"ليست الخلايا العصبية وحدها".. من المسؤول عن تحفيز الكهرباء في الدماغ؟
مخ الإنسان ما هو إلا شبكة تواصل، وتُعد الأعصاب هي الصناديق الخاصة بالثرثرة لهذا العضو، إذ يستطيع من خلالها التواصل والتحدث مع أعضاء وأجزاء الجسم المختلفة، كما تتواصل الأعصاب مع بعضها عن طريق الإشارات الكهربائية، والمواد الكيميائية التي تُسمى بالنواقل العصبية. ومن خلال تكرار هذه العملية "التواصل" مليارات المرات في الثانية الواحدة، يستطيع المخ تحويل مجموعات من المواد الكيميائية إلى أفعال، وذكريات، وأفكار، ببساطة يستطيع المخ التحكم في أي شيء عن طريق التواصل العصبي الذي يحدث عن طريق النواقل العصبية الكيميائية، والإشارات الكهربائية، ومن خلال تكرار عملية التواصل يستطيع المخ فعل ما يريده.
ويحاول العلماء دراسة المخ عن طريق الاستماع إلى هذه المحادثات الكيميائية، ولكن الخلايا العصبية صوتها عالٍ للغاية، وتتكرر باستمرار لدرجة أنه لا يمكن سماع الأصوات الأخرى الأكثر هدوءًا إذا كانت موجودة.
من المسؤول عن نشر الإشارات الكهربائية؟
خلال القرن العشرين اتفق العلماء على أن الخلايا العصبية هي المسؤولة عن نشر الإشارات الكهربائية، وأن الخلايا الأخرى الموجودة في المخ التي تُسمى الخلايا الدبقية "glia" دورها الأساسي والوحيد هو دعم الخلايا العصبية، ولكن في تسعينيات القرن الماضي اكتشف العلماء ظاهرة غريبة، وهي أن العلماء قد لاحظوا أن الخلايا النجمية "astrocyte" تستجيب للجلوتاميت "glutamate"، والجلوتاميت هو ناقل عصبي رئيس مسؤول عن توليد الإشارات الكهربائية.
وطوال العديد من السنوات قدم العلماء العديد من الأدلة المتضاربة، بعضها يؤيد أن الخلايا النجمية تشارك في نشر ونقل الإشارات الكهربائية، والبعض الآخر ينفي ذلك تمامًا، وظهر ذلك في العديد من الدراسات التي تحاول إثبات وجهة نظرها.
لكن نُشرت دراسة في سبتمبر 2023 في مجلة "Nature" قدمت أفضل دليل على الإطلاق على أن الخلايا النجمية تُشارك في نقل ونشر الإشارات الكهربائية، وأُجريت هذه الدراسة على مدى 8 سنوات بقيادة أندريا فولتيرا "Andrea Volterra" الأستاذ الزائر في معهد ويس Wyss للهندسة الحيوية والخلايا العصبية في جينيف في سويسرا، وتضمنت الدراسة نوعين من الأدلة هي صور توضح تدفق الجلوتاميت من الخلايا النجمية، والبيانات الجينية التي توضح أن هذه الخلايا تمتلك الآلية نفسها التي تستخدمها الخلايا العصبية للتعامل مع الجلوتاميت.
كما توضح نتائج هذه الدراسة التناقضات في الدراسات السابقة، وذلك لأنها أوضحت أن أنواعًا معينة فقط من الخلايا النجمية يمكنها التعامل مع الجلوتاميت، وبناءً على ذلك فإن كلا الفريقين المختلفين في الآراء حول الخلايا النجمية كانا على حق إلى حد ما، لأن نتائج الدراسة تعتمد على أي خلايا نجمية استخدمها العلماء في الدراسة.
وقال كريستوفر دولا "Christopher Dulla" -عالم علم الأعصاب في جامعة Tufts- الذي درس الخلايا النجمية، لكنه لم يُشارك في الدراسة الجديدة: "هذه الدراسة رائعة للغاية، لأنها توضح لماذا كلا الفريقين كان يملك بيانات ومعلومات متضاربة"، ويوضح هذا الاكتشاف أن بعض الخلايا النجمية تُشارك في الدوائر العصبية في المخ، بينما قال فولتيرا: "من خلال هذه الدراسة نحن نقترب أكثر من فكرة أن كل الخلايا الموجودة في الدماغ تُسهم في وظيفة المخ، فهذه الخلايا تتكامل مع بعضها أكثر مما كنا نعتقد".
