أزمة منتصف العمر المهنية.. كيف تشعل الشغف بداخلك وتحول الركود إلى قوة؟
كنت في السابق تحب عملك، أما الآن فيبدو باهتاً لا متعة فيه على الإطلاق، والوظيفة نفسها التي كانت تثير حماستك، باتت المصدر الأساسي للإحباط، بحيث تجد نفسك تتساءل: "هل هذا كل شيء؟ هل هذا الواقع هو حياتي؟!".
إن كان الشعور هذا مألوفاً، فأعلم أنك لست وحدك، فالمهنيون في مختلف المناصب، خصوصاً أولئك الذي يتمتعون بمسيرات مهنية يحسدون عليها، معروضون لفترة من الركود في منتصف حياتهم المهنية.
ووفق دراسة حديثة أجراها "مركز أبحاث مستقبل العمل Future of Work Research Centre"، في جامعة سري بالمملكة المتحدة، فإن المديرين والمهنيين والخبراء في المجالات المختلفة، بما في ذلك المحامون والمحاسبون، أكثر عرضة من العمال ذوي المهارات الأقل للشعور بانخفاض معدلات الرضا، واختبار أزمة منتصف العمل المهنية، حين يبلغون عقدهم الرابع.
ما هي أزمة منتصف العمر المهنية؟
أزمة منتصف العمر المهنية، هي مرحلة من التذبذب العاطفي والمهني التي يمر بها كثيرون خلال المراحل الوسطى من مسيرتهم، وعادة تكون بين الثلاثين والخمسين من العمر، وتختلف هذه الأزمة عن مشاعر التوتر أو الإرهاق المعتادة في العمل، وذلك لكونها تشمل تشكيكاً عميقاً بالمسار الوظيفي والأهداف.
وخلال هذه الأزمة، يشعر الفرد بعدم الرضا، خيبة الأمل المهني، والانفصال عن المسار المهني رغم النجاحات السابقة، وقد يتساءل الشخص عن جدوى عمله، أو يشك في مهاراته، أو يصارع شعوراً بأن طموحاته لم تعد متوافقة مع وضعه الحالي، فالعمل الذي كان يوماً مصدرًا للحماس ولإثبات الذات لم يعد يقدم شيئاً، بل يترك شعوراً بالفراغ قائم على سؤال واحد: "هل هذا ما أريد فعله لبقية حياتي؟”.
الأسباب والعلامات الشائعة للركود المهني

أزمة الركود المهني هي نتيجة مجموعة من العوامل الشخصية والمهنية، منها:
أولاً: العوامل المهنية
- الركود والإرهاق:
بعد سنوات من العمل وفق الروتين نفسه وتحت الضغوطات نفسها، قد تشعر بأنك عالق في مكانك، فالتحدي غائب، والحماسة تراجعت، والنمو توقف.
- التوقعات غير المحققة:
الأهداف المهنية التي لم تحققها، أو الترقيات التي لم تحصل عليها تتسبب بخيبات أمل متكررة، وقد تدفعك للتشكيك في خياراتك المهنية.
- السقف الزجاجي:
إستعارة للدلالة على حاجز غير مرئي، يمنع مجموعات محددة من الوصول إلى مستويات مهنية معينة، فمحدودية التقدم الوظيفي بسبب الحواجز الهيكلية بالرغم من كفاءتك ستؤدي إلى الإحباط وعدم الرضا.
- الإحباط من القيادة أو ثفافة الشركة:
الإدارة السيئة أو بيئات العمل السامة، تعد من العوامل الأساسية للشعور بعدم الرضا، حتى إذا كان الراتب مغرياً.
ثانياً: العوامل الشخصية
- أزمة منتصف العمر ومنحنى السعادة:
حياة غالبية البشر تتمثل في منحنى السعادة على شكل U، والذي يظهر كنمط في أكثر من 100دولة، بغض النظر عن الجنس والعرق والثقافة، فالسعادة تكون مرتفعة في مرحلة الشباب، ثم تنخفض في منتصف العمر، لتعود وترتفع في المراحل الأخيرة، والمسار نفسه ينطبق على أزمة منتصف العمر المهنية.
- تغير الأولويات:
التغيرات الحياتية، مثل مسؤوليات الأبوة أو الانتقال إلى مكان جديد، قد تؤدي إلى تغيير الأولويات، ما يجعل المسار المهني يبدو أقل مقارنة بأمور أخرى.
- فقدان الدافع والثقة بالنفس:
عندما يشعر الموظف وبشكل متكرر بأنه لا يتم تقديره مهنياً، أو أن عمله بلا معنى، فقد يفقد الحافز وحتى ثقته بنفسه.
اقرأ أيضًا: كيفية بناء شبكة علاقات مهنية.. ولماذا تُعد جزءًا مهماً من التطور الوظيفي
استراتيجيات لإعادة إشعال الشغف المهني
رغم أن أزمة منتصف الحياة المهنية قد تكون مؤلمة وقاسية، ولكنها تمثل فرصة ذهبية للنمو، ومرحلة انطلاق نحو مسار جديد.
من الأزمة إلى الحافز
وفق مؤلفي كتاب "تراجع الرفاهية في منتصف العمر: قراءة نقدية The Mid-Life Dip in Well-Being: A Critique"، كارل جراهام وداني بلانكفلاور، فإن من الضروري للخروج السريع من "الوادي المظلم"، التركيز على التكيف مع نقاط القوة والضعف، وتجنب النظرة السلبية، وهذا يمكن تحقيقه من خلال:
- التأمل واعادة التقييم وفهم أسباب التراجع العاطفي، وإعادة تحديد الأولويات والقيم.
- العمل على تطوير الذات، باكتساب مهارات جديدة، واستكشاف فرص مهنية وشخصية.
- طلب الدعم والتواصل مع مستشارين للحصول على توجيه.
- إعادة تعريف النجاح، والتركيز على الرضا الداخلي بدلاً من المقاييس التقليدية.
- اتخاذ خطوات عملية، وتحديد أهداف صغيرة والعمل عليها تدريجيًا، لتجنب الشعور بالإحباط.
إعادة التأطير

