"دي بي كوبر".. اللغز الذي ما زال يُحيّر الـ "FBI"
دخل إلى المطار، قطع تذكرة ذهابٍ بلا عودة إلى مدينة سياتل الأمريكية، ركب الطائرة وأعطى للمُضيفة ورقة تجاهلتها ووضعتها في جيبها، فقال: "يا آنسة، من الأفضل أن تُلقي نظرة على هذه الورقة، فأنا لديّ قُنبلة وأريدك أن تجلسي بجانبي".. يبدو أن كارثةً ما على وشك الحدوث!
خطةٌ لا تشوبها شائبة
تبدأ القصة خلال عشية عيد الشكر، وبالتحديد في الرابع والعشرين من نوفمبر عام 1971، عندما قطع رجل باسم مُستعار "دان كوبر" تذكرة ذهاب بلا عودة - ثمنها عشرون دولارًا - لمدينة سياتل الأمريكية. وعن وصف "كوبر" فيُقال إنه كان رجلاً أبيض في منتصف الأربعينيات من عمره، يرتدي بدلةً فخمة على قميصٍ أبيض ورابطة عنق سوداء ويكنّفهما بمعطفٍ طويل، ويُزين هذا الزي الفخم بحذاء بنيّ اللون.
صعد "كوبر" على متن الطائرة وجلس بمقعدٍ خلفي ولم يكن خالي الوفاض بالطبع؛ إذ حمل معه حقيبتين إحداهما مصنوعة من الجلد وبها القنبلة، والأخرى من القُماش وذات حجم كبير لتغليف الفدية التي سيطلبها. نعم، فالرجل هنا سيطلب فدية باهظة.
عندما رأت المضيفة -الجالسة بجانبه- ما كُتِبَ بالورقة، سُرعان ما فتح "كوبر" حقيبته الجلدية ليريها أنه لا يمزح وأنه يحمل قنبلةً فعلاً، ومن ثَمَّ أملى عليها ما يريد وأمرها أن تأخذ الورقة إلى قائد الطائرة. وأما عن مراده فكان: "200 ألف دولار، من فئة الـ 20 دولارًا، بحلول الخامسة مساءً إضافة إلى 4 مظلات"، مع ملحوظة مهمة هي: "أنا لا أمزح- No Funny Stuff"، وتذكروا هذه الجملة جيدًا.
وبالمناسبة، إذا وضعنا التضخم في الاعتبار، فمائتي ألف دولار أمريكي تُعادل الآن ما يتجاوز المليون ونصف المليون دولار، وهذا مبلغٌ ضخم لا ريب.
اقرأ أيضًا:"يرتاده 3 ملايين زائر سنويًا".. التاريخ المُظلم لجبل راشمور
وبالفعل، لم يكن أمام قائد الطائرة والطاقم بأكمله سوى تنفيذ أوامر "دان كوبر"، أو "دي بي كوبر" كما يُشار إليه، وسرعان ما أبلغوا أفراد الشرطة والذين بدورهم لم يجدوا بُدًا من إحضار المبلغ وتجهيز المظلات، وإلّا ستكون الطائرة وكل من عليها في خبر كان.
وبينما تنشغل الشرطة في تجهيز مطالب "كوبر"، استمرت الطائرة في الدوران حول نفسها في السماء فتعجّب الركّاب وبدأوا يشعرون بأن الأمور ليست على ما يُرام، لا سيّما وأن هذه رحلةٌ قصيرها ومن المفترض أن تستغرق مدتها حوالي 30 دقيقة فقط.
اضُطرَّ طاقم الطائرة إلى الكذب قائلين بأن عطلاً فنيًا قد حدث مما سيجعل الرحلة تستمر لوقت أطول، وصل إلى الثلاث ساعات ونصف الساعة.
على متن الطائرة كان يُوجد 36 راكبًا وطاقم الطائرة المكون من 6 أفراد. بعد انتهاء الثلاث ساعات ونصف الساعة، هبطت الطائرة إلى مطار "See-Tac"، وتسلّم "كوبر" الأموال والمظلات، وأطلق سراح الركاب الستة والثلاثين، وأعقبهم بفردين من أفراد طاقم الطائرة. والآن، حان وقت النصف الثاني من الخطة.
الهروب الكبير
لم يُبقِ "كوبر" على 4 أفراد فقط من طاقم الطائرة، لمجرد اتخاذهم كرهائن حتى ينفذ بجلده فحسب، وإنما ليساعدوه في تنفيذ النصف الثاني من خطته، أو كما أود أن أسميه بـ "الهروب الكبير"، وذلك نسبةً إلى مسلسل "الهروب الكبير- Prison Break" الشهير الذي لعبت فيه شخصية "دان كوبر" -الخيالية- دورًا محوريًا بالمناسبة.
