"تعفن الدماغ" كلمة العام في "قاموس أكسفورد".. ماذا تعني؟ وكيف نتجنبها؟
في كل مرة نلتقط فيها هواتفنا وأجهزتنا الذكية، ونشرع في التمرير المستمر على صفحات ومنصات التواصل الاجتماعي، أو نغرق في السيل الذي لا ينتهي من الفيديوهات القصيرة والمقاطع الطريفة، قد يتسلل إلينا شعورٌ مقلق؛ بأن ما نفعله الآن يستهلكنا ذهنيًّا وعاطفيًّا، فهل هذا الشعور حقيقي؟
العلم يقول إن الجواب عن هذا السؤال هو: "نعم"، ولقد اعتٌمد لهذه الحالة مصطلح "تعفن الدماغ Brain Rot"، بل تم اختياره العام الماضي ككلمة العام في "قاموس أكسفورد"، فما المقصود بتعفن الدماغ؟ وما أصل هذا المُصطلح؟ وكيف نحمي أنفسنا ونستعيد عقولنا؟
أصل مصطلح تعفن الدماغ

على عكس ما قد يعتقد البعض، لا يُعد مصطلح "تعفن الدماغ" وليد السنوات الأخيرة، حيث يُنسَب أول استخدامٍ له إلى الكاتب والفيلسوف الأمريكي "هنري ديفيد ثورو"، عندما كتب عبارةً تحمل "تعفن الدماغ Brain Rot" في عام 1854 بكتابه الشهير Walden، إذ قال ساخرًا: "بينما تسعى إنجلترا لعلاج تعفّن البطاطس، أليس من الأولى أن يسعى أحد لعلاج تعفن الدماغ؟".
كان "ثورو" ينتقد ما اعتبره -آنذاك- تراجعًا في العمق الفكري، المتمثل في تفضيل الأفكار السهلة وقليلة التعقيد، على الأفكار العميقة متعددة الأبعاد.
وما أشبه الليلة بالبارحة، فنحن اليوم نفعل بأدمغتنا الشيء نفسه الذي وصفه "ثورو" في كلمات بدت كأنها نبوءة، استبقت ظاهرة الاستهلاك السطحي للمحتوى، حتى لو لم يكن وقتها يُعرف شيئًا عن الهواتف الذكية أو تطبيقات الفيديوهات القصيرة المنتشرة اليوم.
تعفن الدماغ كلمة عام 2024
عرّف قاموس "أكسفورد" مصطلح "تعفن الدماغ Brain Rot"، على أنه تدهور الحالة الذهنية والإدراكية للشخص، نتيجة الاستهلاك المفرط للمواد التي تُصنَّف على أنها "تافهة" أو غير مُحفزة ذهنيًا، ويُقصد بهذا الوصف المحتوى الحالي الذي يتم تداوله بكثرة على الإنترنت، وخصوصًا على وسائل التواصل الاجتماعي.
وعلى الرغم من أن "المحتوى التافه" يُستهلك منذ سنوات، فإن القلق حيال تأثيره على العقل تجلَّى وانتشر بصورة أوسع بين عامي 2023 و2024، حين لوحظ ارتفاعٌ ضخم في استخدام مصطلح "تعفن الدماغ" بنسبة 230%!
ولعل جزءًا كبيرًا من هذا الارتفاع يعود إلى منصات مثل TikTok، حيث انتشر المحتوى الترفيهي الخفيف "الشورتس" بسرعةٍ فائقة، وأثار تساؤلات عميقة حول تأثيره على أذهان المستخدمين، لا سيما الأطفال والمراهقين من" الجيل زد Gen Z" و"الجيل ألفا Gen Alpha" (الذين ولدوا في الفترة بين 2010 و2024).
كيف يتنافسون على عقولنا؟!

الكل يعرف اليوم أن الشركات ومصممي التطبيقات يسعون لجعل المحتوى أكثر جاذبيةً وإدمانًا، وأنهم يتسابقون للسيطرة على وقتنا وعقولنا فيما يُشبه "سباق التسلح الرقمي"، حسب وصف الخبراء.
