الرجل تعيد نشر حوار مع الرئيس اللبناني الراحل الياس الهرواي قبل 21 عاما
الرئيس اللبناني الراحل الياس الهرواي
لست أسير القصر
حاوره : ابراهيم عوض
في : فبراير - 1994
للرئيس إلياس الهراوي، هاجس لا يفارقه لحظة، منذ ان انتخب رئيساً لوطن ممزّق وشعب أغلبه مشرد أو مشتت أو مهجر أو مفروز طائفياً.
ويكاد هاجس الرئيس هذا أن يقضي على البقية الباقية من هدوئه وصبره، بعد أربع سنوات من القرارات المصيرية والعمل الدؤوب والهزات والمعاناة والعذاب، وكلها تشكل عناوين عهده الذي بدا في الرابع والعشرين من شهر نوفمبر / تشرين الثاني 1989، يوم انتخبه النواب لمهمة إنقاذ البلد ولملمة أجزائه وإعادة الأمن والسلام والوئام إلى ربوعه. واختيار الهراوي لهذه المهمة جاء بعد أيام من اغتيال صديقه رينيه معوّض الذي لم يبق رئيساً الا لايام قليلة، امتدت بعدها يد الشر والفتنة لتنال منه، بعد القاء خطابه في الاحتفال بذكرى الاستقلال الذي كان الأول، عقب سبعة عشر عاماً من الحرب التي اكلت الاخضر واليابس في الجسم اللبناني.
هاجس الرئيس الهراوي لم يكن يوماً الخوف من ان يلقى المصير نفسه الذي لقيه الرئيس الذي قبله، ولو كان الامر كذلك، لما قبل بأن يدخل جمهورية من دون سقف ولا عسكر ولا مؤسسات ولا حتى هاتف وماء وكهرباء. لقد رضي إلياس الهراوي الآتي من مدينة زحلة في البقاع اللبناني، وابن العائلة التي كانت تتعاطى الزراعة والتصنيع الزراعي، أن يدير دفة الحكم، لينتشل وطنه من الغرق، من بيت عادي لا من قصر عاجي. وهناك في منطقة الرملة البيضاء في بيروت الغربية، اتخذ من احدى العمارات مقرّاً لرئاسته، بعد أن تحول قصر بعبدا رمز الشرعية في لبنان، إلى حطام وأطلال، بعد أن أبى المتمركز فيه آنذاك العماد ميشال عون قائد الجيش ورئيس ما سُمّي بالحكومة المؤقتة، أن يغادره، الا " على رؤوس الأشهاد"، وقد فعل تحت دوي المدافع وغارات الطائرات السورية.
هاجس الرئيس الهراوي كان منذ الرابع والعشرين من شهر نوفمبر / تشرين الثاني 1989، أن يزيل في أيام آثار حرب مدمرة استمرت 17 عاماً. وهذا هو المستحيل الذي اراده ان يصبح ممكناً، حتى دخل في صراع بين هذين النقيضين انعكس على تصرفاته ومزاجه، وبات القريبون منه يعرفون متى يكون جوّه صحواً او غائماً.
لكن قبل الاقتراب اكثر من اجواء الرئيس الخاصة، لا بدّ من عودة الى سجل الماضي لنتعرف من خلاله إلى أصل هذا الزحلاوي الطيب المقدام وفصله، الذي صار الرئيس العاشر للبنان بعد الاستقلال.
ولد الياس الهراوي في عام 1926. والده خليل ووالدته هيلانة حرب، أتمّ دراسته الثانوية في معهد الحكمة التابع لمطرانية بيروت المارونية، ونال شهادة البكالوريوس في التجارة من المعهد ذاته. متزوج من منى جمال وله خمسة أولاد: ثلاثة ذكور هم جورج وروي ورولان، وابنتان هما رينا وزلفا؛ والاخيرة متزوجة من وزير الخارجية اللبناني فارس بويز، والأولى مقيمة مع زوجها في كندا. أما اولاده الثلاثة فيعيشون في بيروت، حيث يعمل جورج وروي في التجارة، بينما يمارس رولان تخصّصه في هندسة الكمبيوتر.
عمل الياس الهراوي في حقلي الزراعة والتجارة، وكان من اوائل الذين أنشؤوا في لبنان معملاً لتجفيف الخضار، وخاصة البصل وبيعها لدول أوروبا والولايات المتحدة واليابان.