بدلاً من اعتبارها انتكاسة، يمكن النظر إليها كمرحلة انتقالية طبيعية، فالسعي الدؤوب لتحقيق الترقيات والتقدم ، يمكن أن يودي إلى "الكمال السام"، خاصة لدى الأفراد الذين يحققون الانجازات الضخمة، مما يسبب القلق والإكتئاب، ومع تقدم العمر، يبدأ الفرد بالتساؤل حولها وحول جدواها، مع التمسك بمعتقدات غير واقعية حول ضرورة أن تكون جهوده الحالية بنفس المثالية.
إعادة تأطير هذه المشكلة كفرصة للنمو، يمكنها أن تقلل من الشعور بالندم والخجل من الذات، بسبب الشعور غير المنطقي بالفشل، وبدلاً من رؤية المسار المهني غير المتصاعد حالياً كعيب أو فشل، يمكن النظر إليه كفرصة للانتقال من مرحلة الشباب المهنية القائمة على النمو السريع، إلى مرحلة التقدم بالسن القائمة على النجاح الهادف والحكمة.
أسئلة أكبر لحياة أكبر
خلال مرحلة الشباب تبرز الأسئلة الأكثر إلحاحاً فيها، مثل: "كيف يمكنني الحصول على منصب أفضل/ ترقية/ راتب أكبر؟"، أم حالياً، فدلائل النجاح تلك لم تعد كذلك.
فمنتصف العمر هي فترة لطرح أسئلة مختلفة، ووفق المحلل النفسي والمؤلف يونج جيمس هوليس فإن "الأسئلة الأكبر تجلب لنا حياة أكبر"، وعليه فإن التوقف واعادة تعريف النجاح أساسي: "ما الذي يمنح حياتي معنى الآن؟"، "ما الذي أفعله حالياً لأنني أريد أن أفعله لا لأنني ملزم بفعله؟".
مقاربة اختبرتها الرئيسة التنفيذية السابقة لشركة بيبسي PepsiCo، اندرا نويي، التي وصلت إلى قمة المجد المهني وقادت واحدة من أكبر الشركات في العالم، ونالت الإشادة بفضل ذكائها الاستراتيجي وأدائها المميز، ولكن خلف هذه النجاحات كانت تواجه حقيقة مختلفة.
في مذكراتها "حياتي بكل تفاصيلها My Life in Full"، تتحدث "نويي" عن الضغوطات الناجمة عن محاولة التوفيق بين متطلبات العمل التي لا تهدأ، وبين رغبتها بالتواجد مع عائلتها، وعن مشاعر الذنب والإحباط التي كانت تختبرها، ومع اقترابها من منتصف العمر، بدأت في إعادة تقييم ما يعنيه النجاح لها، ليس فقط كقائدة، ولكن كأم وزوجة وابنة، ولم يمح هذا التحول طموحها، بل جعله أكثر وضوحاً، فالنجاح ليس تراكماً بل تكامل.
اقرأ أيضًا: أنواع الشخصيات المالية وتأثيرها على أساليب الإدارة ونجاح الأعمال
معرفة الأسباب والتخطيط

لا داعي للذعر، فالكل يختبر أزمة منتصف العمر المهنية، حتى أولئك الأكثر نجاحاً، قبل التسرع خذ وقتك كاملاً لفهم ما تشعر به بدقة.
والخطوة التالية، هي لإعادة الاتصال بجوهر دوافعك، فالبداية كانت لتحقيق طموحات ما أو لجني المال، أما حالياً فالأولويات تغيرت.
انظر إلى وضعك الراهن، والخبرات التي راكمتها خلال السنوات الماضية، وابحث عن شغف قديم لم تتمكن من ملاحقته بسبب ضغوطات الحياة.
التخطيط يعني رؤية الصورة شاملة، والبدء بخطوات صغيرة وليس انقلاباً كاملاً، واحتفل بالانتصارات الصغيرة واستعد ثقتك بقدراتك.
وهكذا ستتمكن من تحويل هذه الأزمة إلى فرصة لإعادة التموضع، ولاكتشاف الغرض من حياتك المهنية.