معضلة يسعى الخبراء لحلها: لماذا يحب المديرون الابتكار ويحاربونه؟!
تساعد الشركات المدارة بشكل جيد موظفيها المهرة على الازدهار، ويتضاعف أثر ذلك كلما وفرت لهم الدعم، بما يعنيه من أمان وثقة في تقدير أدوارهم. ومن ثم يشعرون بالحرية في التعبير عن المخاوف، بالإضافة إلى منحهم الجرأة على طرح الاقتراحات والحلول المبتكرة للمشاكل القائمة، مما يخلق مناخًا مهنيًا دافئًا ومحفزًا للإبداع.
وعلى النقيض، تتسم هياكل وسياسات منظمات أخرى بعزل المبدعين، مع تثبيط عزائمهم عن مشاركة أفكارهم الإبداعية، بل ومحاربة وخنق هذه الأفكار أحيانًا، حتى لو كان نجاح المنظمة يعتمد على قدرة موظفيها على الابتكار!
لقد وثّق خبراء الإدارة الكثير من العوامل التي تعزز الإبداع في مكان العمل، كما أثبتوا مجموعة كبيرة من الإجراءات القاتلة للإبداع، والتي يضعها في الغالب مديرون يُفترض أنهم يحبون الابتكار ويشجعونه، على الأقل لما يحققه لمؤسساتهم من نجاح وتميز. إلا أنهم، ورغم هذا العشق المفترض، لا يحاولون بذل كل ما في وسعهم لمعالجة السلبيات، أو منح الفرصة لتحويل مؤسساتهم إلى أماكن تغذي الابتكار، أو حتى تهيئ له جوًا مناسبًا ينعكس على الإنتاجية، بدلًا من محاربة أصحابه وخنق أفكارهم!
تقويض الإبداع!
حسب "تيريزا إم أمابيل"، الأستاذة في كلية هارفارد للأعمال وبعض المراكز البحثية المرموقة، فإن هناك ثلاثة مكونات ضرورية للإبداع داخل الفرد، تكملها بيئة العمل المواتية، وهي:
- توفر الخبرة: إذ يحتاج الناس إلى الخبرة في البداية ليكونوا مبدعين، من خلال الاستمرار في التعلم في مجالهم الأساسي والمجالات الأخرى ذات الصلة، لرؤية الروابط التي يمكن أن تؤدي إلى إنجاز كبير.
- التفكير الإبداعي: بعض الناس يملكون قدرة فطرية على التفكير خارج الصندوق، رغم أنه يمكننا جميعًا أن نتعلم ونحسن ونحفز مهارات التفكير الإبداعي لدينا، من خلال تبادل الأفكار والعصف الذهني.
- الدوافع الذاتية: تتمثل في وجود الدافع للقيام بشيء ما لأنك تجده مثيرًا للاهتمام أو ممتعًا أو مُرضيًا أو يمثل تحديًا شخصيًا. ولكن بيئة العمل غير المواتية يمكنها ببساطة تقويض ذلك.
لكن ولسوء الحظ، فإن العديد من المديرين يعتبرون السلوكيات التي تقوض الإبداع أكثر طبيعية من تلك السلوكيات التي تحفزه، إذ اعتادت الأنظمة الإدارية خلال عقود طويلة على أساليب يمكنها ببساطة خنق الإبداع، مثل:
- وضع القيود المفرطة للقيادة والسيطرة، مع التسلسلات الهرمية الوظيفية الصارمة، ما يؤدي بدوره إلى غياب الاستقلالية.
- عدم توضيح الهدف والمعنى العميق لأهمية عمل كل موظف لإقناعه بما يفعل، ومن ثم لتحفيزه على الإبداع.
- التعامل مع الموظفين من المستوى الأدنى باعتبارهم يفتقرون إلى القيمة، أو باعتبار أنه يمكن الاستغناء عنهم بسهولة، ما يخلق أجواء سامة.
- تشكك المديرين في الأفكار الجديدة، وانحيازهم لإبقاء الأوضاع على ما هي عليه، والحفاظ على الوضع الراهن للعمل، رغم حديثهم الدائم حول أهمية الإبداع والابتكار.
- العزوف عن المخاطرة وتجنبها، خاصة إذا كان نمو المديرين الوظيفي يعتمد على إظهار سجل حافل من النجاح، بينما يتطلب العمل الإبداعي بيئة مغايرة، ما يؤثر على قدرة الشركة على المنافسة والتكيف على المدى الطويل.