لكنه، وبسبب الحرب التي هدمت معمله، انتقل الى ميدان استيراد النفط ومشتقاته. وفي عام 1970 اسس اول تعاونية زراعية لمزارعي الشمندر السكري، وترأس في عام 1970 اتحاد التعاونيات الزراعية.
وللسياسة دور بارز في نشأة الرئيس الهراوي. فشقيقاه جورج وجوزف تعاقبا على العمل البرلماني منذ عام 1953، وقد انتخب في عام 1972 نائباً عن دائرة زحلة، علماً بأنه تولى مهمات وطنية متعددة من قبل بدءاً من عام 1963، حين انتخب عضواً في مجلس بلدية زحلة، ثم نائباً لرئيس غرفة التجارة والزراعة في محافظة البقاع عام 1967. وفي عام 1974 ترأس الوفد اللبناني الى مؤتمر الغذاء العالمي المنعقد في روما، وترأس منذ عام 1975 وحتى انتخابه رئيساً للجمهورية اللبنانية الوفد اللبناني لمنظمة الاغذية والزراعة، وكان له دور بارز آنذاك في انتخاب الدكتور إدوارد صوما، وهو لبناني، مديراً عاما لهذه المنظمة، وهو المنصب الذي ظل يشغله حتى العام الماضي.
وعلى الصعيد الوزاري فقد عُيّن الهراوي وزيراً للاشغال العامة والنقل بين 1980 و 1982، ونجح رغم الحرب في تنفيذ مشاريع شق الاتوسترادات وإقامة الجسور وإصلاح الطرق.
ويؤمن الرئيس الهراوي بالعيش الآمن بين مختلف الطوائف التي يتألف منها الشعب اللبناني، وعددها 17 طائفة معترفاً بها رسمياً.
وهذا ما جعله ينجح في لعب دور إيجابي خلال الحرب، لوضع حد للمعارك التي دارت في عام 1981، حول مدينته زحلة، وهي مدينة مسيحية وسط البقاع الذي تقطنه عائلات لبنانية من مختلف الطوائف، وتوجد فيها القوات السورية بكثافة.
وبعيداً عن السياسة التي ينام ويصحو عليها إلياس الهراوي، فهو مولع بالموسيقى الشرقية القديمة، وبأغاني ام كلثوم ومحمد عبد الوهاب ووديع الصافي وفيروز، لكن هذا لا يعني أنه ينفر من الاصوات الجديدة والواعدة. ففي برنامج "استوديو الفن" المخصّص لهواة الطرب والذي يعرضه التلفزيون اللبناني، يتوقف الرئيس أثناء متابعته لهذا البرنامج، حيث يتسنّى له ذلك، عند اكثر من هاو، ويثني على هذا وذاك، خاصة اذا اختار أحدهم تلك الاغاني التي تطرب لها اذناه على غرار "يا جارة الوادي" و "يا ظالمني"، وباختصار يمكن القول إن الرئيس اللبناني عاشق للموسيقى، وباستطاعته اكتشاف الجيد منها والرديء، فور استماعه اليها.
وفي اوقات الراحة، وهي نادرة عند الرئيس الهراوي، يفضل القراءة على سماع الموسيقى شرط الا يكون متعباً.
أما قراءته فتتركز على الكتب التاريخية والسير الذاتية للزعماء والشخصيات. وتقول مستشارة الرئيس لشؤون الإعلام الزميلة مي كحالة في هذا الصدد إن ملخّصات لأحدث الكتب العربية والاجنبية وأهمّها، تقدم الى الرئيس بصورة مستمرة، حتى تمكنه من اختيار الكتاب الذي يريد قراءته كاملاً. اما آخر كتابين اطلع عليهما سيّد القصر في بعبدا، فيتناول الأول منهما سيرة حياة حميد فرنجية، وهو من رجالات الاستقلال البارزين في الاربعينات، ويكشف الثاني الذي كتبه شيمون بيريز وزير الخارجية الإسرائيلي، تفاصيل المحادثات السرية التي درات في اوسلو بين منظمة التحرير وإسرائيل، وأدت الى اتفاقية غزة - اريحا أولاً. ومن خلال هذين الكتابين يتاح للرئيس اجراء مقارنة بين الاسلوب السياسي الذي كان متّبعاً منذ زمن بعيد وما أصبح عليه هذا الاسلوب في يومنا الحاضر.
وما دمنا في اجواء السياسة وأحوالها، فإننا نشير هنا الى ان الرئيس الهراوي يتابع سماع نشرات الاخبار، سواء عبر الراديو او التلفزيون.
