"الاستقالة الصامتة".. أسبابها وكيفية تجنبها وعلاجها
يشهد سوق العمل العالمي تراجعًا ملحوظًا في أعداد المواهب، بينما تتراجع مستويات تفاعل الموظفين بشكل ملحوظ نتيجة لعوامل وظروف متعددة.
وقد يدفع ذلك إلى إجراء تقييمات مستمرة للأداء، إلا أنّ هذه التقييمات قد تأتي بنتائج عكسية على الموظفين أكثر مما يتوقعه بعض المديرين.
ففي ظلّ ارتفاع معدلات التضخم والإجهاد، وتسرب المواهب بشكل ضخم، يُصاحب تقييمات الأداء شعور الموظف بالقلق.
ولعلّنا شهدنا تصاعدًا غير مسبوق في حالات الاستقالة الاعتيادية حول العالم، خاصةً بعد جائحة كوفيد 19، ممّا شكّل ما يشبه الظاهرة التي أطلق عليها البعض "الاستقالة الكبرى".
تشير بعض البيانات إلى استمرار الارتفاع اللافت في أعداد الموظفين الذين يعتزمون الاستقالة، حتى دون وجود وظيفة بديلة. كما شهدنا ظاهرة مثيرة للاهتمام، تتمثّل في عدم مباشرة الموظفين مهامهم الحقيقية بعد تعيينهم، ممّا ينسجم مع مفهوم "الاستقالة الصامتة".
وتعني "الاستقالة الصامتة" قيام الموظفين بالحدّ الأدنى من العمل المطلوب فقط، بعد أن انفصلوا من الناحية الشعورية، وربما الإدراكية أيضًا، عن بيئة عملهم. فما الذي يحدث؟ وكيف حدث ذلك؟ ولماذا؟
تُجيب السطور التالية على هذه الأسئلة، بينما تسعى للبحث عن العلاج.
الممارسات المهنية ودور المديرين
يُؤكّد الخبراء على أنّ تحديد الممارسات المهنية السليمة في بيئات العمل الصحية يتطلّب مشاركة فعّالة من قبل الموظفين، مع منحهم الوقت والمساحة والإمكانات اللازمة لاستثمار قدراتهم في مشاريع مُحفّزة، ممّا يضمن ولاءهم على جميع المستويات، بما في ذلك المستوى النفسي والمهني والمعنوي.
وفي حال عدم توفّر ذلك، تبدأ عملية انفصال تدريجي للموظف عن العمل وبيئة عمله، ممّا قد يؤدّي إلى عدم الاكتراث أو ما يُعرف بـ "الاستقالة الصامتة". فخلال هذا الانفصال غير الرسمي، يبقى الموظف على رأس عمله، حتى يلاحظ مديروه انخفاضًا ملحوظًا في أدائه، ممّا يدفع الإدارة أخيرًا إلى الاهتمام به، أو اتّخاذ الإجراءات المناسبة لكل حالة بعد دراسة أبعادها.
يُؤكّد الخبراء على أنّ تجنّب سيناريو "الاستقالة الصامتة" يتطلّب وجود مدراء أكفاء قادرين على التواصل بِفعالية مع موظفيهم. فمع ازدياد شعور الموظفين بالإجهاد، سواء من العمل أو ظروف الحياة، يُصبح من الضروريّ تخفيف الأعباء عليهم وتحسين بيئة عملهم، بدلاً من تعقيدها أو زيادة الضغوطات.
وهنا يأتي دور المدير الجيد، الذي يُبادر بِفتح حوارٍ وديّ مع الموظف حول أحواله، وتحديد العوامل التي تُحفّزه على العمل وتُساعده على تجاوز التوقعات. كما يجب على المدير الجيد ربط مهام الموظف بأهدافه الشخصية، والتأكيد على انسجام العمل الجماعي مع تحقيق هذه الأهداف. بالإضافة إلى ذلك، تُعدّ مراجعة الأداء بشكلٍ دوريّ ضرورية لِتقييم كلّ موظف بِشكلٍ موضوعيّ، وتحديد ما إذا كان بحاجةٍ إلى تحفيزٍ أو مكافأةٍ لتحسين أدائه.
ويؤدي تجاهل المدير للتواصل الفعال مع موظفيه إلى تعقيد الموقف، ويُصبح من الصعب تصحيح مسار العلاقة المهنية.
فكما هو الحال في أي علاقة أخرى، يجب أن تتضمّن العلاقة المهنية عطاءً متبادلاً بين المدير والموظف. وإذا شعر الموظفون بِغياب اهتمام المديرين بأدوارهم وِبِمهامهم، فإنّهم سيُصبحون لامبالين بعملهم.
وتُعدّ إحدى أبرز سلبيات المناصب القيادية في هذه الجزئية التقصير تجاه الموظفين. فبحسب الخبراء، فإنّ أي محاولة لتقصي أسباب "الاستقالة الصامتة" ستؤكّد على أنّها تعود جزئيًا إلى: انفصال الموظفين ذهنيًا عن وظائفهم ومهامهم وهدف الشركة الأشمل، وشعورهم بالابتعاد عن أهدافهم الشخصية.
في مرحلة ما من مسيرته المهنية، قد يقبل الفرد وظيفة معينة بهدف الارتقاء إلى منصبٍ أعلى، سعيًا وراء وظيفةٍ أكثر إلهاماً وجاذبية.
