الإنتاجية السامة: كيف يحولك السعي وراء العمل إلى غريب عن نفسك
هل تشعر بأنك لم تعد تستمتع بهواياتك أو الأشياء التي كنت تستمتع بفعلها في السابق؟!
تُسمى هذه الحالة في الطب وعلم النفس بـ"انعدام التلذذ- Anhedonia"، وهي حالة شائعة بين معظم الأشخاص الذين يمارسون عادةً معينة لأشهر وسنوات، هناك أسبابٌ كثيرة تُفسر حدوثها، ولكننا سنُركز هنا على أحد أبرز هذه الأسباب المعروف بـ"الإنتاجية السامة Toxic Productivity"!
ما هي الإنتاجية السامة؟
هي حالةٌ تدفع الإنسان لأن يكون مُنتجًا في جميع الأوقات، حتى لو كانت أوقات راحته أو إجازته، و"المُصاب" بالإنتاجية السامة، ونقول "المُصاب" لأنها حالة غير صحية، يُحاول دائمًا أن يكون إنسانًا أفضل، في كل مجالات الحياة وليس في عمله فقط.
وتدفع الإنتاجية السامة صاحبها لأن يبذل قصارى جهده، من أجل إنجاز المزيد دائمًا، وهذا قد يبدو جيدًا للوهلة الأولى، غير أن الجهد المبذول يأتي على حساب الصحة الجسدية والنفسية، ويُفقد الأشياء معناها، فلا يستمتع الإنسان بأي نشاطٍ، وقد يدخل في حالات ودوامات نفسية مُدمرة.
علامات الإنتاجية السامة
قد يكون من الصعب أحيانًا إدراك أنك تعاني الإنتاجية السامة، خاصةً في ظل تأثيرات المجتمعات الرأسمالية، التي تُجبر الشخص على ما يُسمى بـ"ثقافة الاندفاع Hustle Culture"، وهي حالة تُمجد العمل الدائم وتحث على الإنتاجية غير الصحية، وفيما يلي بعض العلامات التي تدل على أنك تُعاني الإنتاجية السامة:
1. الشعور بالذنب في أثناء أوقات الراحة:
إذا كنت تشعر بالذنب في أثناء وقت فراغك المُستحق، وضع تحت كلمة "المستحق" ألف خط، فقد تكون هذه علامة على الإنتاجية السامة، ويجب أن تدرك أن الراحة ليست مضيعة للوقت، بل هي شيء ضروري لإعادة شحن طاقتك والعمل بأقصى كفاءة ممكنة، أيضًا يجب أن تُفرق بين أوقات الفراغ المستحقة والضرورية، التي تأتي بعد وقت طويل من العمل، وأوقات الفراغ التي تجعل حياة الفرد بلا قيمة أو معنى.
2. الانشغال المُفرط بالمشاريع:
لا شك أن كونك موظفًا مُتحمسًا وشغوفًا بالمهام الموكلة إليك هو أمرٌ إيجابي، لكنه أيضًا قد يكون مؤشرًا خطيرًا للإنتاجية السامة، إذا أصبحت مهامك كثيرة لدرجة تُشعرك بالإرهاق، فهذا قد يعني أنك بحاجة إلى إعادة تقييم أولوياتك، وتقليل المهام غير الضرورية.
3. إهمال الصحة:
غالبًا ما يأتي الاهتمام المُفرط بالعمل على حساب الصحة، وهذا بالتبعية يؤدي إلى الإخلال بالتوازن بين الحياة والعمل، الذي من المفترض أن نسعى إليه جميعًا، فانخراطك في العمل بشكلٍ مبالغ فيه قد يجعلك تُهمل صحتك بقصدٍ أو دون قصد، فانتبه!
4. السعي المفرط للكمال:
غالبًا ما يصعب إرضاء من يعاني الإنتاجية السامة، إذ ستجدهم في الكثير من الأوقات ساخطين على أنفسهم، ويشعرون بأن هناك مساحة إضافية للعمل والإنتاجية، حتى وإن كانوا أكفاء ومتميزين في الحقيقة، باختصار، يسعى المصاب بهذه الحالة إلى نوعٍ من أنواع الكمال، وهذا يستحيل أن يتحقق.
