الاقتصاد السلوكي بين الماضي والحاضر والمستقبل
الاقتصاد السلوكي بالتعريف هو الدراسة التي تعنى بتحليل القرارات الاقتصادية والمالية التي يتخذها كل من الأفراد والمؤسسات القائمة بوظائف اقتصادية مثل: المستهلكين، المقترضين والمستثمرين عن طريق دراسة العوامل الاجتماعية والفكرية.
بالرغم من كثرة النقاش حول واقعية هذا العلم الجديد نسبيا، فإن الأدلة التي يستند إليها قوية إلى حد ما، وليس من السهل تجاهلها.
إن المختصين بعلم الاقتصاد السلوكي لا يهتمون فقط بآثار الأفراد والمؤسسات على الأسواق بل يهمهم أيضا قرارات العامة وأفراد المجتمع على الصعيد الاقتصادي.
يبدو أن الجميع في وقتنا الحالي يتحدث عن الاقتصاد السلوكي حيث تقوم الحكومات بدمج المفاهيم السلوكية في السياسة، ولكن ما هي الأسباب التي تجعل الشركات التجارية تقوم باستخدام هذه المفاهيم لرفد وتعميق استراتيجياتها التسويقية، ولماذا تمت الاستعانة بالاقتصاد السلوكي في فهم العلاقات بين الموظفين وأصحاب العمل؟ يرجح أن يعود السبب في ذلك إلى جمع الاقتصاد السلوكي بين مجموعة فريدة من الأفكار والعلوم الاجتماعية، فهو يمزج بين أقوى الأدوات التحليلية للاقتصاديين التي يتم تطبيقها تقليدياً بطريقة محددة لكشف الحوافز والدوافع الاقتصادية التي تحركنا جميعاً، بالإضافة إلى كونها تعالج الخلل الجوهري في اتجاهات الاقتصاد غير السلوكي، كما أنه يعتمد على مفهوم منطقي محدد جداً ويرتكز على تطبيق الأدوات الرياضية الدقيقة في وضع أفضل الحلول لأنفسهم أو لشركاتهم.
وقد تعمق المختصون بالاقتصاد السلوكي الحديث بشكل أكبر عبر جمع المفاهيم الوافرة المستمدة من علم النفس لمعرفة آلية تغيير الحوافز والدوافع الاقتصادية التي تعتمد في كثير من الأحيان على التأثيرات النفسية التي لا يستطيع تفسيرها كل من علم الاقتصاد أو علم النفس على حدة، حيث يفتقر علم النفس بمعزل عن علم الاقتصاد إلى الهيكلية والتوجيه التحليلي خاصةً في توصيف كيفية اتخاذ القرارات اليومية، كما يحتاج علم الاقتصاد إلى علم النفس في استيعاب المفاهيم الثابتة والمعرفة الحدسية، ويشكلان معاً رؤية دقيقة متفردة تمكننا من فهم طرق تفكير الأشخاص وكيفية اتخاذهم للقرارات والخيارات التي لم يتمكن نظام أكاديمي واحد بتفسيرها في أي وقت من الأوقات، وتساهم في تكوين مفاهيم نظرية ورؤى عملية وسياسية جديدة تتمتع في أحسن الأحوال بالقدرة على تغيير سبل العيش والازدهار والرفاهية على جميع المستويات.
تطور الاقتصاد السلوكي
تزايدت النقاشات الجدّية حول الاقتصاد السلوكي بشكل كبير في السنوات العشر الماضية تقريباً، وبدأت بالتزامن مع الحدث الأبرز في عام 2012 عندما حاز كل من عالمي النفس الاقتصادي دانييل كانيمان وفيرنون سميث بجائزة نوبل للاقتصاد، أما الحدث الثاني كان في عام 2017 عندما حصل عالم الاقتصاد السلوكي ريتشارد تالر على جائزة نوبل، وهو الذي اشتهر بعمله في مجال التمويل السلوكي والسياسة العامة السلوكية المعروفة باسم "نظرية التنبيه".
وكان لجميع هؤلاء الباحثين تأثير هائل على السياسة الحديثة في العالم ولا تقتصر على تقديم المشورة في تحديد سياسة كل من الرئيس الأمريكي آنذاك باراك أوباما ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون.
يبرز تطور الاقتصاد السلوكي بين الحدثين البارزين لجائزة نوبل في عام 2012 و2017، كما تحول الاقتصاد السلوكي من مفاهيم نظرية عامة إلى تطبيقات ذات أهمية سياسية حقيقية كبيرة في عالم اليوم بالنسبة لواضعي السياسات العامة والتجارية على حد سواء. وفي الوقت نفسه، يوفر هذا المجال لعامة الناس العديد من المفاهيم التي تمكنهم من مواجهة التحديات اليومية في اتخاذ القرارات، إلا أن ظهور الاقتصاد السلوكي لأول مرة يعود لفترة زمنية طويلة تسبق هذين الحدثين البارزين في القرن الحادي والعشرين، وقد يجادل البعض في أن جميع العلوم لاقتصادية يجب أن تركز على السلوك إذا كان ذا تاثير أكبر على خياراتنا وقراراتنا، حيث إن علم الاقتصاد يعتمد على دراسة القرارات بشكل عام.
