تتأخر ثانية واحدة فقط كل 33 مليار عام.. ما هي الساعات الذرية وكيف تعمل؟
هل تساءلت يومًا عن الساعات المستخدمة في الفضاء ونظام تحديد المواقع العالمي (GPS) ومعيار التوقيت العالمي (UTC)؟ للأسف، لا تفي الساعات العادية بهذه المتطلبات مهما كانت دقتها عالية. فتخيل أن تأخر أفضل ساعة كوارتز بمقدار نانو ثانية واحدة فقط (جزء من مليار جزء من الثانية) - قد لا يبدو ذلك كثيرًا، لكنه قد يتسبب في مشكلات كبيرة!
لهذا السبب، قمنا بتطوير ساعات تعتمد على حركة الذرات، وتحديدًا الإلكترونات، بدلًا من التروس الميكانيكية وحركة البندول الثقيل. وهذا ما حققناه بالفعل.
من دوران الأرض إلى الساعات الذرية
لفترة طويلة من التاريخ، اتخذ الإنسان من دوران الأرض حول محورها مرجعًا لمعرفة الوقت. فالدوران الكامل للأرض حول نفسها يُعَدّ 24 ساعة، أي يومًا كاملًا، بليله ونهاره. وقد كان هذا المقياس كافيًا لاحتياجاتنا في الماضي. لكن مع ازدياد أهمية الوقت وتقديرنا له وإدراك تأثيره في حياتنا، لم يعد دوران الأرض مقياسًا يمكن الاعتماد عليه. فقد أصبحنا بحاجة إلى شيء أدق يتعامل مع الثانية وأجزاءها بدقة أكبر.
قفزة عبر الزمن إلى عشرينيات القرن الماضي: تم اختراع مذبذب الكوارتز، الذي يُستخدم في العديد من الساعات اليوم، والذي يُنشئ إشارات كهربائية ذات ترددات دقيقة تُمكننا من معرفة الوقت بدقة كافية لقياس وتسجيل التغيرات في دوران الأرض نفسها. لكن دقة هذه الساعات تظل محدودة لأسبابٍ متعددة، منها التأثر بالعوامل البيئية.
في ثلاثينيات القرن العشرين، حقق الفيزيائي إيزيدور إسحاق رابي وفريقه في جامعة كولومبيا خطوات كبيرة في فهم الخصائص الذرية. وبحلول عام 1939، كان قد تصور فكرة توظيف تقنيات "الرنين المغناطيسي للشعاع الجزيئي" (تقنية تتضمن تفاعل الذرات مع المجال المغناطيسي) لقياس الوقت.
في عام 1940، قاس إسحاق رابي تردد الرنين لذرة السيزيوم، وكانت القيمة قريبةً بشكلٍ ملحوظ من التعريف الذي سيتم صكه لاحقًا للثانية. وبفضل هذا الإنجاز، حصل رابي على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1944، ممهدًا الطريق لتطوير الساعة الذرية.
بعد الحرب العالمية الثانية، وتحديدًا في عام 1947، صمم الفيزيائي هارولد لايونز وزملاؤه في المكتب الوطني للمعايير (NBS) نموذجًا أوليًا للساعة الذرية، والتي مثلت نقلة نوعية في محاولاتنا لضبط الوقت. وبحلول عام 1955، تمكن الفيزيائي لويس إيسن في مختبر الفيزياء الوطني بالمملكة المتحدة من بناء أول ساعة ذرية دقيقة بما يكفي لتكون معيارًا للوقت. ساعة إيسن، المبنية على ذرات السيزيوم، كانت البداية لعصرٍ جديد من الوقت المضبوط بدقة عالية.
في عام 1967، أُعيد تعريف الثانية بناءً على خصائص الذرات، وتحديدًا ذرة السيزيوم. ووفقًا لهذا التعريف، تُعدّ الثانية مُدة حدوث 9,192,631,770 تحولًا من تحولات الطاقة (دورة من الإشعاع) داخل ذرة السيزيوم. وبهذا، أصبح الوقت يُقاس رسميًا باهتزازات الذرات بدلًا من الأحداث الفلكية.
الساعات الذرية الحديثة
الآن، تستخدم الساعات الذرية الحديثة أساليب متطورة، حيث يتم تبريد الذرات إلى درجةٍ قريبة من الصفر المطلق (درجة الحرارة التي ينعدم عندها ضغط الغاز المثالي) وإبطائها باستخدام تقنيات الليزر وغيرها من التقنيات التي أصبحت بمثابة العمود الفقري لضبط الوقت. وسنتناول باختصار آلية عمل الساعات الذرية في وقت لاحق.