اقرأ أيضًا: كيف يمكن إنشاء بيئة عمل صحية؟ إليك هذه النصائح لزيادة الإنتاجية
لتدعيم هذه العلامات الأربع، تُظهر دراسة أجراها موقع Indeed في 2021، أن 52% من العمال يشعرون بالإرهاق، وأن 61% من الموظفين الذين يعملون عن بُعد، مقابل 53% ممن يعملون من المكاتب، يواجهون صعوبةً في الفصل بين أوقات العمل وأوقات الراحة، وتعكس هذه الأرقام تأثير الإنتاجية السامة الكبير الذي يجعلنا نشعر وكأن العمل المتواصل هو السبيل الوحيد للحياة، وأن الحياة بدورها ليست سوى عمل وفقط.
ما مسببات الإنتاجية السامة؟
إذا فكرنا في الأمر، سنجد أن هناك الكثير من مسببات الإنتاجية السامة، منها على سبيل المثال:
1. الخوف من الفشل أو عدم الكفاءة: يُشكل هذا العامل حافزًا قويًا للإنتاجية السامة، حيث يجعل الأشخاص يعملون بأقصى طاقاتهم، حتى إذا كان ذلك على حساب رفاهيتهم وأوقات فراغهم الضرورية.
2. الضغوط الاجتماعية: وتحديدًا العوامل الخارجية التي تُمارس علينا ضغوطًا للتوافق مع معايير أو صور نمطية مُعينة، على سبيل المثال، قد يشعر الأفراد بالضغط لتلبية توقعات عائلاتهم منهم، أو قد يشعروا بالإحباط لانخفاض مستواهم الاجتماعي عن مستوى أقرانهم وأصدقائهم، وربما يشعرون بالإحباط لأي سبب كان، وكل هذه الأمور تدفع الأشخاص للإنتاجية السامة.
3. التوقعات الذاتية: المقارنات التي تحدثنا عنها، بالإضافة إلى عوامل أخرى مثل التربية، تُولّد لدى الأشخاص حافزًا نحو الإنتاجية السامة؛ تجعل الأشخاص يعملون حتى يُدمنوا العمل ويتحولوا إلى (Workaholics)!
4. ثقافة بعض الشركات: تلعب ثقافة الشركات دورًا حاسمًا في تحديد سلوك الموظفين وإنتاجيتهم، فعندما تكون قيم الشركة الأساسية مُرتكزة على الإنتاجية والعمل المُضني دون إيلاء أهمية للتوازن بين العمل والحياة، فإن الشركة قد تتحول إلى بيئة سامة يعمل الأشخاص فيها كما لو كانوا آلات، فابتعد عن هذه الشركات، حتى إذا كانت رواتبها مرتفعة، إلا إذا أردت أن تموت بالبطيء!
5. الاعتقادات الخاطئة: على رأسها اعتقاد الإنسان بأن قيمته مرهونة بإنجازاته، فعندما يُقيم الشخص نفسه بناءً على ما يُنتجه، فإنه بذلك ينزع الكثير من صفات الإنسانية والمعاني النبيلة، ويتحول إلى تِرسٍ في ماكينة الرأسمالية بسبب الإنتاجية السامة.
هل الإنتاجية السامة بهذا السوء؟
لك أن تتخيل أن ضرر الإنتاجية السامة قد يمتد لِما هو أكثر من الأذى النفسي، إذ لو استمر لفترة طويلة، قد يضر بحياتك المهنية نفسها، أو يؤثر على علاقاتك، وإليك بعض الطرق التي قد تؤثر بها الإنتاجية السامة على صاحبها:
1. الاحتراق الوظيفي: بعد أن تُفني كُلَ وقتك ومجهودك بهدف زيادة إنتاجيتك في العمل، قد تُفاجأ أنك لم تعد قادرًا على الاستمرار في الشيء الذي كان يشغل كل حياتك، وهو العمل، وتُسمى هذه الحالة بالاحتراق الوظيفي Burnout؛ ومن يدخل فيها يشعر أنه مُرهق نفسيًّا وجسديًّا وعقليًّا، ويُصبح من الصعوبة بمكان أن يعود كما كان.