شبكة التواصل في المخ
أطلق العلماء على أي خلية موجودة في المخ غير الخلايا العصبية اسم الخلايا الدبقية "Glia" وهذا الاسم مُشتق من المصطلح اللاتيني الغراء "Glue"، وكانت وجهة نظر العلماء الأولى أن كل الخلايا الدبقية بما فيها الخلايا النجمية وظيفتها الوحيدة هي دعم الخلايا العصبية، ولكن منذ اكتشاف الخلايا النجمية في سنة 1865، فإن العلماء توصلوا إلى أن الخلايا النجمية لها القدرة على أداء مهام أكثر من ذلك بكثير، فعلى سبيل المثال فإن هذه الخلايا لديها مستقبلات الجلوتاميت، والتي يستخدمونها في اكتشاف وتنظيف النواقل العصبية الزائدة الموجودة في الفراغات بين الخلايا العصبية.
وفي أثناء توصيل الخلايا العصبية للإشارات العصبية، فإن نهاية الخلية العصبية تُطلق نواقل عصبية في الفراغ الموجود بينها وبين بداية الخلية العصبية التالية، وبعد أداء النواقل العصبية لوظيفتها، فإن الخلايا النجمية تتعرف على النواقل العصبية الزائدة المتبقية في هذا الفراغ، فتبدأ في تنظيف هذه البقايا.
لكن الشيء الذي لم يكن واضحًا حول هذه الخلايا هو قدرتها على استخدام الجلوتاميت لتوليد الإشارة الكهربائية بمفردها، وفي عام 1994 حفز العلماء الخلايا النجمية في طبق، ولاحظوا أن الخلايا العصبية القريبة منها ظهرت وكأنها تستجيب لها عن طريق أنها بدأت في التحضير لإرسال إشارة كهربائية.
وفي عام 1977 لاحظ فولتيرا وزملاؤه العكس تمامًا، إذ لاحظوا أن الخلايا النجمية تستجيب لاتصالات الخلايا العصبية عن طريق تذبذبات جزيء الكالسيوم المسؤول عن الإشارات الكهربائية، ومن سنة 2000 حتى سنة 2012 نشر العلماء أكثر من 100 ورقة بحثية تؤيد قدرة الخلايا النجمية على التواصل عن طريق التشابكات العصبية "التشابك العصبي هو المكان الذي تلتقي فيه نهاية الخلية العصبية ببداية الخلية العصبية التالية، وفيه يحدث انتقال النواقل العصبية المسؤولة عن نقل الإشارات الكهربائية من خلية لأخرى".
لكن تساءل بعض العلماء الآخرين حول كيفية جمع وتفسير هذه الأدلة، فعلى سبيل المثال في دراسة في عام 2014، لاحظ العلماء أن الفأر الرئيس المستخدم في هذه الدراسة به بعض العيوب، ما أثار التساؤلات حول صحة الدراسات الأخرى التي استخدمت هذا النوع من الفئران، وفي هذا الوقت بدأت تتطور نظرة العلماء للخلايا النجمية.
وبدأ العلماء في النظر إلى الخلايا النجمية على أنها خلايا تُشارك بنشاط في عملية معالجة المخ للمعلومات، وفي حين أن العلماء ينظرون إلى الخلايا العصبية وتفرعاتها على أنها شجرة متفرعة، فإن الخلايا النجمية تُشبه الفطريات، وتكون نسيجًا منسوجًا بإحكام يُغطي المخ ويعمل على مشاركة المعلومات بين أجزائه، وبهذه الطريقة فإنه يبدو أن الخلايا النجمية تكون شبكة منسقة تؤثر على نشاط الخلايا العصبية.
على سبيل المثال اكتشفت كيرا بوسكانزر "Kira Poskanzer" في أثناء إجراء دراسة في علم الأعصاب في جامعة كاليفورنيا عام 2016، أن الخلايا النجمية للفأر تدفع الخلايا العصبية القريبة منها إلى الدخول إلى حالة النوم الإيقاعية عن طريق تنظيم الجلوتاميت.
