"لا يعرف الرحمة على الإطلاق".. التاريخ الأسود لـ"كريستوفر كولومبوس"
في خيال الكثيرين، يُعد الرحّالة الإيطالي "كريستوفر كولومبوس" بطلاً لم يأتِ مثله عبر التاريخ، وحتى أن الأطفال في الغرب، وبالتحديد في المدارس الابتدائية بالولايات المتحدة الأمريكية، يدرسون تاريخه "البطولي الحافل" وأنه مكتشف ما يُسمَّى بالعالم الجديد "الأمريكتين"، بل أزيدك من الشعر بيتًا، وأخبرك بأن هناك عطلة فيدرالية على شرفه -تُعرَف بـ"يوم كولومبس Columbus Day"- بالتاسع من أكتوبر في كل عام.
ولكن ما لا يعرفه الأمريكيون، مثلهم مثل حال الكثيرين، هو أن "كريستوفر كولومبوس" بحسب مصادر تاريخية متعددة؛ طاغية جشع وسفّاح غير آدمي لا يعرف للرحمة معنى.
اكتشاف العالم الجديد
تبدأ القصة في عام 1492، عندما وافق ملك وملكة إسبانيا، إيزابيلا وفرديناند، على تمويل رحلة "كولومبوس" التي أراد بها أن يكتشف طريقًا بحريًا مؤديًا لقارة آسيا دون المرور بالدولة العثمانية. حدث اتفاق بين الأطراف الثلاثة بأن يحتفظ "كولومبوس" بنسبة 10% من أي ثروة يعثر عليها، وأن يتم منحه لقب الأدميرال البحري، ويكون حاكمًا للمناطق التي يكتشفها.
وبالفعل، ينطلق "كولومبوس" في رحلته الاستكشافية في الثالث من أغسطس عام 1492، بثلاثة سفن وعددٍ ليس بكبير من البحارة. انطلقت الرحلة من إسبانيا، وبالتحديد من "نهر لبلة- Tinto river"، وفي غضون شهرين وصل "كولومبوس" وطاقمه إلى جزر الباهامس الشهيرة، وكان ذلك في 12 أكتوبر عام 1492.
اِعتَقد "كولومبوس" أنه وصل إلى الهند ولم يكن يدرك أنه أمام قارة، أو عالم جديد كُليًا، وأخذ يستكشف عدة جُزرٍ في البحر الكاريبي، كان من ضمنهم كوبا وهيسبانيولا "التي تُعرَف اليوم بهايتي وجمهورية الدومينيكان"، ظنًا منه أنه وصل إلى القارة الآسيوية وضواحيها، وحتى أنه عندما قابل الشعب الأصلي هناك، وبالتحديد شعب التاينو Taino people، نعتهم بـ"الهنود".
كولومبوس يكشف عن وجهه الحقيقي
دوَّن "كولومبوس" تفاصيل رحلته الأولى -قام الرحّالة بثلاث رحلات أخرى لاحقًا- واصفًا كرم الشعب الأصلي على الأراضي التي وصل إليها. وقال إنهم أحضروا له ولرجاله ببغاوات وكرات من القطن ورماح وأشياء أخرى كثيرة، كما تحدث عن سخائهم وكرمهم وأنهم قايضوا كل ما كانوا يملكون طواعيةً.
أما عن صفاتهم الأخرى، فيقول "كريستوفر كولومبوس" إنهم كانوا أقوياء من الناحية الجسدية ويمتلكون ملامح وسيمة، ومع ذلك كان بهم شيء من السذاجة؛ إذ كانوا مسالمين لا يحملون أسلحة، بل لا يعرفون أصلاً ما هي الأسلحة لدرجة أنه عندما أعطاهم سيفًا أمسكوه من نصله فجرحوا أنفسهم.
استغل "كولومبوس" هذه السذاجة وكتب نصًا: "من الممكن أن يكونوا خدمًا جيدين، بمساعدة خمسين رجلاً يُمكننا أن نستعبدهم ونُجبرهم على فعلِ ما نريد"، ومن هنا يُمكننا أن نكتشف حقيقة هذا الرحّالة.
وخلال السنوات اللاحقة من تواجده فيما يُسمَّى بـ "العالم الجديد- New World"، لم يُراع "كولومبوس" ما فعله الشعب الأصلي الطيب من أجله وطاقمه، حيث فرض ظروف عمل قسرية وتعسفية على السكان الأصليين، وأرسل الآلاف من شعب التاينو المسالمين من جزيرة هيسبانيولا إلى إسبانيا لبيعهم في سوق الرقيق، ويُذكَر أن كثيرين منهم قد ماتوا في الطريق جرّاء الجوع والعطش، وطبعًا لم يُلقِ لهم "كولومبوس" بالاً.
أما عمّن بقيّ من السكان الأصليين في أراضيهم، فأُجبِروا على التنقيب عن الذهب في المناجم والعمل بالسُخرة في الزراعة، وبعد مرور 60 عامًا على اكتشاف، أو بالأحرى غزو واحتلال، "كولومبوس" لأراضي العالم الجديد، لم يتبق من شعب التاينو سوى بضع مئات بعد أن كانوا حوالي 250 ألفًا قبل "كولومبوس".
