واختيار العمالة الجيدة، نظام التحفيز والمزايا، التدريب والتطوير، نظام الأجور والتقييمات المتعلّقة بالأداء.
الثورة الصناعية الرابعة: المزيد من الآلات، القليل من البشر
لا يمكن لأحد إنكار حقيقة أن الثورة الصناعية الرابعة تفرض سيطرتها على الحياة الآن، ويمكن رؤية أثرها في جميع القطاعات، حيث زاد التوجّه نحو الاعتماد على الآلات في العمل، مع تقليل الاعتماد على التفاعل البشري في بعض المهام المتعلّقة بالعمليات.
باختصار، تهدف الفكرة من استخدام الآلة لتقليل الوقت الذي يضيّعه البشر في مهام المراقبة، واستثمار ذلك في نواحي أخرى داخل العمل، مثل إصلاح الآلة عند وجود عيب في الآلة، وهذا يعني فقط تغيّر في طبيعة الدور المطلوب من البشر، وتركّزه نحو مهام معينة هي الأهم.
على الرغم من ذلك، هناك عقبة تظهر في طريق الانسجام بين البشر والتكنولوجيا، تتمثل في ثقافة الأفراد، والذين يعتقدون أنّ التغيّرات التكنولوجية سيترتب عليها حالة من عدم الاستقرار الوظيفي لهم، أي أنّ وظائفهم أصبحت مهددة بسبب ذلك، فلا أحد يريد استبداله بالتأكيد، حتى لو زادت دقة التنفيذ وقل معدل الخطأ.
من هنا تظهر أهمية إدارة الموارد البشرية في تغيير هذا المبدأ في عقول الموظفين، وتشجيعهم على محاولة الاستفادة من الوضع الحالي في تحسين مهاراتهم وإمكانياتهم، بالشكل الذي يسمح لهم بالاستفادة من وجود الآلات، ومن ثم يترتب على ذلك نتائج أفضل للشركات وإنتاجية عالية، وهو ما قد يؤدي إلى حالة من الراحة إلى جانب مقابل مادي أفضل.
إلى أين يسير مستقبل إدارة الموارد البشرية؟
في الحقيقة أثبت لنا التاريخ أنّ الثورات الصناعية السابقة نتج عنها المزيد من الفرص لا العكس، فكلّما ظهر الخوف لدى الموظفين من خسارة وظائفهم، أتت الثورة الصناعية لإثبات خطأ هذا الافتراض، بل دائمًا ما جلبت الابتكارات الناتجة عنها المزيد من الوظائف، وبالتالي كانت وسيلة لخلق المزيد من الوظائف لا التدمير حسب اعتقاد البعض.
يتطلّب الأمر فقط إعادة رؤية الأشياء وتقييمها من زاوية مختلفة، وفهم الدور الحقيقي الذي يجب القيام به مع الموظفين، بدءًا من تغيير العقلية الموجودة لديهم، وتوضيح الفائدة المتوقعة لهم من الوضع الجديد، مثل زيادة الأمان في بعض الوظائف وسهولة تنفيذها، والتأكيد على أهمية العنصر البشري كمورد رئيس دائمًا لا يُمكن الاستغناء عنه.
من أهم المهام المطلوبة من إدارة الموارد البشرية حاليًا أن تصبح استباقية لا رد فعل للتغيّرات الحادثة، من خلال التفكير في نظام تدريب وتطوير الموظفين لمهارات المستقبل، ومحاولة التركيز على الفرص الموجودة، لا الانتظار حتى يصبح التغيير فعلًا إلزاميًا.
في النهاية هذا ما يضمن استمرارية فاعلية إدارة الموارد البشرية للشركات، فهذا يضمن استمرار الموظفين في وظائفهم دون قلق وزيادة إنتاجيتهم في العمل، وكذلك استثمار طاقاتهم في تحقيق الهدف العام للشركة، فأن تكون استباقيًا في عالم الأعمال هو ما يضمن لك الاستمرارية في النجاح.
المصادر: