الشاب خالد.. الميكانيكي الذي ذاع طربه
باريس – عثمان تزغارت :
تعرف الجمهور العربي على الشاب خالد من خلال اغنية "دي دي" التي اخرجته الى الشهرة العالمية، حيث بيع من هذا الشريط نصف مليون نسخة، في اكثر من عشرين دولة عبر العالم. وبيعت في فرنسا وحدها 150 الف نسخة، واحتل الشريط المرتبة الاولى في مؤشر المبيعات الفرنسي (tOP 50) لاسابيع طويلة. وكانت "دي دي" اغنية صيف 1992 دون منازع، إذ إنها جابت اهم العواصم والمدن الكبرى: من باريس وكبريات المدن الاوروبية، الى لوس انجيليس ونيوورك، الى طوكيو إلى مومباي، إلى ابيدجان وبقية عواصم افريقيا السوداء، الى القاهرة والرياض وعواصم المغرب العربي بالطبع.
وبعد هذا الشريط تتابعت نجاحات الشاب خالد، فنال جائزة الاسد الذهبي لأحسن موسيقى، في مهرجان البندقية السينمائي، في سبتمبر "ايلول" 1993، عن اغنية "أنسي أنسي" التي كتبها لفيلم المخرج الفرنسي برتراند بلييه، يحمل عنوان: "1، 2، 3 شمس". ثم نال الشاب خالد عن الاغنية نفسها جائزة "السيزار" السينمائية (وهي مقابل الأوسكار في فرنسا) لأحسن موسيقي، في مطلع السنة الحالية.
وقبل اسابيع صدر شريط الشاب خالد الجديد: "صبري صبري" وينتظر ان يلقى رواجاً واسعاً، خلال صيف هذه السنة، حيث إن اغنية الشريط الرئيسية "صبري صبري" نالت جائزة الموسيقى العالمية في مهرجان "كان" الغنائي مؤخراً.
انطلاقة الشاب خالد هذه، والشهرة العالمية التي عرفها منذ "دي دي"، غطت في اذهان الناس على تجربته السابقة التي امتدت لأكثر من عشرين سنة، وأصدر خلالها 309 اشرطة اسست لطابع غنائي عصري جديد، اصطلح في الجزائر على تسميته بطابع "الراي". وكان الشاب خالد (إلى جانب مسعود بللمو وبلقاسم بو ثلجة) رائد هذا الطابع الجديد المستوحى من اغاني "الشيخات" الوهرانية القديمة، التي ادخلت عليها الالات العصرية، فحل الساكسوفون و الاكورديون محل الناي والبندير "الطبل" اللذين كانت تقوم عليهما موسيقى "الشيخات" في الخمسينات.
وتتميّز اغاني الراي، فضلاً عن التجديد الموسيقي الذي جاءت به، بمضامينها السياسية والاجتماعية المشاغبة. الشيء الذي ادى الى حظرها في الاذاعة والتلفزيون والمهرجانات الرسمية الجزائرية، ايام الحزب الواحد. لكن هذا لم يحدّ من انتشار اغاني الراي ورواجها خاصة في اوساط الشباب، الذين كانت تنطق باسمهم وتعبر بأسلوبها الصاخب والمتمرد، عن نقمتهم وتذمرهم حيال فساد النظام وتردّي الاوضاع المعيشية. حتى ان كلمات اشهر اغاني الراي هي التي شكلت الشعارات الرئيسية لانتفاضة الشباب الجزائري خلال احداث اكتوبر 1988.
وبعد التحولات الديموقراطية التي اسفرت عنها الاحداث المذكورة، رفع الحظر الرسمي عن اغاني الراي في الجزائر، فانفتحت امامها ابواب الاستوديوهات المحترفة، فعرفت تطورا نوعيا كبيرا، وشهدت هذه الفترة بروز اكثر من مئتي مغن يؤدون اغاني الراي، ويحملون لقب الشاب تشبها بالشاب خالد، الذي اصبح يلقب بـ"ملك الراي".
وأمكن للشاب خالد ان يحصل اخيرا على جواز سفر، لينطلق في بداية سنة 1989، في جولة فنية ناجحة عبر كبريات العواصم الاوروبية. وفي باريس، التقى الموسيقي الجزائري صافي بوتلة المتخصص في موسيقى الجاز. واتفق الاثنان على انتاج شريط يمزج بين ايقاعات "الراي" و"الجاز". ويصدر الشريط بعنوان "الكوتشي" في بداية 1990، بالاشتراك بين استوديوهات جزائرية وفرنسية، ويستقبل بوصفه حدثاً فنياً بارزاً، ونقطة تحول جذرية في تجربة الشاب خالد ومساره. وتلفت هذه التجربة انتباه كبار منتجي الاشرطة الفرنسيين الذين يتوقعون النجاح لهذا المزيج من الايقاعات الغربية والعربية، وسرعان ما يعرض على الشاب خالد عقد مهم مع استوديوهات "باركلي" الباريسية الموموقة. وفي منتصف 1981 ، يشرع خالد في التحضير لشريط "دي دي" الشهير، فيطير الى لوس انجلوس، بالاتفاق مع استوديوهات "باركلي"، ليسجل جزءاً من الشريط، بالتعاون مع المنتج الامريكي دان واس (Dan Wass) الذي سبق ان انتج اشرطة فنانين غربيين كبار، مثل: بوب مارلي ومايكل جاكسون، وغيرهم. ثم يستكمل التسجيل ببروكسل تحت اشراف المنتج البريطاني مايكل بروك، ويعرف الشريط عند صدوره نجاحا باهرا، اكتسب منه الشاب خالد مكانة مرموقة بين كبار نجوم الغناء العالميين.
وبالرغم من كل الشهرة التي عرفها، فإن الشاب خالد مايزال يحن الى مسقط رأسه بحي "الشمهل" الشعبي بمدينة وهران الجزائرية، حيث ولد لعائلة متواضعة، في خريف سنة 1960، وهناك بدا بالغناء في الأعراس والحفلات، وهو بعد في الرابعة عشرة. وتروي والدته الحاجة خديجة ان اهتمامات خالد الموسيقية بدأت في سن مبكرة، حيث كان يعزف أغاني التراث الوهراني على قيثارة خشبية صنعها بنفسه، وكان والده فيلالي يعاقبه كثيراً على انشغاله بالغناء عن الاهتمام بدروسه، وفي الرابعة عشرة من العمر، كان خالد يجيد العزف على القيثارة والعود والناي والدربكة والاكورديون (آلته المفضلة). وبدا يحيي الحفلات والاعراس، ويغني في بعض النوادي على الشاطئ الوهراني. ما أثر سلبا في نتائجه الدراسية، فبعد ان كان يأتي الاول دائماً في الصف، تدهورت نتائجه، وصار يتغيب كثيراً. ويزداد غضب والده فيلالي ويصرّ على منعه من الغناء، ولكن دون جدوى. ففي احدى الحفلات اكتشف منتج اشرطة جزائري يدعى خليفة فدال مواهب خالد، فشجعه على تسجيل اولى اغنياته في شريط بعنوان: طريق "الليسي" (المدرسة الثانوية)، ولأن التسجيل تم خفية عن والده، فقد صدر الشريط باسم خالد الصغير في اواخر سنة 1974. وبعد نجاح هذه التجربة، استمر خالد في العمل مع خليفة فدال، ضمن استوديوهات صونيا في وهران، فأصدر سنة 1975 شريطاً ثانياً لاقى رواجاً منقطع النظير، عنوانه: "المرسم" ومع صدور هذا الشريط، حوّرت تسمية خالد من خالد الصغير الى الشاب خالد، وهي التسمية التي لازمته الى غاية صدور شريط "دي دي" سنة 1992، حيث قرر التخلي عن لقب الشاب، لأن الجمهور في الغرب يعتقد ان مغني الراي الذين يحملون جميعاً لقب "الشاب" هم من عائلة فنية كبيرة، على غرار عائلة جاكسون الامريكية.
من مدينة وهران غربي الجزائر، ولدت موسيقى الراي وولد الشاب خالد. في الحقيقة عندما التقيناه في لندن كان بالفعل شاباً مرحاً صاحب نكتة، ولم يخل اللقاء من وتعليقاته الظريفة. كانت القاعة غاصّة بالصحافيين، وكانت مدة اللقاءات مع الشاب خالد محددة بالدقائق والثواني، انجليز طبعاً، ولكنه معنا كسر هذا الروتين وأعطانا من وقته الكثير، رغم معارضة منظمي اللقاء.
الى ميكانيكية السيارات هرب من همومه وقسوة الحياة. في وهران التقطت اذن الصغير خالد لغة التراث، غرف منه اغاني الشيخ حمادي، الشيخة الريميتي، المطرب خالدي. ومن الجانب الآخر شكلت الموسيقى الاسبانية اللحن الغربي في داخله.
في السبعينات انطلق خالد وانطلقت معه موجة الراي، لامس احاسيس الشباب وعزف على اوتار القسوة والامل، وخيبة الامل عندهم. كانت اغانيه موجهة الى الشباب، وله حتى الآن 800 اغنية امتدت من فترة السبعينات.
في فرنسا بزغ نجمه وبإيقاعات الموسيقى التي حملها معه من بلده، طيّر صواب الفرنسيين وأصبحت موسيقاه مادة جيدة لأفلامهم حازت اخيرا جائزة احسن موسيقا من فيلم "1- 2- 3 شمس" الفرنسي في مدينة البندقية بايطاليا.
من فرنسا انتشرت اغانيه الى العالم انتشار النار في الهشيم، وردد اليابانيون اغنيته الشهيرة "ادي ادي" كما فعل ذلك الهنود وبكل اللغات. الساعة الرابعة كان موعدنا مع الشاب خالد. واجهناه باتهامات عدّة اجاب عنها بصدر رحب.
قضية الفن عند الشاب خالد التطوير والتجديد ومسايرة العصر وتطويع اللهجة والفلكلور الجزائري الى موسيقى عالمية تدغدغ احاسيس الناس، قضيتي - يقول- ان اطور القصائد التي كان يرددها الرعاة في بلدي والعشاق الى لغة مواكبة للعصر الذي نعيش.
ويصرّ على ان اغانيه ليست لغزاً محيراً، فهي كما يقول لغة عربية قد يستعصي فهمها على الجزائريين انفسهم. واجهناه بالاتهام الاول بانه مطرب الاغنية الواحدة وهي "دي دي" قال مصححاً في البداية انها "ادي ادي" ولكنه هناك خطأ مطبعي على الشريط حوّل اسمها من "ادي ادي" الى "دي دي" وبالنسبة لاتهامي بأني مطرب الاغنية الواحدة، فهذا شأن الذي يريد ان يستمع الى هذه الاغنية فقط فهو حر.
ماذا تعني كلمات هذه الأغنية؟
كل واحد فسّر المعنى، منهم من قال انها اسم شخص ومنهم من قال انها لغة تخاطب بها الاطفال، والبعض لا يعرف معناها حت الان. ولكني أرى أن سرّ الكلمة هو سرّ نجاح هذه الاغنية.
ولم اكن اتوقع نجاحها وكنت اعتقد ان اغنية "وهران ياوهران" هي التي ستنال الشهرة.
الاتهام الآخر يقول ان اللحن والايقاعات الخليطة هي التي أوصلتك الى الغربيين.
صحيح اللحن يجمع بين الايقاعات الغربية والعربية وانا لست الاول الذي يقتبس. كبار الملحنين العرب سرقوا من الالحان الغربية، محمد عبد الوهاب، بليغ حمدي مثلاً اقتبس لحناً من اغنية فرنسية في اغنية "في يوم و ليلة" لوردة الجزائرية والاغنية بعنوان "الحياة الوردية" للمطربة الفرنسية "إديث بياف" وهذه تتم عمدا او مصادفة. واعترف ان الايقاع له قسط كبير في وصول اغاني الى العالمية.
هناك اتهام بأن كلمات اغانيك فاضحة ذات لغة خاصة وموجهة للنساء فقط؟
لمادا أنا بالذات متهم بهذه القضية؟ الكل يستمع الى اغاني مايكل جاكسون، وجيمس براون وبوب مارلي. ما الذي اوصلهم الى الشهرة، اجيبك عن ذلك، طبعاً الغزل الفاضح في كلماتهم والتغنّي بجسد المراة. في كلماتي فقط لغة الحب ولم اتطرق الى جسد المرأة، غزلي عفيف وأحترم المراة كثيراً، لأني قبل كل شيء احترم والدتي وأخواتي، وإذا ما بالغت في الاستخدام اقول فقط "أسلم عليك!".
هناك اتهام انك ضد الغناء باللهجة المصرية التي فرضت نفسها وأعطت النجومية لكثير من الفنانين العرب.
طلب مني ان اغني بذلك، ولكن في زيارتي الاخيرة للقاهرة جئت اليهم مشهوراً ولست ابحث عن الشهرة.
وانا الآن بصدد الغناء باللهجة الخليجية. هناك مشروع كبير قريبا سأبداه وسأعرّف العالم الغربي بالاغنية الخليجية. وما دمت في موقع المتحكم فسأقدم ما يمكنني ان اخدم به الاغنية العربية ونشرها عالمياً، ولكني لن اتخلى عن "الراي".
كيف ترى الوضع الآن في الجزائر؟
عموماً اكره الحرب بأشكالها المتعددة، لم يعد هناك احترام للانسان، الأخ يقتل أخاه من اجل السلطة، ولخدمة المصالح الخاصة، الحرب اصبحت تجارة حتى الاطفال تعلموا كيف يقتلون عائلاتهم.
يقال إنك لا تستطيع العودة الى الجزائر لأنك تخشى القتل؟
مقاطعاً من قال ذلك، انا لا اخاف الموت ولكني اخاف من الانسان المخادع. اما بالنسبة للجزائر، فسأصل اليها..اصل اليها، وأنا جزائري لا انكر اصلي، وما زلت احمل جواز سفر جزائرياً، اضطررت الى السفر والبقاء في فرنسا من اجل ان أطوّر فنّي ولو مكثت في الجزائر فلن انتج نصف ما انتجته ولن احرز اي تقدم، ولكني حزين على بلدي وشعبي. وإذا صدر لي ألبوم في فرنسا، فسيصل الى الجزائر في اليوم نفسه.
ما مشاريعك الفنية القادمة؟
مشروع غربي اشترك فيه مع نخبة منم الفنانين العالميين نقدم فيها اسطوانة تحمل عنوان "السفر"، وكذلك مشروع آخر يجمع بين فنانين عرب مشارقة ومغاربة في شريط مشترك نغني فيه للسلام.
انتهى لقاؤنا بالشاب خالد الذي بدأ يعد نفسه للقاء محبيه في لندن، ورغم أن رحلته لم تستغرق يوماً واحداً، فإنه اشعل لندن أغانيه، وكان طموحه متجددا وفورة شباب لا تقف عند حد وجدد اللقاء باغنية الراي.
في لقائه مع الصحافيين الأجانب حدثت مواقف أظهرت موهبة الميكانيكي التي كان يعشقها في بداية حياته. أحد الصحافيين ارتبك في بداية اللقاء لتعطل جهاز التسجيلـ فحاول إصلاحه ولكن دون جدوى، فأخذه الشاب خالد وأصلحه وبخفة الروح قال: "هذه مهنتي الأولى". ومع صحافي آخر طالبه الشاب خالد بأن يقلب الشريط الى الوجه الاخر لأنه انتهى، ما اخجل الصحافي الانجليزي.