ولكن عندما تصبح الصورة ضبابية، قد يُسارع الجميع إلى ترك العمل فور اختفاء هذا الطموح. يبقى السؤال هنا حول كيفية إعادة بثّ الحماس في هؤلاء الموظفين وتحفيز التزامهم تجاه الشركة والعمل وبيئته، لتفادي سيناريوهات فقدان المواهب والاستقالة الصامتة.
ويمكن اختصار إجابة هذا السؤال في جملةٍ واحدةٍ تُمثّل كلمة السر، وهي "المديرون الجيدون".
اقرأ أيضًا: لماذا تتجه الشركات للتعامل مع الموظفين المستقلين؟
بناء علاقات العمل الوثيقة
يُشير خبراء الإدارة إلى أنّ أحد أسباب "الاستقالة الصامتة" قد يكون مرتبطًا بِما يُعرف بـ "التكاسل الاجتماعي". ففي حال وجودهم ضمن فريق عملٍ عالي المستوى، قد يعتقد الموظفون أنّهم قادرون على إنجاز المزيد من المهام.
ولكن، أدّت جائحة كوفيد-19، التي ساهمت في انتشار العمل عن بُعد، إلى نتائج عكسية. فطبيعتنا البشرية تدفعنا إلى الابتعاد عن العزلة والتفاعل مع الآخرين.
وقد أدّى ذلك إلى تضرّر علاقات العمل والشعور بالانتماء إلى مكان العمل، حيث سادت العزلة وتقلّصت فرص التفاعل المباشر بين الموظفين.
ونتيجةً لذلك، أصبحت الاستقالة بكلّ أشكالها أسهل من أيّ وقتٍ مضى. وهذا ما يدفعنا إلى ضرورة إيجاد طرقٍ مدروسةٍ لإعادة استقطاب الموظفين إلى أماكن العمل، ليس فقط لِضمان سير العمل بشكلٍ سلس، بل أيضًا لِلتذكير بطبيعتنا البشرية الاجتماعية.
تُقدم تجربة إحدى شركات الاستثمار العالمية نموذجًا يُمكن الاستفادة منه لِتعزيز العلاقات الاجتماعية بين الفرق المنفصلة. فقد عمدت هذه الشركة إلى إطلاق برنامج تدريبٍ يتيح للموظفين التحدث مع بعضهم البعض، بينما ينجزون مهامهم ويشاركون في بعض النشاطات المسلية.
وذلك بعد أن أدركت أنّ الموظفين قد يمتنعون عن المشاركة في البرنامج إذا كان مجرد فعالية اجتماعية تقليدية. وقد اتضح للخبراء أنّ إعادة تفعيل مفهوم العمل الجماعي لإنجاز المهام، بدلاً من المنهجية الفردية، يُعدّ ضروريًا لِتعزيز النسيج المجتمعي في أماكن العمل. وذلك لِمنع ترك الموظفين والمواهب فريسةً لأفكار "الاستقالة الصامتة".
ولا يعني ذلك التغاضي عن توجيه المديرين لملاحظاتهم، بل يتطلّب اختيار الطريقة المناسبة والأسلوب الأمثل لتقديم هذه الملاحظات، حتى وإن كانت صارمة أو شديدة الصرامة.
ويُواجه المديرون صعوبةً في تقييم أداء الموظفين الذين تشمل وظائفهم بطبيعتها التعاون مع مختلف فرق العمل. وقد يؤدّي ذلك إلى إهمال بعض الموظفين والمواهب، ممّا قد يُسبّب لهم الإحباط.
ويُمكن تفادي ذلك، بحسب الخبراء، من خلال وضع تقييمات محددة وقابلة للتنفيذ لهذه الوظائف. وذلك من خلال التركيز على إجراءات ومعطيات قابلة للقياس، مثل السلوكيات المحددة، بدلاً من الاعتماد على الانطباعات العامة.
وقبل كلّ شيء، يجب تقديم مكافآت وتعويضات مجزية تتناسب مع جودة المهام المنجزة، وحسابات سوق العمل، مع مراعاة مقاييس التضخم وآثاره. وذلك لِرفع معنويات الموظفين وتحفيزهم على بذل المزيد من الجهد لِنجاح شركتهم التي تُعنى بمستوى رفاهيتهم. فالتعويض غير العادل يُثبّط أداء الموظفين بشكلٍ أكبر ولفترةٍ أطول، ممّا قد يدفعهم إلى "الاستقالة الصامتة".
يُؤكّد الخبراء على أهمية بناء علاقة عمل وثيقة بين الشركات والمديرين من جهة، والموظفين من جهة أخرى، وتُعدّ الشفافية أسلوبًا أساسيًا لِبناء هذه العلاقة.
فمن خلال الشفافية، يُمكن للعاملين التعمق في نسيج العمل، والتفاعل مع الشركة بشكلٍ إيجابيّ بعد الإيمان بها. وذلك لِمواجهة تقلبات الأسواق وضغوط الحياة معًا.
فلا يرغب أيّ موظف في التخلي عن دوره أو الاستقالة دون سببٍ وجيه. وبالمثل، لا ترغب أيّ شركة في فقدان مواهبها ورأس مالها البشري دون سبب. لذلك، يجب على طرفي العلاقة أن يتفهما بعضهما البعض بِعمقٍ وشفافية.