فمواقع التواصل التي نتصفحها اليوم باتت تُغرقنا بسيولٍ لا تنتهي من المنشورات والفيديوهات التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع، إلى أن أصبح الحال ينتهي باستهلاكها بشكلٍ متواصل دون وعي منا.
"آدم ليفينثال"، أستاذ في "جامعة جنوب كاليفورنيا"، وصف الوضع بكونه لعبة تنافسية، تهدف إلى كسب انتباه المستهلك وسط سوق تقني مُشبَّع، وكلما زادت ساعاتنا على الشاشات، زادت أرباح شركات الإعلانات والمنصات، إنها علاقة تتغذّى على دوامة من "المحتوى المثير للسخرية" أو "المثير للفضول"، الذي قد يسلبنا قدرة التركيز حتى في أبسط مهامنا اليومية.
اقرأ أيضًا: ماذا يحدث عند ارتجاج الدماغ؟ وكم يستمر أثره؟
هل تعفن الدماغ حقيقي؟

على الرغم من عدم إدراج مصطلح تعفن الدماغ في القواميس الطبية بعد، فإن دراسات نفسية وعصبية عدة تُشير إلى مجموعة من التأثيرات السلبية للتعرض المطول والمفرط للشاشات والمحتوى التافه، من هذه التأثيرات:
1. ضعف التركيز: تراجعت القدرة على الانتباه لدى معظمنا، لدرجة أننا لم نعد قادرين على التركيز على شيء واحد لأكثر من دقائق، وربما لثوانٍ!
2. شرود الذاكرة: بالإضافة إلى ضعف التركيز، تضاءلت قدرتنا على تخزين المعلومات طويلة الأمد، أو حتى تذكر آخر الأحداث.
3. التشوش الفكري: إنّ تراكم المعلومات التافهة -إن صح أن وصفها بالمعلومات- في أذهاننا يخلق حالة من التشوش والإنهاك الذهني، ما يتسبب في العديد من المشكلات مثل اتخاذ قرارات غير واعية.
4. الاضطرابات العاطفية: يغفل الكثيرون هذا الجانب، لكن استهلاك المحتوى التافه يتسبب فعلًا في اضطرابات عاطفية واضحة، قد يصعب رصد السبب وراءها.
ولا تقتصر أضرار "تعفن الدماغ" على النقاط المذكورة فحسب، فوفقًا للدكتورة "لوري آن مانويل"، أستاذ علم النفس في "جامعة جيلف" الكندية، فإن الاستخدام المفرط للشاشات لا يؤثر على تركيزنا فحسب، بل قد يتسبب في نقص المادة الرمادية والبيضاء في الدماغ، وهذا يُقلل من كفاءة المخ ومعالجته للمعلومات.
Skibidi Toilet: مثال على المحتوى التافه
استشهدت صفحة "أكسفورد" بمقطع فيديو انتشر على الإنترنت يحمل عنوان "Skibidi Toilet"، كمثالٍ على المحتوى التافه، لكي تعرف مدى السوء الذي وصلنا إليه، ابحث عن هذا الاسم على يوتيوب، وستجد مقطعًا مدته 10 ثوانٍ تقريبًا، تظهر فيه رأس كارتونية وهي تغني في مرحاضٍ وتتفوه بكلمات تافهة عديمة المعنى.
المشكلة ليست هنا؛ المشكلة أن عدد مشاهدات هذا المقطع تخطت وقت كتابة هذا التقرير 200 مليون مشاهدة، وربما تصل إلى 250 مليونًا أو أكثر خلال قراءتك لهذه الكلمات!
ويُشير الخبراء إلى أن هذا النوع من المحتوى يختزل في طياته "عوامل تعفن الدماغ"، حيث تزداد قابلية الاستهلاك السطحي، ويغرق المستخدم لساعات طويلة في دوامة من فيديوهات مشابهة، دون أن يُدرك كم الوقت الذي أهدره.