- الاهتمام بالروتين والعمليات التي لا طائل من ورائها، أكثر من الاهتمام بالجوهر، ودون محاولة تذليل العقبات التي قد تؤدي إلى إبطاء العمل.
كل هذه الأشياء بعضٌ من معوقات الإبداع التي يجب على المديرين محاولة معالجتها في إطارات العمل المعاصرة والأكثر حداثة، دون الاعتماد على آلة العمل القديمة، المكونة من قوالب جامدة من الأفكار والهياكل التنظيمية والعمليات والمقاييس والأدوات، التي وضعت واحدة تلو الأخرى خلال الثورة الصناعية، ومن ثم فإنها لم تعد صالحة لدعم الابتكار والمرونة التي تحتاجها أي منظمة للاستمرار والبقاء في الألفية الجديدة. فلم تعد الإدارة باستخدام الخوف والسيطرة ناجعة في تحفيز الموظفين، ومن ثم ينبغي على كل مدير ربط رغبته في الابتكار بفعله، وتحقيق ذلك في أدواته ومبادئه حتى لا يخنق الابتكار ويحبط أصحابه.
اقرأ أيضًا: فخّ الأشهر الثلاثة.. لماذا يفقد المديرون أفضل مواهبهم سريعًا؟
كيف يخنق المديرون الابتكار؟!
بالعودة لحديث د. "أمابيل"، فإن مديرك يلعب دورًا كبيرًا ومباشرًا في تهيئة بيئة عملك وتوجيهها للإبداع، بل ويرسم حدود مدى تحفيز إبداعك أو تقليله. وكما قال "ستيف جوبز": "لا يمكنك فرض الإنتاجية، بل يجب عليك توفير الأدوات اللازمة للسماح للأشخاص بأن يصبحوا أفضل ما لديهم"، وهي الجملة التي تتكامل مع آراء خبراء الإدارة الذين تناولوا تلك الطرق التي يخنق بها المديرون الابتكار في فرقهم. ولعل الأمثلة كثيرة في هذا السياق، ومنها:
- التدقيق على الأهداف اليومية والأسبوعية والشهرية، بدلاً من طرح سؤال: "ما هو أهم شيء يمكننا تحقيقه في قسمنا خلاف أهدافنا المتفق عليها؟"
- تقييد الموظفين الذين لديهم أفكار مبتكرة من خلال إخبارهم مثلاً: "هذا ليس ضمن وصف وظيفتك" أو "أريدك أن تفعل ذلك بالطريقة التي قمنا بها دائماً".
- تثمين ومكافأة الواجبات الروتينية والآراء التي تتفق مع المديرين، وما يضعونه من مقاييس روتينية للأداء، بدلاً من تشجيع العصف الذهني غير التقليدي والأداء المبدع والمبتكر.
- تحويل تركيز الموظفين إلى التنافس فيما بينهم للتغلب على بعضهم البعض، بدلاً من تشجيع العمل معاً لتحقيق الفوز الجماعي.
- غلق مساحات المناقشة أو الاستماع إلى الفكر المستقل، لدرجة أن بعض المديرين الذين تنقصهم الكفاءة يقولون: "أنا لا أدفع لك مقابل التفكير!"
- إبقاء الموظفين خارج محادثات الرؤية والإستراتيجية عالية المستوى، ثم يطلبون منهم حلولاً وخطوات. فمن يستطيع التوصل إلى حل رائع لمشكلة لا يفهمها بالكامل أو حتى لا يعرفها من الأساس؟
- الخوف الدائم من مديريهم الأعلى، لدرجة أنهم لا يقترحون أي تغيير في خطة فريقهم أو جدوله الزمني أو ميزانيته، بينما يتطلب الابتكار تحولاً في واحد على الأقل من هذه العناصر الثلاثة، إن لم يكن في جميعها.
- معاقبة الموظفين الذين يجازفون عندما لا تنجح أفكارهم، وهذه طريقة مؤكدة لخنق أي أفكار إبداعية قد تكون لدى زملائهم في الفريق.
- العقلية التي تخبرهم أن اليوم الجيد في العمل هو اليوم الذي لا ينكسر فيه أي شيء أو تسوء فيه الأمور، وهي أفكار لن تحقق الإبداع أبداً ولا تشجع عليه.
حلول لتعزيز الإبداع في العمل
اقرأ أيضًا: كيف تنجح في تحفيز أفراد فريقك الذين انخفض أداؤهم؟
بشكل عام، تظهر الأبحاث أن التوتر في مكان العمل يعد قاتلاً للإبداع. فإذا كان الفرد قلقًا بشأن أدائه، أو منشغلاً بالمواعيد النهائية قصيرة المدى، فمن غير المرجح أن ينخرط في التفكير الإبداعي المجرد والمعقد المطلوب لتوليد نهج ابتكاري مميز.
