قصة تسوتومو ياماغوتشي الناجي من قنبلتين نوويتين
في 6 و9 أغسطس 1945، ألقت الولايات المتحدة قنبلتين نوويتين على مدينتي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين، لتُصبح بذلك أول وأكبر دولة تُستخدم أسلحة نووية في حرب. أسفر هذا الهجوم المروع عن مقتل ما لا يقل عن 100 ألف شخص على الفور، بينما لقي عشرات الآلاف حتفهم لاحقًا بسبب الإشعاع.
أعلن الرئيس الأمريكي آنذاك، هاري ترومان، عن استخدام هذا "السلاح الجديد ذو القوة المُدمرة الهائلة" كوسيلة لإنهاء الحرب العالمية الثانية، مُبرّرًا ذلك بضرورة عقاب اليابان على هجومها على بيرل هاربور ودورها في الحرب العالمية. ووصف ترومان القنبلة النووية بأنها "تسخير القوة الأساسية للكون"، مُشيرًا إلى استمدادها طاقتها من الشمس.
لا تزال آثار القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناجازاكي حاضرة حتى يومنا هذا، حيث يعاني الناجون من أمراض مُزمنة وتشوهات جسدية ونفسية. كما تُلقي هذه الفاجعة بظلالها على العلاقات بين الولايات المتحدة واليابان حتى الآن.
النجاة من قنبلة هيروشيما
تسوتومو ياماغوتشي، المهندس البحري الياباني البالغ من العمر 29 عامًا، كان في رحلة عمل لمدة 3 أشهر لصالح الشركة المُنتَسِب إليها؛ ميتسوبيشي.
رحلة العمل كانت إلى مدينة هيروشيما، وفي السادس من أغسطس 1945، كان من المفترض أن يكون اليوم الأخير له في هذه المدينة المشؤومة التي قضى فيها وزملاؤه ساعات طويلة للعمل على تصميم ناقلة نفط جديدة.
الساعة الآن 8:15 صباحًا، وها هو تسوتومو يتوجّه إلى حوض بناء السفن التابع لميتسوبيشي للمرة الأخيرة قبل أن يعود إلى زوجته وولده الرضيع، ولكن فجأة، يتناهى إلى مسامعه صوت طائرة بدون طيار (درون) تحلق فوقه، ينظر إلى السماء ويرى قاذفة قنابل أمريكية من طراز B-29 تُسقِط جسمًا صغيرًا متصلًا بمظلة (باراشوت).
نحن نتحدث عن السادس من أغسطس 1945، أي أن الحرب العالمية الثانية كانت قد أوشكت على الانتهاء رسميًا، اليابانيون مُعتادون على القنابل وأصوات الطائرات الأمريكية ويعرفون جيدًا ما الذي يجب أن يفعلوه عند حدوث غارة جوية.
الجسم الذي أسقطته الطائرة قد انفجر، ولكن هذه المرة ليس كأي انفجار، فهو انفجارٌ نووي لم يحدث في تاريخ البشرية من قبل إلا عند اختباره.
بدت السماء وكأنها تنفجر من وهج الضوء الذي وصفه ياماغوتشي لاحقًا بأنه يُشبه "وهج ماغنيسيوم هائل مُشتغل"، فألقى بنفسه على الأرض كما تعلم، ولكن وجهه وذراعاه قد أُصيبا إصابات بالغة، ناهيك أنه اندفع في الهواء مُحلّقًا إلى أن انتهى به الحال على بُعد ميلين من مركز الانفجار.
لاحقًا، قال تسوتومو لصحيفة "التايمز" البريطانية: "لم أكن أعرف ماذا حدث، أعتقد أنني فقدت الوعي لبعض الوقت، كان كل شيء مظلمًا، لم أستطع رؤية الكثير، لقد كان الأمر أشبه ببداية فيلم سينمائي تُومِض إطاراته في البداية دون صوت".
الحقيقة أن ما حدث كان أكثر هولًا وأشد وطأة مما اعتقد ياماغوتشي، إذ خلَّف الانفجار الذري ما يكفي من الغبار والحطام لحجب الشمس تقريبًا مُستبدلًا بالأفق سحابة عيش الغراب المميزة لهذه النوعية من الانفجارات.
بعدما أفاق ياماغوتشي من غيبوبته، وجد زميليه "أكيرا إيواناجا" و"كونيوشي ساتو" قد نجيا من الانفجار، وبعد قضاء ليلة أقل ما يُقال عنها إنها مُضطربة في ملجأ للغارات الجوية، استيقظوا في السابع من أغسطس وتوجّهوا نحو محطة القطار التي سمعوا أنها لا تزال تعمل بشكلٍ أو بآخر.