تتواجد الساعات الذرية حاليًا، والتي لا نستخدمها مثل الساعات التقليدية بالطبع، في المختبرات والمعاهد المتخصصة في قياسات الوقت والبحث العلمي حول العالم، ومن أبرزها:
1. المعهد الوطني للمعايير والتقنية NIST: الموجود بمدينة بولدر بولاية كولورادو، الذي يُشغّل بعضًا من الساعات الذرية الأدق في العالم مثل ساعة "NIST-F1 cesium fountain".
2. المختبر الفيزيائي الوطني بالمملكة المتحدة NPL: موطن الكثير من الساعات الذرية والذي تمكن فيه لويس إيسن من بناء أول ساعة ذرية دقيقة لتكون معيارًا للوقت.
3. معهد أبحاث PTB: في مدينة براونشفايج الألمانية، ويُشغل أدق الساعات الذرية مثل ساعات ميزر الهيدروجين وميزر السيزيوم cesium and hydrogen maser.
اقرأ أيضًا: هل يحلم المكفوفون؟ وكيف تكون رؤاهم؟
فيمَ تُستَخدم الساعات الذرية تحديدًا؟
عرفنا أن الساعات الذرية هي أدق ما نملك لقياس وتقدير الوقت بدقة، ولكن إلى أي مدى؟
لنتناول هذا السؤال، علينا أن نُلقي نظرة على مجال استكشاف الفضاء ونرى كيف تُبلي فيه ساعات مثل الكوارتز. فبعد مرور ساعة واحدة فقط، وفي أفضل الأحوال، ستتأخر -أو تتقدم- ساعات الكوارتز بمقدار 1 نانو ثانية (جزء من مليار جزء من الثانية). وبعد مرور 6 أسابيع، يُصبح هذا التأخير أو التقدم مللي ثانية (جزء من ألف جزء من الثانية).
قد تبدو نسب الأخطاء المذكورة ضئيلة للوهلة الأولى، لكنها تتضخم في مجال الفضاء، حيث تُترجم هذه المللي ثانية إلى خطأ في المسافة يُقدر بحوالي 300 كيلومتر!
للتغلب على هذه المشكلة، تستخدم وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) ساعةً ذرية ذات دقة عالية للغاية، حيث لا يتجاوز معدل خطئها النانو ثانية كل 4 أيام، والميكروثانية (جزء من مليون جزء من الثانية) حتى بعد مرور 10 سنوات كاملة. وبفضل هذه الدقة المذهلة، لن تتأخر هذه الساعة ثانية واحدة كاملة إلا بعد مرور 10 ملايين سنة تقريبًا!
الدقة الهائلة المذكورة هي لساعةٍ ذرية تستخدمها وكالة ناسا، ولكن إذا تحدثنا عن أدق ساعة ذرية في العالم، فلن تقترب ساعة ناسا من دقتها، حيث ستحتاج الساعة الذرية الأكثر دقة إلى مرور 33 مليار سنة قبل أن تفقد أو تكتسب ثانية واحدة.
وبشكل عام، تُستخدم الساعات الذرية في أنظمة تحديد المواقع العالمي (GPS) ومجال الاتصالات والبحث العلمي (خاصة في التجارب الفيزيائية المتعلقة بالوقت والجاذبية) وغيرها الكثير من المجالات التي تُشكل فيها أجزاء الثانية فارقًا حقيقيًا.
آلية عمل الساعة الذرية؟
يعتمد مبدأ عمل الساعات الذرية على انتقال إلكترونات ذرات السيزيوم، التي تُعدّ المكون الأساسي لهذه الساعات، من مستوى طاقة إلى آخر. ويُعزى اختيار ذرات السيزيوم تحديدًا إلى ثبات معدل اهتزازاتها.
داخل ساعات السيزيوم الذرية، يتحرك هذا العنصر المستقر داخل أنبوبٍ مغلقٍ ويُطلق بترددات محددة تشبه موجات الراديو. وتؤدي هذه الترددات، التي تُطابق معدل اهتزاز ذرات السيزيوم، إلى انتقال الإلكترونات من مستوى طاقة إلى آخر. ويُعادل هذا الانتقال حركة عقارب الساعة، مع فارق هائل في الدقة لصالح الساعات الذرية.
وبشكل مبسط، يمكن تشبيه الساعات الذرية بالساعات التقليدية مع وجود فرق جوهري. ففي حين تحتاج ساعات البندول مثلًا إلى وقت طويل لحساب ثانية واحدة، كلما زاد حجم البندول ثقل تحركه وطالت الثانية. أما في حالة الساعات الذرية، فإن اهتزاز الذرات وانتقال الإلكترونات بين مستويات الطاقة يحدث بسرعة تفوق قدرة الإدراك البصري، ناهيك عن عدم تأثره بالعوامل الجوية أو غيرها من العوامل التي تُخل بدقة الساعات الأخرى.