رمضان شهر الكرم.. هل يرى الأثرياء ذلك؟
الحكمة التقليدية تقول بأنه من أجل الوصول إلى القمة، على الشخص أن يكون جشعاً الى حد ما. أي أنه يجب أن يركز على ما يملكه الآخر والعثور على المحفزات التي تجعله يسعى للحصول عليها. الصورة ليست ملونة وجميلة، خصوصاً أن صور النجاح عادة ما ترتبط بكل ما هو مثالي. ولكن التركيز على ما يملكه الآخر يعني أن الساعي للوصول إلى القمة يساوم على الوقت الذي يمنحه لنفسه وعلى مجال تقدمه. ولكن هل الأنانية فعلاً هي المفتاح لجني المزيد من المال؟ دراسة حديثة تقول العكس.
الباحثون من جامعة ستوكهولم، ومعهد الدراسات المستقبلية، وجامعة جنوب كارولينا قاموا بدراسة معلومات أكثر من ٦٠ ألف شخص في أميركا وأوروبا لفهم ما إن كانت التصرفات التي يقوم بها البشر والهادفة لإفادة الآخرين أو التصرفات النابعة من حرص الشخص على رفاهية وسعادة وخير الآخرين من المؤشرات التي تدل على معدل ما يجنيه الشخص وما إن كانوا يملكون أولاداً.
الدراسات السابقة حسمت العلاقة بين التصرفات الاجتماعية الإيجابية وبين الرفاهية، ولكن الهدف من هذه الدراسة كان البحث في تأثير المدخول وعدد الأطفال، لأن هذه الأمور هي «العملات» التي تؤثر أكثر من غيرها على النظريات التي تركز على المصلحة الذاتية، أي الاقتصاديات والتفكير التطوري.
النتائج في الواقع تبشر بالخير لناحية خير البشرية بشكل عام. ففي الدراسات الخمس التي أجريت وتم تحليل معطياتها تبين أن الذين يعانون من الأنانية لا يجنون الكثير من المال، كما أنهم يملكون عدداً أقل من الأطفال. وفي ٤ من ٥ دراسات تبين ان الذين يجنون مالاً، أكثر لم يكونوا عديمي الأنانية بشكل كلي، ولكنهم كانوا من الفئة «المعتدلة» أي أنهم معتدلون لناحية التصرفات الاجتماعية الإيجابية، وبالتالي لم يكونوا أنانيين بشكل كلي كما لم يكونوا عديمي الأنانية بشكل كلي. وفي دراسة واحدة من أصل ٥ كان عديمو الأنانية بشكل كلي هم الذين يجنون أعلى الرواتب.
في استطلاع للرأي منفصل عن الدراسة رصد العلماء توقعات الآخرين حول نوعية الذين يجنون الكثير من المال وتبين أن الغالبية الساحقة تعتقد بأن الأكثر أنانية هم الذي يجنون الكثير من المال.
نظرة على الناجحين وأموالهم
في كتاب «الأخذ والعطاء: مقاربة ثورية للنجاح» لآدام غرانت تبرز دراسة مثيرة للاهتمام تناولت شخصيات تعتبر الأنجح والأكثر ثراء حالياً. وبعد تحليل المعلومات الخاصة بهؤلاء تبين أن الذين «يعطون»، أي غير الأنانيين، هم الذين يملكون مستويات أعلى من النجاح ومالاً أكثر من الذين «لا يعطون» أي الأنانيين. وتبين أن عطاء هؤلاء هو من النوع الذي لا يتوقع أي شيء في المقابل، ولكن في الوقت عينه لم تكن هناك غيرية مطلقة، بل كان هناك عطاءات من دون التضحية بالذات.
العطاء لا يتعلق بالتبرع بالمال أو التطوع من أجل خدمة قضية ما، بل هو مساعدة الآخرين بكل الأشكال الممكنة كتقديم النصيحة أو مشاركة المعلومات أو تعليم أحدهم ما لا يعرفه.
رائحة المال والعقل البشري
كل النتائج التي توصلت إليها الدراسات أعلاه ترسم صورة جميلة، وكأنها الكارما، تكافئ الكريم بكرم مضاعف. ولكن العقل لا يسير وفق هذه المعادلة، لأن هناك مقاربة مختلفة كلياً تجعل العلاقة بين البشر والمال وبين الكرم والأنانية أكثر تعقيداً مما هي عليه أصلاً.
في إحدى الدراسات تبين أن «فكرة المال» فقط يمكنها أن تجعل أي شخص كان يميل نحو الأنانية، وبالتالي يصبح أقل ميلاً لمساعدة الآخرين أو للعمل ضمن فريق.
٩ دراسات تثبت هذه النظرية.. فبعد تحليل المعطيات تبين أن «مبدأ المال» يجعل الشخص يظن أنه مكتفٍ ذاتياً، وبالتالي يفضل أن يكمل طريقه بمفرده. تأثير المال على العقل خرافي، إذ إنه خلال الدراسة تبين أن مجرد «رؤية» المشاركين في الدراسة للمال، سواء كان حقيقياً أم مزيفاً وحتى صورة عن المال جعلتهم أنانيين.
ثم يأتي وقت التناقض
الدراسة التي تحدثنا عنها في بداية الموضوع تشير إلى أن الكرم المعتدل يعني جني المزيد من المال. ولكن الدراسة الثانية تشير إلى أن المال يجعل الشخص وبشكل تلقائي أنانيًا. ثم تأتي دراسة ثالثة تؤكد أن الثراء يجعل البشر أنانيين ولا يكترثون لأي شخص آخر إلا أنفسهم.
ففي دراسة نشرتها أميركان سيكولوجيكال أسوسييشين تبين أن الذين لا يجنون الكثير من المال يجدون السعادة في غيرهم من البشر، أي من خلال مشاعر الحب والتعاطف.
بينما الذين يملكون المال يجدون السعادة في أنفسهم ومالهم ولا يكترثون للروابط مع الآخرين، بل هم يختبرون مشاعر ذاتية إيجابية مثل الرضا عن الذات والفخر.
الفقراء في المقابل يجدون سعادتهم في البحث عن الجمال من حولهم، هذا إن تمكنوا من رؤيته، بحكم أن أوضاعهم المادية ستجعلهم ينظرون إلى العالم من حولهم بتشاؤم.
الخلاصة هي أن الذين يجنون أقل طوروا آلية للتأقلم مع وضعهم، أي العثور على السعادة في حياتهم رغم الظروف السيئة. أي أنها وبكل بساطة مقاربة قائمة على التحايل على الذات، من خلال محاولة رؤية الجمال، حيث لا جمال. المال لا يشتري السعادة ولكنه يشتري السبل إليها بالتأكيد.
والكريم جداً لا يجني المال بقدر الكريم المعتدل والأناني يجني أقل، ولكن في الوقت عينه المال يجعل الإنسان أنانياً، ما يعني أن الكريم باعتدال وبعد امتلاكه المال من المفترض أن يصبح أنانياً. صورة يدرك العلماء حجم تعقيدها، لذلك هم في سعي دائم لمحاولة فهم المزيد.. وحتى يصلوا إلى نتيجة نهائية سنترككم مع هذه الصورة المعقدة جداً.