أما عن مفاد خطة "الهروب الكبير" فكانت بالتحليق على مسافة منخفضة فوق مدينة مكسيكو ومن ثم التوقف لإعادة تعبئة الطائرة بالوقود، وهنا كانت الخدعة؛ إذ إنه بمجرد انشغال الطاقم بأمر الوقود، أنزل "دي بي كوبر" سلالم الطائرة الخلفية، فتح المظلات، وفي وسط عاصفة رعدية قفز مستبسلاً ليختفي كأنه لم يكن!
بالطبع لم تأل جهود مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI، وظل البحث عن "دان كوبر" مستمرًا للدرجة التي جعلت الـ FBI يشتبهون بـ 800 شخصٍ خلال الخمس سنين الأولى فقط من مرور هذا الحدث الجلل، ولكن كما توقعت: لم يتوصلوا للرجل في النهاية، ومع ذلك، كشفوا بعض الحقائق المثيرة.
على سبيل المثال، كان يُعتَقد في البداية أن "دان كوبر" هذا رجل مغوار كان قد خدم في سلاح المظلات بالجيش، ولكن لاحقًا تم الإجماع على أن هذا الاستنتاج بعيد كل البُعد عن المنطق؛ فبالرغم من نجاح العملية، فإن قفزة صاحبنا من الطائرة كانت هوجاء كفاية للقطع بأنه غير متمرس، خاصةً أن إحدى المظلات التي أُعطيت له كانت معطوبة، وهو لم يلحظ ذلك، ولهذا فمن غير المستبعد أن يكون "كوبر" في عداد الموتى.
اقرأ أيضًا:هل قامت الحرب العالمية الأولى بسبب شطيرة؟
هل هو ريتشارد فلويد ماكوي؟
بحسب الموقع الرسمي لمكتب التحقيقات الفيدرالي، فإن أبرز المشتبهين بهم كان رجلاً يُدعى "ريتشارد فلويد ماكوي Richard Floyed McCoy"، إذ إنه بعد أقل من 5 أشهر فقط، اعتُقِل لنفس السبب؛ سرقة طائرة؛ بل الأدهى من ذلك أنه هرب بمظلة أيضًا!
وللمصادفة البحتة، أو لكون "ماكوي" هو "دان كوبر" حقًا، تشابهت عمليتا الاختطاف بشكل مخيف؛ حيث إن كليهما - ماكوي وكوبر - هربا بنفس الطريقة، اختطفا طائرة من نفس الطراز Boeing 727، طلبا 4 مظلات، كانا هادئين للغاية في أثناء تنفيذ العملية، وفوق كل ذلك كتب "ماكوي" ملحوظة بها نفس جملة "أنا لا أمزح- No Funny Stuff" التي قلت لكم أن تتذكروها!
ولكن بعد كل هذا، يؤسفني أن أخبرك بأن مكتب التحقيقات الفيدرالي قد برّأ "ماكوي" لعدم تطابق هيئته الجسدية مع هيئة "كوبر" التي وصفها طاقم الطائرة.
هل نجا "دي بي كوبر" أساسًا؟
تتناول الأعمال الفنية المختلفة، بدايةً من مسلسل Prison Break وليس انتهاءً بكتب القصص المصورة والأعمال الأدبية المختلفة، قصة "دان كوبر" بأساليبها وحبكاتها الخاصة، والتي قد تُصيب واحدة منهم. ولكن، ما قد يصيب أيضًا، بل وهو الوارد منطقيًا، أن "كوبر" لم ينجُ من العاصفة، والتي بغض النظر عنها، فإن هناك دلائل أخرى تُدعّم ذلك.
على سبيل المثال لا الحصر؛ ملابس "كوبر" لم تكن مهيئةً تمامًا لقفزة شجاعة مثل التي أقدم عليها، القفزة كانت في الليل وهذا يزيد من نسبة الخطورة، ولا ننسى أمر المظلة المعطوبة التي أُعطيت له. وإن كانت كل هذه المؤشرات غير كافية، فما رأيك بهذا الدليل:
في عام 1980، أي بعد مرور حوالي 9 سنوات على حادثة اختطاف الطائرة، عثر ولد صغير على حقيبة متعفنة مليئة بأوراق نقدية من فئة الـ 20 دولارًا -لا ننسى أن أموال الفدية كانت من فئة العشرين دولارًا- تتطابق أرقامها التسلسلية مع ما وُجِدَ ببعض أموال الفدية التي عُثِر عليها إثر قفزة "كوبر".
على كلٍ، بغض النظر عن مآلٍ "دان كوبر"، أو "دي بي كوبر"، فإن قصته ستظل واحدة من أكثر القصص غموضًا في التاريخ، ويكفي أن مجرد اسمه الحقيقي غير معروف حتى بعد مرور ما يزيد على الخمسين عامًا من الواقعة.