ومنذ القرن التاسع عشر، بدأ علم الاقتصاد بالابتعاد عن دراسة السلوك لأنه مفهوم واسع من حيث سيكولوجية الاختيار فيما يتعلق باعتبار الخيارات المرصودة كمقياس للتفضيلات المكشوفة، حيث إن تقديم قصة بسيطة وأنيقة حول هذه الخيارات يكشف متى نقوم باتخاذ القرار، ويمكن أن تكون القصة بسيطة جداً في حال افترض الباحثون أن صانعي القرار الاقتصادي ملتزمون بالقواعد السلوكية الصارمة وخصوصاً إذا افترضنا أن المستهلكين يهدفون إلى زيادة رضاهم، وأن الشركات تسعى إلى زيادة الأرباح. وفي هذا الإطار، يُفترض أن المستهلكين والشركات يقومون بذلك في ظل الاقتصاد السائد بأفضل طريقة ممكنة من خلال تطبيق القواعد الرياضية الدقيقة لوضع أفضل الحلول. ولقد قام الاقتصاديون المعاصرون أثناء عملية بناء هذه النماذج الرياضية الأنيقة التي استولت على القواعد السلوكية بالتجرد من كل التعقيدات النفسية والاجتماعية خلال عملية صنع القرار في العالم الحقيقي.
وقبل أن يقوم الاقتصاد الحديث بوضع تحليل الاختيار، قضى الباحثون الكثير من الوقت عبر التاريخ مروراً بجميع العلماء ومنهم آدم سميث، في معرفة مدى تأثر الحوافز والدوافع التي تشكل عناصر التحليل الاقتصادي بالعوامل النفسية، والتي تعد مصدر نشوء الاقتصاد السلوكي، ولكي نتمكن من فهم ماهية عمل الباحثون في الاقتصاد السلوكي بشكل أعمق، فيجب علينا تسليط الضوء على مجموعة من الموضوعات التي يستكشفها هؤلاء العلماء لتوضيح مدى أهمية وتأثير نظرياتهم، والتي تشمل تحليلاتهم السلوكية للحوافز والدوافع، والتأثيرات الاجتماعية، والاستدلالات، والتفضيلات، والمخاطر، بالإضافة إلى الوقت والتخطيط والتأثيرات الشخصية والعاطفية والتي تساهم جميعها في اتخاذ القرار.
آفاق جديدة للاقتصاد السلوكي
وفي وقتنا الحالي، تعمل النظريات المستمدة من الاقتصاد السلوكي على تغيير شكل الاقتصاد السائد، كما تؤثر بشكل كبير على عملية صنع السياسات من خلال نظرية "التنبيه".
وبالتالي، هل يوجد آفاق جديدة للاقتصاد السلوكي أم أننا قد حصلنا على كل المعرفة التي نحتاجها؟
بالنسبة لنظرية التنبيه، يوجد حاجة إلى المزيد من الأدلة لمعرفة مدى تطبيق وقوة السياسات التي تعتمد على نظرية التنبيه، وإذا ما كانت قابلة للتطوير على أرض الواقع، ومن الجدير بالذكر أنه قد تم تحقيق تقدم كبير في هذا الاتجاه. ويجب أيضاً التركيز على مجال رئيسي آخر تم إهماله إلى حد كبير حتى وقت قريب وهو الإقتصاد الكلي السلوكي، حيث قام العالم الاقتصادي البريطاني جون ماينارد كينز بدور رائد في تحليل التأثيرات النفسية ولاسيما التقاليد الاجتماعية على الأسواق المالية، ودراسة آثارها المترتبة على الاقتصاد الكلي عموماً، ويتم اليوم إعادة النظر في الكثير من أفكاره. وعلى أي حال، يوجد عقبة كبيرة أمام الاقتصاد الكلي السلوكي تتمثل في صعوبة ربط النماذج السلوكية التي حددها علماء الاقتصاد السلوكي على أسس ثابتة ضمن سياق الاقتصاد الجزئي في نموذج الاقتصاد الكلي. ومع ذلك، تبرز منهجيات جديدة على سبيل المثال في شكل النموذج المعتمد على الوكيل والتعلم الآلي، والتي إذا تمكنا من تطبيقها بنجاح في تطوير نماذج اقتصادية كلية سلوكية منطقية، فإن الاقتصاد السلوكي سيؤسس في العقد القادم لمجموعة مبتكرة ومؤثرة من المفاهيم التي سوف تتفوق على تلك التي ظهرت في العشر سنوات الفائتة.