بحسب وثائق اكتشفها المؤرخون الإسبان في عام 2005، فإن "كولومبوس" قد فرض قواعد صارمة على ما يُعرَف الآن بجمهورية الدومنيكيان في منطقة البحر الكاريبي، وذلك بصفته حاكمًا ونائبًا للملك الإسباني في جُزر تلك المناطق وغيرها من المناطق التي دخلها بحكم الاتفاق الذي تحدثنا عنه.
وكرد فعلٍ على هذه السياسات الصارمة، ثار السكان الأصليون وحدثت اضطرابات محلية كثيرة، وهو ما لم يزد "كريستوفر كولومبوس" ورجاله الغاصبين إلّا عنادًا ووحشيةً؛ حيث أمر "كولومبوس" بشن حملات قمع ضارية أدت إلى مقتل أعداد غفيرة من السكان الأصليين، ومن أجل بث الرعب في قلوب جميع السكان، مثَّل "كولومبوس" بجثث الموتى والشعب وأمر بإلقائهم في الشوارع ليكونوا عبرةً لمن يعتبر.
لم يتحمل الشعب الأصلي تلك الممارسات الفظّة، فكانت العائلات تنتحر انتحارًا جماعيًا، وكان العديد من السكان يلقون بأنفسهم في البحر قبل أن تصل إليهم يد الاستعمار الوحشي الباطش.
لك أن تتخيل أن الملكة "إيزابيلا" نفسها لم تُصدق ما فعله "كولومبوس" بهؤلاء السكان، وأمرت في عام 1500 باعتقاله فورًا ومحاكمته نتيجةً للاستبداد والقمع والتصرفات الهمجية وسوء الإدارة، وهذا أقل ما قد يُقَال، ولكن في عام 1502 يتم تبرئة الرّحالة الوحشي من مُعظم التهم الخطيرة التي وُجِّهت إليه، بل حتى إنه أقنع التاج الإسباني برحلة استكشافية أخيرة، وإن كان قد جُرّد من لقب الأدميرال البحري وتلك الألقاب التي لم يستحقها.
اقرأ أيضًا:7 اكتشافات علمية كانت تستحق الفوز بنوبل.. هل تعرفها؟
توريد الأوبئة الأوروبية إلى العالم الجديد
لم يكتف "كولومبوس" والإسبان بما فعلوه بالسكان الأصليين من قتل وذبح وتهجير واستعباد، بل وورَّدوا الأمراض المنتشرة في بلادهم إلى العالم الجديد مُتسببين في مزيد من الكوارث والأوبئة.
وبعد أن كان مُصطلح "التبادل الكولومبي- Columbian exchange" يشير إلى المعاملات التجارية وتبادل النباتات، والحيوانات، وحتى الثقافات بين الشرق والغرب، أصبح يُستخدم للإشارة إلى الأوبئة التي نُقِلت من الأوروبيين إلى العالم الجديد.
كان العالم الجديد بمنأى عن الكثير من الأمراض الخطيرة المنتشرة في أوروبا مثل الجُدري والحصبة والإنفلونزا، ولكن شعب التاينو لم يكن مُحصَّنًا من تلك الأمراض، ما أدى، بحسب مؤسسة أوكلاهوما للأبحاث الطبية، إلى المساهمة في القضاء عليهم وتقليل أعدادهم من رُبع مليون نسمة تقريبًا في عام 1492 "السنة التي حلَّ فيها كولومبوس ضيفًا ثقيلاً عليهم" إلى 14 ألف نسمة فقط بحلول عام 1517.
الأمريكان يتبرأون من كريستوفر كولومبوس
وبعد أن كان جميع الأمريكيين تقريبًا يعتبرون التاسع من أكتوبر يوم عطلة رسمي احتفاءً بـ"كريستوفر كولومبوس" فيما يُعرَف بـ "يوم كولومبوس- Columbus Day"، بدأت عشرات المُدن والولايات الأمريكية، مثل مينيسوتا، ألاسكا، وفيرمونت وأوريجون، باستبدال اسم هذه العطلة إلى "عُطلة السكان الأصليين- Indigenous People’s Day".
وكنوعٍ من الاعتراف بتاريخ "كولومبوس" الأسود بحسب العديد من المصادر التاريخية الحديثة، وردًا على الاحتجاجات التي تدور حول العنصرية وعدم المساواة، فإن تماثيل "كريستوفر" أصبحت تُزَال على نطاق واسع في أمريكا، وذلك لزيادة الوعي بالظَلم والقهر الذين جلبهما على السكان الأصليين.
الجدير بالذكر أن "كريستوفر كولومبوس" لم يكن أول من يصل إلى العالم الجديد "الأمريكتين" أصلًا؛ حيث تشير تقارير كثيرة إلى أن "الفايكنج" قد سبقوه إلى هناك قبل 500 عام من العام الأسود الذي حل على السكان الأصليين "1492"، وبالتحديد في عام 1021 ميلادية.