«إجناز سيميلويس» الأب الروحي لمكافحة العدوى
النصيحة المتكررة التي ما ننفك نسمعها منذ انتشار جائحة كورونا هي ضرورة غسل اليدين. فغسل اليدين هو خط الدفاع الأول الذي نملكه لمواجهة الفيروس ومنع إصابتنا به وللحد من انتشاره.
فعل بسيط له أثره الكبير في الحد من انتشار الفيروسات، وقد يبدو أنه كان جزءاً من الممارسات الحياتية بشكل عام والطبية بشكل خاص منذ الأزل ولكن الواقع ليس كذلك.
تاريخ غسل اليدين يعود إلى العصور القديمة وله أسسه في الأديان، وغالباً ما كان يرتبط بالطقوس الدينية، فجميع الأديان السماوية تذكر غسل اليدين وتتحدث عن نظافة الجسد.
وقد يخيل للبعض بأن غسل اليدين في عالم الطب لطالما كان موجوداً وأن الممارسة هذه كانت السبب في انتشار المبدأ، وتحوّله ليكون جزءاً من حياتنا اليومية. ولكن الواقع المفاجئ هو أن القصة مغايرة وأن الأطباء وأيديهم المتسخة كانوا السبب في موت الآلاف.
الأيدي المتسخة القاتلة
طقوس غسل اليدين عبر التاريخ لطالما أتت مع الأزمات الصحية، فخلال فترة الموت الأسود في القرن الرابع عشر، كانت نسبة الوفيات بين يهود أوروبا هي الأقل مقارنة بغيرهم. والسبب وفق عدد من الباحثين هو واقع أن دينهم كان يحتم عليهم غسل أيديهم ما شكل وسيلة لحمايتهم من انتقال الوباء.
ولكن تحول غسل اليدين لأمر إلزامي وجزء من الرعاية الصحية لم يظهر إلا بحلول القرن التاسع عشر، وذلك عندما قام طبيب مجري شاب يسمى إجناز سيميلويس بدراسة مبنية على المشاهدة في مستشفى فيينا العام.
في تلك الفترة لم يكن العلم يحكم كل القرارات المتعلقة بالطب، بل في الواقع الطب كان منفصلاً إلى حد ما عن كل الأمور الأخرى وقد تطلب الربط بين المجالين بعضاً من الوقت، وما قام به الطبيب الشاب كان الأول من نوعه، وبطبيعة الحال كل ما هو جديد غالباً ما يقابَل بالرفض.
من القانون إلى الطب
كانت نية الشاب المجري أن يدرس القانون، وهذا ما قام به بالفعل ولكنه وخلال سنواته الدراسية شعر بخيبة أمل من الاختصاص الذي اختاره لنفسه وبالتالي قرر القيام بنقلة نوعية ودراسة الطب.
تخرج إجناس من جامعة فيينا عام ١٨٤٤ وظن بأن واقع تخرجه من جامعة مرموقة سيمكنه من اختيار التخصص الذي يريده، فتقدم بطلب إلى علم الأمراض ولاحقاً الطب العام، ولكنه قوبل بالرفض.
حينها توجه إلى طب التوليد، والذي كان مجالاً جديداً نسبياً للأطباء، إذ كان التوليد محصوراً بالقابلات.
وهكذا توجه إلى مجال طبي لم يكن «مرموقاً» وذلك لأن الحصول على منصب فيه كان أسهل من غيره، وبالفعل بدأ بالعمل في مستشفى فيينا في الأول من يوليو عام ١٨٤٦.
البداية: الموت في كل مكان
السبب الأول لوفاة الأمهات في أوروبا خلال تلك الفترة كان حمى النفاس وهي عدوى، يُعرف الآن أنها تحدث بسبب بكتيريا المكورات العقدية.
قبل عام ١٨٢٣ كان معدل وفاة الأمهات بعد الولادة هو ١ من كل ١٠٠ امرأة في مستشفى فيينا. ولكن ومع تبدل القوانين وإلزام طلاب الطب وأطباء التوليد بإجراء عمليات التشريح بالإضافة إلى مهامهم ارتفعت معدلات وفاة الأمهات بنسبة ٧،٥٪.