إذ يمكن للأهداف قصيرة المدى المتكررة أن تصرف انتباه الموظفين عن الأهداف والصورة الكبيرة للمؤسسة، فقد يتجه الأفراد إلى إعطاء الأولوية للحلول السريعة والطرق التقليدية لممارسة الأعمال، بدلاً من التطلع إلى المستقبل وتوليد أساليب جديدة ومليئة بالتحديات.
كما يمكن أن يؤدي الإجهاد المتكرر الذي يستغرق وقتًا طويلاً أيضًا إلى تقليل الإبداع عن طريق تآكل الأداء العقلي.
ومن ثم فليس غريباً أن تظهر نتائج تلك الدراسة التي أجرتها مؤسسة غالوب، والتي تؤكد أن 29% من الموظفين المشاركين هم فقط من وافقوا بشدة على أنه يُتوقع منهم أن يكونوا مبدعين في العمل، فيما لم يشاركهم الآخرين نفس الرأي!
وباعتبارك مديراً يسعى إلى تعزيز الابتكار، فإنه يتحتم عليك الإلمام بالعوامل الأساسية الثلاثة اللازمة لتعزيز الإبداع في مكان العمل، من خلال وضع توقعات للإبداع، وضمان الحرية اللازمة لذلك، مع منح هذه العملية الوقت الكافي لتتم، بما لا يُفقد المنظمة القيمة التي ينبغي لها الحصول عليها. مع تعزيز ذلك بحلول وخطوات مدروسة تلخص عصارة أبحاث خبراء الإدارة، ومنها:
- التعامل مع جميع الموظفين على قدم المساواة، مع ضمان أن موظفيك يفهمون الطريقة التي تتخذ بها القرارات.
- تشجيع التواصل المفتوح، مع تطوير مهارات الاستماع والتفاعل والتعاون بين جميع مستويات الفريق.
- منح الموظفين ذوي المكانة الأدنى مسؤوليات أكبر، مع المزيد من السلطة كلما أمكن ذلك، لتعزيز المسؤولية الذاتية والاستقلالية لدى الجميع.
- إزالة التمييز الظاهري بين المستويات الوظيفية المختلفة، مع ضرورة الانفتاح لاستقبال مختلف الآراء من جميع المستويات الوظيفية.
- إعادة تخطيط المكاتب بما يحقق مزيدًا من التفاعل بين مختلف المستويات الوظيفية.
- إعادة صياغة الأهداف بطريقة مجردة وطويلة المدى، إذ تعد النتائج قصيرة المدى في ممارسة الأعمال التجارية سامة للإبداع.
- تشجيع الموظفين على طرح أفكار وأسئلة جديدة، بدلاً من اختبارات السرعة المتعارف عليها، مع ضرورة مكافأة المفكرين المبتكرين والمبدعين.
- تحديد أهداف مستقبلية بالتنسيق مع قيادة المنظمة، لتركيز الجهد بدلاً من الاهتمام بالنتائج الوقتية المباشرة.
- فهم ردود الفعل العاطفية للموظفين لتفادي العداء والتركيز على الأهداف، فالصراعات بعيدًا عن جوهر العمل تقوض الإبداع والابتكار، وتؤدي لسيادة بيئة عمل سامة.
- ضرورة تقييم الموظفين من حيث مهاراتهم وجهدهم وقدرتهم على التكيف، وليس من خلال متابعتهم دقيقة بدقيقة.
- تشجيع الإبداع بين الموظفين، ففي حين أننا جميعًا قادرون على إيجاد طرق جديدة لمساعدة شركتنا على النجاح، إلا أننا قد لا نبذل الكثير من الجهد، إذا لم يكن الإبداع مطلوبًا بشكل صريح ومرحبًا به.
- تعزيز الإدارة الجيدة للوقت بالانضباط، مع وضع جدولة خاصة بالإبداع والعصف الذهني، وعليك هنا تذكر Play-Doh على سبيل المثال، وهي الشركة التي انطلقت توسعاتها من فكرة خطرت ببال أخت زوجة أحد موظفيها.
كل هذه الحلول قد تشكل قاربًا يعبر بمؤسستك إلى بر الأمان، بينما يعزز الإبداع فيها، فالجميع يحب الابتكار، وبالتأكيد لا يتمنى أحد محاربته!