ونظراً لكثرة المحطات الاذاعية والتلفزيزنية في لبنان، وتزامن مواعيد اخبارها في وقت واحد، يلجأ الرئيس أحيانا الى التنقل بسرعة بين اهم تلك المحطات، او الاكتفاء بسماع موجز في هذه المحطة، ليتابع التفاصيل في الاخرى. وهذه المواظبة على متابعة ما يذاع من اخبار، تظهر جلية، حتى خلال تناوله طعام الغداء او العشاء، في حال غياب الضيوف الرسميين عنهما.
ونتساءل هنا ما اذا كان الرئيس يغضب عند سماعه لخبر او تعليق يطاله بالنقد، فيأتينا الجواب بالنفي، كون الرئيس على دراية تامة بالخط السياسي الذي تنتهجه هذه المحطة او تلك، وبالجهة القيّمة على كل منها. وما يُقال عن ردّ فعل الرئيس حيال النقد الاذاعي والتلفزيوني له، يسري على الرسم الكاريكاتوري ايضاً. وللدلالة على تقبله لتلك الرسوم تراه يمازح موقعيها إذا ما التقاهم في مناسبات معينة قائلاً: " وهل انا صاحب انف طويل حتى تظهروني بهذا الشكل" أو "من اين اتيتم لي بهاتين الشفتين الغليظتين". كذلك يدعو الرئيس أحياناً بعض نجوم المسرح الساخر الى تقديم عروضهم الناجحة في القصر الجمهوري، وتراه يضحك طويلاً امام مشهد يتناوله شخصياً او يقلد حركاته وأسلوبه في الكلام او الإلقاء أو التعامل مع رئيس الحكومة والوزراء.
الهراوي المتحرر من البروتوكول
ويحلو للرئيس ايضاً التحرر من البروتوكول والاجراءات الامنية المفروضة عليه و"الهروب" من القصر. عندها يستقل وزوجته السيارة برفقة حارسين او ثلاثة فقط، ويتوجهان الى منزل صديق او قريب، حيث يمضيان بعض الوقت، قبل ان يعودا الى المقرّ الرئاسي. لكن هذه الزيارات الخاصة تبقى طيّ الكتمان لا يعلن عنها على الاطلاق، وهي إن دلت على شيء، فإنما تدل على ان الرئيس ليس اسير القصر على حدّ قوله، وإن كانت المستلزمات الامنية تتطلب اعلى درجات الحذر والرويّة عند اقدامه على مثل هذه التنقلات، خاصة ان اغتيال الرئيس السابق رينيه معوض مازال ماثلاً في الاذهان.
وتأكيدا لرغبة الرئيس في الاطلاع بنفسه على احوال ابناء وطنه، تراه يخالف تعليمات رجال الامن الموكلة اليهم مسؤولية حمايته، فيقوم بزيارات الى المناطق اللبنانية كافة، نذكر منها تحديداً الزيارة التي حملته الى الجنوب اللبناني، حيث وقف يخطب في الاهالي على بعد امتار من مواقع الجيش الإسرائيلي والميليشيات التابعة له. ولا تفوتنا هنا الاشارة أيضاً الى رفضه البقاء في القصر يوم السادس من مايو / ايار 1992، حين كانت التظاهرات تعمّ شوارع بيروت احتجاجا على الغلاء وعلى أداء حكومة الرئيس عمر كرامي آنذاك.
فلقد كان من المقرر في ذلك اليوم ان يلقي الرئيس الهراوي كلمة في احتفال مقام في الجامعة الامريكية، وعبثاً حاول المسؤولون عن أمنه ثنيه عن التوجه الى مكان الحفل، لما في ذلك من خطر على حياته، خاصة بعد نزول عدد من المسلحين الى الشوارع وإشعال الدواليب في الطرقات، لكن الرئيس لم يعر أذناً لتلك النصائح، وعبر موكبه خط سيره بصعوبة، حتى وصل الى الجامعة الامريكية وسط دهشة الحاضرين الذين خاطبهم قائلاً " إن زمن عرقلة الحكم عن أداء واجبه قد انتهى الى الأبد، وإن لبنان لن يرجع الى الوراء بعد اليوم".