وتقول بوسكانزر: "إنها تُشبه الخلية الفردية التي تؤدي مهامها وأكثر كجزء من فريق كامل من الخلايا يعملون معًا"، وعلى الرغم من ذلك فإنه يوجد فرق كبير بين القدرة على مسح الجلوتاميت وبين توليد الإشارة الكهربائية، ويعتقد "فولتيرا" أن الخلايا النجمية لها القدرة على توليد الإشارة الكهربائية، ولكي يستطيع إثبات ذلك، فإنه بحاجة إلى دليل على أن الخلايا النجمية لها القدرة على إرسال الإشارات الكهربائية، بالإضافة إلى امتلاكها الأدوات لفعل ذلك بالطرق المناسبة.
اقرأ أيضًا:الصداع النصفي .. كثرة المسكنات ليست حلاًّ
نوع جديد من خلايا المخ
استفاد "فولتيرا" من طريقة جديدة في دراسة الدماغ، وهي عن طريق تسلسل الحمض النووي الريبوزي أحادي الخلية "single-cell RNA sequencing"، الذي له القدرة على التقاط صورة لمجموعة كاملة من الجينات النشطة في الخلايا الفردية في جميع أنحاء الخلية، ومن خلال البحث في 8 قواعد لخلايا الحُصين "hippocampal cells" للفئران، استطاع تحديد 9 مجموعات من الخلايا النجمية التي تتميز بنشاطها الجيني.
في مجموعة واحدة من هذه المجموعات "التي تشارك في نسخ البروتين" لاحظ العلماء أنها تُشارك في عملية تخزين النواقل العصبية وإطلاقها، ونقلها عبر الحويصلات تمامًا مثلما يحدث في الخلايا العصبية، ولكن هذه الخلايا لم تكن موزعة عبر منطقة الدماغ، أو حتى في دوائر عصبية معينة، ولكي يتأكد العلماء من وجود مثل هذه الخلايا في البشر، فحص العلماء 3 قواعد بيانات لخلايا الحُصين البشرية، للبحث عن توقيعات البروتين المشابهة لما وجدوه في الخلايا النجمية في الفئران، ووجد العلماء هذه التوقيعات في قواعد البيانات الثلاث.
هذه النتائج لا تزال أدلة غير مباشرة، ويحتاج "فولتيرا" إلى عرض حي لإظهار الخلايا النجمية وهي ترسل الإشارات الكهربائية، ولذلك أجرى هو وزملاؤه محاكاة إشارة كهربائية إلى الخلايا النجمية الموجودة في شرائح دماغ الفئران، ثم التقطوا صورًا للجزيئات التي تُصدرها الخلايا النجمية، ووجد العلماء أن بعض وليس كل الخلايا النجمية تستجيب عن طريق الجلوتاميت، ولكن عندما منع العلماء الخلية من استخدام الحويصلات، فإن الخلية لم يعد بإمكانها إطلاق الجلوتاميت.
يقول "فولتيرا": "لقد كنا محقين، إذ تستطيع الخلايا النجمية إطلاق الجلوتاميت، ولكننا كنا أيضًا مخطئين إذ لا تستطيع كل الخلايا النجمية فعل ذلك"، ويقول عالم الأعصاب في جامعة لندن ديميتري روساكوف "Dmitri Rusakov": "نتائج هذه الدراسة ترفع الفهم الحالي للطريقة التي يتواصل بها الدماغ".
التعرف على أن الخلايا النجمية لها القدرة على إرسال الإشارات الكهربائية هو الخطوة الأولى، ولكن ذلك لا يُجيب عن السؤال حول كيف تستجيب التشابكات العصبية للجلوتاميت الذي تُطلقه الخلايا النجمية؟ كما أنها لا توضح أي الوظائف التي تحتاج إلى إشارات الخلايا النجمية بدلاً من أو بالإضافة إلى إشارات الخلايا العصبية، كما أنها لا تُفسر لماذا توجد الخلايا النجمية التي لها القدرة على إفراز الجلوتاميت في بعض مناطق المخ أكثر من غيرها؟، أو لماذا مجموعة معينة فقط من الخلايا النجمية تمتلك هذه القدرة؟