خلال الفترة نفسها قامت مستشفى فيينا بافتتاح قسم ثانٍ للتوليد وكانت أغلبية العاملات فيه هن القابلات، بينما القسم القديم والذي كان يعمل فيه إجناس كان يعمل فيه طلاب الطب وأطباء التوليد.
قسم إجناز سيميلويس كان يعاني من نسبة وفيات أعلى بكثير من قسم القابلات. وفي الواقع كانت امرأة من كل ٥ نساء تفقد حياتها بعد الولادة.
الواقع هذا أثار إحباطه واستغرابه، فقرر البحث لمعرفة الأسباب، فدرس الممارسات والتقنيات المتشابهة وتلك المختلفة بين القسمين. والاختلاف الوحيد بين القسمين كان أن القسم الأول يعمل فيه الذكور والثاني النساء.
غسل الجراثيم القادمة من الأموات
خلال تلك الفترة كان المجتمع الطبي على قناعة تامة بأن الهواء الفاسد هو السبب في نقل العدوى والأمراض، وسيتطلب الأمر عقدين من الزمن قبل أن يتم إثبات نظرية الفيروسات المسببة للأمراض والعدوى.
إجناز سيميلويس توصّل إلى سبب تفشي حمى النفاس بعد وفاة صديقه وزميله في القسم جايكون كوليتشكا. كوليتشكا توفي بعد جرح يده خلال قيامه بعملية تشريح لامرأة ماتت بسبب حمى النفاس.
وقد أجرى سيميلويس عملية تشريح لجثة صديقه واكتشف بأن صديقه يعاني من التهاب حاد سببه حمى النفاس.
لقد أثبت مبدأ العدوى وتوصل إلى خلاصة أن الالتهابات في جثة صديقه مصدرها جثة المرأة التي قام بتشريحها، وعليه فإن أيدي الطلاب والأطباء المعالجين تنقل هذه العدوى إلى النساء الحوامل اللواتي يدخلن المستشفى.
وما دعم نظريته هو أن القابلات لم يكن يجرين عمليات تشريح، وهذا ما فسّر انخفاض معدلات الوفيات في قسمهن. فالأطباء والطلاب كانوا يجرون التشريح ونادراً ما يغسلون أيديهم قبل التوجه إلى قسم التوليد.
وتجدر الإشارة هنا إلا أن القفازات الطبية لم تكن تستخدم خلال تلك الفترة في المستشفيات وهي لم تعتمد بشكل كبير إلا في نهايات القرن التاسع عشر.
وبما أن محلول الكلوريد كان يستخدم للتخلص من الروائح الكريهة جعل إجناس غسل اليدين بهذا المحلول إلزامياً في قسمه.
ومنذ مايو من العام ١٨٤٧ أي شخص يدخل القسم سواء كان طبياً أو زائراً كان عليه غسل يديه بالمحلول وخلال فترة قصيرة انخفض معدل الوفيات من ١٨٪ إلى ١٪.
رفض التغيير والعوامل التاريخية المعاكسة
ولكن ولسوء الحظ اكتشاف إجناس كان حاله حال اكتشاف زميل آخر له في ذلك الوقت وهو جون سنو الذي اكتشف بأن المياه هي التي تنقل الكوليرا وليس الهواء الفاسد.. الرفض.
المجتمع الطبي لم يكن مستعداً لأي تغيير من أي نوع كان، وبالتالي لم يتقبل الجميع ضرورة غسل اليدين، برغم أن الواقع أثبت أهميته.
ولكن عناد المجتمع الطبي لم يكن السبب الوحيد، فحينها لم تكن نطرية جرثومية المرض موجودة ومثبتة، كما أن رئيس قسم التوليد، الذي شعر بأن إجناس تجاوزه وبات أكثر شهرة منه، رفض إعادة تعيينه في القسم.