والرئيس اللبناني الذي يتولى رعاية العائلة اللبنانية بأسرها، لا يدع مشاغله تحرمه من الاهتمام بشؤون عائلته ومتابعة أحوالها. فإلياس الهراوي الاب على اتصال دائم مع أبنائه ولو عبر الهاتف. وهو يلتقيهم كلما سنحت له الفرصة، وقد سُعد أخيراً بمجيء ابنته المقيمة في كندا، لتنضمّ الى اشقائها في بيروت، حيث اجتمع شملهم في احتفالات الميلاد ورأس السنة. ولقد كانت فرحة الرئيس الهراوي كبيرة حين رزق نجله جورج وزوجته بمولود سمّياه إلياس، ومن الطبيعي ان يلقى الاخير رعاية خاصة من جانب "جدو" الذي يطرب حين يناديه حفيده بهذا الاسم.
والأوقات العصيبة التي عاشها رئيس الجمهورية اللبنانية كثيرة، نظراً للظروف التي تسلم فيها دفة الحكم، حيث تمّ انتخابه في ثكنة عسكرية، في وقت كانت فيه المعارك على اشدها بين "البيروتَين" الغربية والشرقية، ناهيك بالحرب الطاحنة التي كانت دائرة في المناطق الشرقية بين انصار العماد ميشال عون وميليشيات "القوات اللبنانية" التي يتزعمها سمير جعجع.
لقد كان على الرئيس اولاً ان يضع حداً لهذه المعارك. وعبثاً حاول ذلك بالوسائل السلمية والسياسية منذ اليوم الاول لتسلمه مهماته، واتخاذ عمارة في منطقة الرملة البيضاء مقراً له كما اشرنا. وقد استمرت محاولاته لتهدئة الوضع طيلة ثمانية اشهر، حتى اضطر الى اتخاذ القرار الصعب وهو القضاء بالقوة على تمرد العماد ميشال عون، الذي كان قد اتخذ من القصر الجمهوري في بعبدا مقراً له، مدركاً ما قد يجره هذا القرار من مخاطر وويلات، ليس على المنطقة التي يقيم فيها العماد عون وغالبيتها من المسيحيين ابناء طائفة الياس الهراوي، بل على لبنان كله، وقد حبس الرئيس انفاسه في ذلك اليوم، حتى انتهت العملية العسكرية في اقل قدر من الخسائر.
وفترة عصيبة اخرى عاشها الرئيس يوم اجتاحت إسرائيل مناطق في جنوب لبنان، وهجرت الآلاف من سكانها الذين قصدوا بيروت وغيرها من المدن اللبنانية الآمنة. وكاد الوضع ان يهتزّ في لبنان لولا تماسك الحكم ونجاحه في سحب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي اجتاحها وإعادة الاهلين اليها، والمباشرة الفورية بإصلاح وتعمير ما تهدم من قرى ومنازل. ويؤكد الرئيس هنا ان باله لن يهدأ حتى يرى الجنوب اللبناني محرراً من الاحتلال الإسرائيلي.
ويأخذ البعض على الرئيس الهراوي خلافه مع رؤساء الوزراء الذين تولوا الحكم في عهده، وهم سليم الحص وعمر كرامي ورشيد الصلح ورفيق الحريري، ويعزون الأمر الى العصبية التي تحكم طباعه. لكن هذا التفسير مرفوض جملة وتفصيلاً عند الرئيس الذي يؤكد ان العلاقة الشخصية بينه وبين رؤساء الوزراء المذكورين لا تشوبها شائبة، وما الخلاف المشار اليه الا على نظرة كل واحد منهم الى قضية معينة، ومفهومة لكيفية التعامل معها ومعالجتها. ويُعدّ هذا الامر في صلب الديمقراطية التي يتغنى بها لبنان. ويشير المقربون من الرئيس في هذا الخصوص الى ان صداقته الشخصية مع رفيق الحريري كان لها دور بارز في مجيء الاخير رئيساً للحكومة وأن هذه الصداقة مازالت على حالها، ولم تؤثر فيها الخلافات في وجهات النظر.
تبقى كلمة عن الرئيس إلياس الهراوي الذي عاد أخيراً الى عرين الشرعية المتمثل في قصر بعبدا، فهذا الرجل الإنسان والأب والسياسي والحاكم، لم يكن ليحقق ما شهده لبنان بعد مرور اربع سنوات على عهده من نقلة نوعية في أمنه واستقراره وإعادة اللحمة بين ابناءه، لولا اندفاعه لخدمة بلده، تشدّ من ازره زوجة فاضلة تتبارى معه في حب الوطن والناس، وتعمل جاهدة من اجل مساعدة المحتاج والتخفيف عن المريض حتى دخلت قلوب اللبنانيين، قبل ان تدخل بيوتهم.