العودة إلى ناغازاكي
بعد 16 ساعة من الانفجار، قال الرئيس الأمريكي ترومان تصريحه الشهير وعرفنا أن القُنبلة التي أُلقيت في هيروشيما، والتي تُسمى بـ "الولد الصغير- Little Boy" قد قطعت مسافة 1500 ميل تقريبًا قبل أن تنفجر في سماء المدينة اليابانية متسببة في مقتل نحو 80 ألف شخص في التو واللحظة، وعشرات الآلاف فيما لحق ذلك من أسابيع.
وتابع ترومان في تصريحاته متوعدًا اليابان بوابل من الخراب يسقط عليهم من السماء إن لم تعلن عن استسلامها.
في صباح الثامن من أغسطس، أي بعد حادث هيروشيما الأليم بيومين فقط، وصل ياماغوتشي إلى مدينة ناغازاكي وتوجه إلى المستشفى وهو يعرج.
لقد بددت الحروق ملامحه لدرجة أن الطبيب الذي عالجه كان زميلًا سابقًا له في المدرسة، ورُغم ذلك لم يتعرف عليه في البداية، والدة تسوتومو نفسها وصفته بأنه شبح بعد أن عاد إلى المنزل.
اقرأ أيضًا: الأرستقراطي الذي صار جنديًّا وجاسوسًا وراهبًا.. من هو "هنري كوم تينانت"؟
تسوتومو ياماغوتشي يأبى أن يموت
في صباح الثامن من أغسطس، أي بعد حادث هيروشيما الأليم بيومين فقط، ينهض ياماغوتشي من فراشه متألمًا -تملؤه الجروح- رغبةً في الذهاب إلى العمل. يصل إلى مكتب شركة ميتسوبيشي ويواجه المدير الذي لا يدري أي شيء مما حدث، ويطالبه بدليل. يُعد تقريرًا كاملًا ويناوله للمدير، وما أن يطلع عليه حتى يتهمه بالجنون قائلًا: "كيف يمكن لقنبلة واحدة أن تُدمر مدينةً كاملة؟!"
تجيب الطبيعة بسرعة على تساؤل المدير، فبينما يحاول ياماغوتشي تبرير موقفه وتغيبه عن العمل لأنه كاد أن يُنسَف بقنبلة ذرية محقت مدينة بالكامل، يُومض الجو خارج المكتب وتوشك كارثة مُشابهة أن تحل في خلال ثوانٍ.
المشهد يتكرر تقريبًا باختلاف المكان والزمان؛ ياماغوتشي يلقي بنفسه على الأرض كما تعود -هو وبقية اليابانيين- قبل ثوانٍ من جرف موجة الصدمة للمكتب ونوافذه وتفتيت زجاج النوافذ ثم نثره في كل مكان.
القنبلة الذرية الثانية كانت أقوى من الأولى، ومع ذلك أبى جسد ياماغوتشي الذي تعرض لموجةٍ من الإشعاع المُسرطن -فضلًا عن الجروح الغائرة- أن يفنى.
بعد أن أفاق من الكارثة التي كادت أن تودي بحياته، خرج مما تبقى من مبنى ميتسوبيشي مهرولًا للاطمئنان على زوجته وابنه الرضيع. وكانت الزوجة قد أنجدت نفسها والرضيع باللجوء إلى أحد الأنفاق، وكانت تبحث عن مرهم حروقٍ لزوجها المُصاب وقت وقوع القنبلة، مما يعني أنه لو لم ينجُ من هيروشيما، لكانت الزوجة وابنها في خطر كبير.
حياة ياماغوتشي ما بعد هيروشيما وناغازاكي
بعد انتهاء الحرب، عمل تسوتومو ياماغوتشي مُترجمًا لقوات الحلفاء التي احتلت بلاده، كما عمل مُعلمًا في مدرسة لفترة قبل أن يعود لأحضان الهندسة وشركة ميتسوبيشي في نهاية المطاف.
يبدو أن ما حصل له أصابه بصدمة كبيرة، حيث رفض بشدة الحديث عن التفجيرات حتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين عندما أصبح من أشد مؤيدي نزع السلاح النووي.
كرَّس ياماغوتشي وقته لردع هذه النوعية من الأسلحة الفتاكة وكتب مذكراتٍ وكتابًا مستوحى من تجاربه، فضلًا عن مشاركته في وثائقي بعنوان "Twice Survived" وقال فيه: "لا أستطيع أن أفهم لماذا لا يستطيع العالم أن يفهم وحشية القنابل النووية! كيف يمكنهم الاستمرار في تطوير هذه الأسلحة؟"
توفي ياماغوتشي في عام 2010 عن عمر يناهز 93 عامًا، وكان قد عانى من أمراض مُرتبطة بالإشعاع بما في ذلك إعتام عدسة العين وسرطان الدم الحاد. زوجته وأطفاله الثلاثة أيضًا أُصيبوا بمشاكل صحية نتيجة التعرض للإشعاع النووي.
"إن مروري بتجربة القنبلتين النوويتين والنجاة منهما هو مصيري الذي خلقت للتحدث عنه، إن أي شيء سيمر به من الآن فصاعدًا هو نعمة كبيرة".