ولكن خلال تلك الفترة قام إجناس وعدد من طلابه بالتواصل مع عدد كبير من المستشفيات حول العالم مشاركين إياهم بالاكتشاف المذهل والنتائج، كما قام عدد من طلابه بنشر نتائج ما يحدث في مستشفى فيينا في دوريات طبية.
ورغم أن الأمور كانت تبشر بالخير لكن الأحداث السياسية في أوروبا في عام ١٨٤٨ أثّرت بشكل سلبي على مسار إجناز سيميلويس المهني.
ففي فيينا قاد طلاب الطب الحركات الاحتجاجية المطلبية، ولاحقاً تدهورت الأمور بشكل كبير في البلاد. وبرغم أنه لا يوجد أي دليل بأن إجناز سيميلويس شارك بالحركات الاحتجاجية، لكن عدداً من أشقائه كانوا جزءاً من الحركة الثورية؛ وعليه مدير المستشفى لم يكن يثق به وتخلص منه حين سنحت له الفرصة.
النهاية المأساوية
الوقوف بوجه السلطة ودحض قناعات قديمة في فترة زمنية كان التغيير يحدث ببطء شديد فيها، يعني أن الشخص الداعي للتغيير سيكوّن لنفسه عدداً كبيراً من الأعداء. وبما أن نظرية إجناز سيميلويس كانت أن الأطباء هم سبب العدوى، فإن عدداً كبيراً منهم شعر بالإهانة.
الجسم الطبي لن يتقبل هذا الواقع إلا بعد عقد حين سيثبت لهم لويس باستور بأن الميكروبات تأتي من ميكروبات أخرى ولاحقاً سيثبت روبرت كوخ بأن كل مرض يرتبط بنوع محدد من الجراثيم.
المسارات هذه أوضحت مبدأ السبب والنتيجة ولكن هذا لم يكن مكتشفاً خلال حياة إجناز سيميلويس.
تم طرده من عمله وأمضى حياته وهو يحاول إقناع الناس بغسل أيديهم، أمر سيستمر أبناء الطبقة المخملية برفضه باعتبار أن غسلها يعني أن أيديهم متسخة وهذا أمر لا يمكنهم تقبله.
عانى إجناز سيميلويس من انهيار عصبي وتبدلت تصرفاته بشكل كبير وبات مصدر إحراج لنفسه وزملائه وعائلته وكان يعاني من هوس باكتشافه، فكل حديث كان يتمحور حول حمى النفاس.
سبب الانهيار هذا غير معروف، بعض الخبراء اليوم يقولون إنه ربما عانى من مرض ألزهايمر والبعض الآخر يربط مزاجه المتقلب بمرض الزهري وقد يكون السبب بكل بساطة التوتر والإحباط.
بعد الانهيار تم إدخاله إلى مصحة عقلية وقد حاول في إحدى المرات مغادرتها فتعرض للضرب من قبل الحراس وتم ربطه ووضعه في زنزانة مظلمة. وبما أن علاج المرضى خلال تلك الفترة كان عبارة عن ربطهم بسترة المجانين وسكب الماء البارد عليهم توفي إجناس بعد أسبوعين من محاولة هربه وتحديدا في ١٣أغسطس عام ١٨٦٥ وكان حينها في الـ ٤٧ من عمره فقط.
أما سبب الوفاة فهو التهاب جرح تسبب به الحراس خلال ضربه ما أدى الى الغرغرينا.
دفن إجناس سيميلويس بعد وفاته بيومين ولم يحضر الجنازة سوى عدد قليل من الأشخاص، إعلانات مقتضبة عن وفاته ظهرت في عدد قليل من الدوريات الطبية في فيينا وبودابست.
ورغم أن قوانين الجمعية الطبية تحتم عليها إلقاء خطاب تكريمي لأي زميل طبيب يتوفّى ولكن وفاة إجناس لم يتم حتى ذكرها.
تم تعيين يانوس ديش بعد إجناس سيميلويس في قسم التوليد ومباشرة بعد توليه منصبه ارتفعت معدلات الوفيات ٦٪. ورغم أن الواقع كان واضحاً وضوح الشمس لكنهم قرروا تجاهل الأمر ودفن إجراءات إجناس معه.