ما هي أعراض تعفن الدماغ؟

دعونا نتفق في البداية أن الأطفال والمراهقين هُم الفئة الأكثر تأثرًا وعرضة لحالة "تعفن الدماغ"، التي نتحدث عنها، ليس فقط لأن أدمغتهم ما زالت في مرحلة تطور وتشكل، بل لأنهم وُلدوا في عصرٍ باتت فيه الشاشة نافذتهم الأولى على العالم، ومصدر التسلية الأول بالنسبة إليهم، ومع قلة النضج اللازم لضبط الذات، يُصبح من السهل للغاية الانغماس في المحتوى السطحي، الذي لا يُعمل العقل بأي شكل.
أما عن أعراض "تعفن الدماغ"، فتشمل:
- انعدام القدرة على التركيز.
- الاضطراب في الذاكرة.
- الميل إلى العزلة الافتراضية.
- تبدل المزاج المتكرر.
- ضعف القدرة على التحليل والتفكير العميق.
وإذا أردت أن تطمئن على نفسك، فجرب أن تُشاهد مقطع فيديو مفيدٍ طويل، أو تقرأ مقالاً ثريّاً طويلاً، إلخ، من المهام التي تحتاج إلى إعمال للعقل، أقله قارن قدرتك على تأدية هذه المهام في الوقت الراهن، بقدرتك على تأدية المهام نفسها قبل ظهور "تريند" الفيديوهات القصيرة والمحتوى التافه.
كيف نستعيد أدمغتنا؟
مع تصاعد التحذيرات حول "تعفن الدماغ"، نحتاج إلى التحلي بقدرٍ من الحكمة والتركيز على الحلول الممكنة، لنستعيد ما يمكن استعادته من أدمغتنا ونوقف هذا النزيف والانحدار الفكري.
ولحسن الحظ فإن الوقت لم يفت، وأدمغتنا تمتاز بقدرٍ عالٍ من المرونة، التي من شأنها أن تُعيد كل شيء إلى ما كان عليه، ومن النصائح التي يمكن أن تساعد على ذلك:
1. التنظيم والاعتدال: يجب ألا تقطع سُبل المتعة والتسلية نهائيًا، لكنك يجب أن تحدها بأُطر زمنية معينة، ويمكن أن تساعدك على ذلك تطبيقات محددة على الأندرويد والآيفون (مثل StayFree).
2. الديتوكس الرقمي: "الديتوكس الرقمي" أو "الديجيتال ديتوكس" هو الابتعاد عن التكنولوجيا القابلة للإدمان لفترة معينة، وقد تحدثنا عن هذا الأمر بالتفصيل في تقريرٍ سابق، يمكن أن يساعدكم كثيرًا على حل مشكلة "تعفن الدماغ".
3. البدائل الصحية: حاول أن تمارس أنشطة حقيقية خارج العالم الافتراضي، مثل قراءة الكتب الورقية، أو التجول في الطبيعية، ويُنصَح أيضًا وبشدة ممارسة الرياضة والمشاركة في نشاطات اجتماعية حقيقية، تجعلك تُعمل عقلك وبدنك.
4. استخدام التكنولوجيا بوعي: حاول دائمًا أن تسأل نفسك: "هل أنا الآن أفعل الشيء الصحيح على وسائل التواصل؟"، إلى جانب ذلك حاول أن تختار المحتوى المفيد والعميق، وتتجنب الانجرار وراء الفيديوهات القصيرة أو "الشورتس"، وحاول أيضًا أن تتابع المصادر الموثوقة والمفيدة، وتتجنب الشائعات والمعلومات المشكوك في صحتها.
5. التأمل: أخيرًا وليس آخرًا، فإن تخصيص فترات للتأمل -بعيدًا عن الأجهزة الإلكترونية- بهدف مراجعة النفس وترتيب الأفكار، يمكن أن يساعدك على التخلص من إدمان المحتوى غير المفيد.
وفي النهاية فإن أهم ما يمكن أن ننصحك به هو الوعي بمدى خطوة "تعفن الدماغ"، والسعي الحقيقي للتخلص من هذه المشكلة عن طريق اتباع النصائح المذكورة، وغيرها مما تجده منطقيًّا، فتحدَّ نفسك وحاول الاستمتاع بالمحتوى الطويل المفيد قدر المستطاع، حتى يحل محل الفيديوهات القصيرة وما على شاكلتها من المحتوى.