اقرأ أيضًا: "مفتاح الإنتاجية".. نصائح ذهبية من "إيلون ماسك" لدفع شركتك للأمام
2. الإضرار بالصحة العقلية والجسدية: تُجبر الإنتاجية السامة صاحبها على بذل أقصى جهد ممكن دون راحةٍ كافية، لا على المستوى العقلي ولا الجسدي، وبالتالي تتسبب في الشعور بالإرهاق المستمر، والصداع المتكرر، وضعف الجهاز المناعي، ومشكلات في الجهاز الهضمي نتيجة للتوتر والقلق، ومشاكل في النوم، وزيادة الوزن أو نقصانه، إلخ من المشاكل الجسدية والعقلية.
3. إفساد العلاقات: تأتي الأوقات الطويلة التي نمضيها في العمل على حساب الأوقات التي نقضيها مع مَن نحب، وكلما زاد العمل، اتسعت الفجوة بيننا وبين أهلنا وأصدقائنا، وهذا الأمر يؤدي إلى الإهمال العاطفي وسوء التواصل، ويزيد من فرص حدوث الخلافات.
4. انخفاض الإنتاجية: صدّق أو لا تُصدّق، قد تؤدي كل ساعات العمل الطولية التي تحاول أن تبذلها في سبيل زيادة الإنتاجية إلى نتائج عكسية تمامًا، فكما قُلنا، يؤدي الإفراط في العمل إلى الإنتاجية السامة، والإنتاجية السامة بدورها تؤدي إلى حدوث مشكلات صحية، وتزيد من نسبة الأخطاء، وترهقك على المستوى النفسي والجسدي، وهذا يؤدي إلى انخفاض الإنتاجية.
5. غياب الهدف: عند مرحلة معينة من الإنتاجية السامة، يفقد الإنسان الإحساس بلذة الكثير من جوانب الحياة الأخرى، ما يؤدي إلى شعورٍ عميق بعدم الرضا وغياب البوصلة أو الهدف.
كيف تتغلب على الإنتاجية السامة؟
بعد أن تعرفنا على معنى الإنتاجية السامة وعلاماتها وأضرارها، دعونا نستعرض بعض النصائح لعلاج هذه المشكلة، ومنها:
1. ضع حدودًا واضحة: حدد ساعات عمل ثابتة وأخرى للراحة؛ هذا التوازن سيساعدك على تنظيم وقتك وتجنب الشعور بالإرهاق المستمر، كما أنه سيزيد من إنتاجيتك بشكلٍ ملحوظ.
2. تعلم أن تقول لا: اعتذر عن المهام الزائدة بطريقة لطيفة، أو أعد ترتيب أولوياتك إذا لم يكن الاعتذار خيارًا مطروحًا.
3. ابحث عن المساعدة: اختر شخصًا موثوقًا يساعدك على إعادة ترتيب أولوياتك، ويشجعك على تحقيق التوازن بين العمل والحياة.
4. تحدث مع مديرك: ناقشه في الممارسات التي ترى أنها تُشجع على الإنتاجية السامة، واقترح تحسينات واقعية.
5. اهتم بنفسك: مارس أنشطة تُسعدك حقًا على الاسترخاء دون ربطها بالإنتاجية.
6. مارس هواية: لا يُشترط هواية معينة، فقط مارس أي هواية بعيدة عن عملك ولا تُذكرك به.
7. خذ وقتًا للراحة التامة: خصص وقتًا يوميًا للتأمل أو الاسترخاء بهدف تصفية الذهن وتعزيز الإبداع.
في النهاية، يجب أن تعرف أن إنتاجيتك أمرٌ عظيم، لكن هناك فارقًا كبيرًا بين الإنتاجية الصحية والإنتاجية السامة، أما الأولى، فتركز على الأهداف الواقعية، وتحقيق التوازن بين العمل والحياة، والجودة بدلًا من الكمية، إلخ، ولكن الإنتاجية السامة، تؤثر على الإنسان وترهقه جسديًا ونفسيًا، مؤديةً إلى نتائج عكسية تمامًا.