غريزة الكلام
محمد النغيمش*
اكتشف العلماء أن هرمون "فوكس بي" المسؤول عن الكلام، موجود لدى النساء بكميات أكبر من الرجال. وهذا ما عدّه الباحثون أحد الأسباب التي تجعل القدرات اللغوية لدى المرأة أكبر، وهو ما يدفعها للتحدث أكثر من الرجل.
وليست المرأة الوحيدة التي تتمتع بهذا الهرمون الذي يشبع لديها غريزة الكلام، بل حتى معاشر الرجال لديهم نسبة منه. فهذا الهرمون يشبع لدينا جميعاً الرغبة الملحة في الكلام أو التحدث الذي يُعدّ ظاهرة طبيعيّة وصحيّة تفضفض عن مكنوناتنا. ذلك أن الإنسان كتلة من المشاعر والأحاسيس، لا يهدأ له بال إلّا حينما يجد أذناً صاغية تحتضنه وتفهمه وتشعره بالألفة.
ولذا كان من أساسيات العلاج النفسي، وحتى الطبّي، أن يُمنح المريضُ فرصة ليفرغ ما في جعبته، فلربّما يتسلل إليه شعور بالراحة والطمأنينة. بل وفي كثير من الأحيان، لا يقدم الأطباء النفسيون علاجاً، كما أخبرني أحدهم، الذي فوجئ بأن مريضته قد خرجت من العيادة، وهي تشكره من أعماق قلبها، مع أنه لم يقدم لها علاجاً البتة. كان مجرد أذن صاغية وحانية. إنها غريزة الكلام التي تتجلى حينما تجد من يفهمها، لا من يعنّفها أو يزدريها أو يوبّخها. وهذا سرّ شعورنا بالسعادة الغامرة، حينما نجد من نتقاسم معه تلك اللحظات السعيدة. وكما قيل، إن كل شيء إن قسمته نقص إلا السعادة، فإنها تزيد عندما يتقاسمها شخصان متحابّان.
وتكمن أهمية التحدث، في أنه ليس حالة عابرة، وإنما إحدى وسائل التواصل الأربع. فنحن نستمع بنسبة ٤٠ في المئة من أوقاتنا، ونتحدث بنسبة ٣٥ في المئة، ونقرأ بنسبة ١٦ في المئة، ونكتب بنسبة ٩ في المئة، حسب دراسة شهيرة ذكرتها في كتابي "أنصت يحبّك الناس". وهذا يظهر أهمية هذه الغريزة في حياتنا التي تعدّ جزءاً أساسياً من التواصل مع الآخرين.
وكلامنا مع الآخرين وسيلة لجسّ نبضهم، لاسيّما حينما نتخذ قراراً يعنيهم. فبعضنا ينفرد بقرارات مهنية أو اجتماعية، وينسى أن "يدردش" مع أصحاب الشأن. ومن الكلام ما تُصحّح به أخطاء الماضي، وما يُعاقب به، وما يُكافأ به، وما يُعاتب به، ويُعَلّم به، وما يُغضب أيضاً،. والكلام سبيلنا العفويّ للردّ على سوء الظن بنا، وهو ملاذنا للتصدي لسهام النقد.
البعض ينتقد عشاق الكلام، وينسى أن من الكلام ما هو بلسم لجروحنا وآلامنا. فكم من كلام جارح أو فظ، قد قضّ مضاجعنا لم تُزله إلا لحظات البوح والفضفضة. وكم من كلام لم يستحق أن يُلتفت إليه أصلاً، ولذا قال الإمام عليّ كرّم الله وجهه "أحسن الكلام ما لا تَمُجُّه الآذان" أي مالا تستكرهه الناس أو تستهجنه. وقد قيل أيضاً "خير الكلام ما قلّ ودل".