توقعات صعبة لـ"الاستثمار المغامر" في 2024.. والتخطيط الذكي طوق النجاة
أظهرت البيانات المالية الأخيرة التي رصدتها شركة كرانشبيز "Crunchbase" أن معايير قياس السيولة التمويلية للمشاريع الاستثمارية العالمية قد وصلت إلى منحنى هابط، يُنذر بأن يكون عام 2024 أحد أصعب الأوقات التي قد تواجه قطاع الاستثمار المغامر.
في شهر نوفمبر من العام المنصرم 2023، سُجل ركود حادّ في التمويل بلغ 19.2 مليار دولار، متخلفًا بذلك عن معدلاته في الفترة ذاتها من العام الأسبق 2022 وذلك بنسبة قدرها 16%.
انخفاض التمويل العالمي
يُعد هذا التباطؤ التكميلي استمرارًا لاتجاه تنازلي بدأ يتشكل منذ نوفمبر 2022، حيث لوحظ أن التمويل العالمي قد انخفض بنسبة مروّعة وصلت إلى 67% مقارنة بالعام 2021. وجاء هذا التراجع المتصاعد ليثير القلق خصوصًا في ضوء الانخفاض بنسبة 7% عند مقارنة تمويل شهر نوفمبر بشهر أكتوبر من العام نفسه.
ويظهر التحليل الإحصائي بوضوح أن الضربة كانت قاصمة بشكل خاص للمشاريع في مراحلها المبكرة، التي شهدت انخفاضًا بنسبة 34%، حيث تُرجمت الأرقام إلى تمويل بلغ 7.6 مليار دولار فقط.
وبينما لم تكن المراحل الأولية أحسن حالاً، إذ تقلصت أموالها بواقع 15% لتبلغ 2.5 مليار دولار، فقد جاء الارتفاع الذي شهدته المراحل الأخيرة بنحو 7%، ليصل تمويلها إلى 9.2 مليارات دولار، ليشكل نقطة ضوء خافتة في سماء معتمة.
وعلى المستوى الجغرافي، تحصلت الشركات الأمريكية على نصيب الأسد من التمويل في نوفمبر، مستحوذة على ما يقارب 9 مليارات دولار، ما يُشير إلى توجه السيولة نحو السوق الأمريكي الذي يبدو أقل تأثرًا بضعف عام في السيولة التمويلية. وتصدرت الرعاية الصحية والخدمات المالية القطاعات في حجم التمويل، حيث جذب كل منهما مبلغًا يزيد على 3 مليارات دولار.
قطاع الذكاء الاصطناعي، الذي يُعد من بين القطاعات القليلة التي استمرت في جذب الاستثمار، حافظ على زخمه بتمويل بلغ 2.4 مليار دولار. أما الجولات التمويلية الكبرى فكانت أبرزها لشركة "أليف ألفا" الناشئة، التي جمعت 500 مليون دولار، ما يُظهر أن السوق لا تزال تؤمن بإمكانات هذا القطاع الواعد.
برايان سميغا، الشريك المؤسس لشركة "ألفا بارتنرز"، أكد في تصريحات أن الأشهر الستة الأولى من العام الماضي 2023 كانت فترة صعبة للجولات التمويلية التي تقودها مؤسسات رؤوس الأموال المغامرة المرموقة.
وهي التصريحات التي جاءت لتلقي الضوء على حالة القلق الشديدة التي تنتاب السوق خلال النصف الثاني من عام 2023، والتي تبدو كمقدمة للتوقعات بأن يكون عام 2024 عامًا متشائمًا للجولات التمويلية.
ويُعزى هذا التوقع إلى تراجع تقييم الشركات وزيادة صعوبات إتمام الصفقات، ما يعني للمستثمرين مزيدًا من الوقت والدقة في اختياراتهم الاستثمارية، وهو ما يزيد الأمور صعوبة فيما هو قادم.
وفي هذا السياق، برزت تصريحات "سميغا" كمنارة تحذيرية تنبئ بأن الشركات التي لم تعزز خطوط دفاعها الاقتصادية قد تجد نفسها منكشفة أمام عاصفة قد لا ترحم. ولهذا فإن التحسب لهذه التوجهات واجب على الجميع في سوق الاستثمار، إذ ينبغي ترتيب البيت الداخلي استعدادًا لعام قد لا يكون سهلاً، لكنه قد يكون محطة حاسمة تفصل بين القوي والضعيف في معركة بقاء مؤسسية شرسة.
اقرأ أيضًا:أبرز أنواع رأس المال في قطاع الأعمال واستراتيجيات إدارته
وما يمكن لفت الانتباه إليه بهذا الخصوص هو أن تداعي الجولات التمويلية في شهر نوفمبر الماضي يسلط الضوء على ضرورة تطوير استراتيجيات مرنة ومحافظ تمويلية واقعية يمكن أن تحمي الشركات وتمنحها القدرة على الصمود وربما الازدهار، حتى في أصعب الظروف الاقتصادية.
وعلى الرغم من الموجة المتفائلة التي شهدها قطاع الاستثمار المغامر في الأعوام التي سبقت جائحة كوفيد-19، لكن المؤشرات الحالية تشير إلى تحول السوق إلى ما يشبه ميدانًا للاختبار الصارم لقوة استراتيجيات الاستثمار ونجاعتها.
والحقيقة أن تحليل البيانات المستقاة من تقارير "كرانشبيز" يبين بوضوح أن الأسواق تمر بمرحلة من حذر المستثمرين المتزايد، وهو ما انعكس سلبًا على تقييمات الشركات وحجم الجولات التمويلية الناجحة.
تأثيرات مكثفة على مراحل التمويل
لقد كان التأثير واضحًا وجليًا في الشركات الناشئة التي تسعى لتمويل مشاريعها في مراحلها المبكرة، إذ حدث انخفاض بنسبة 34% في تمويل هذه المرحلة على أساس سنوي، وهو ما يعكس تحفظًا واضحًا من جانب الجهات التمويلية تجاه الاستثمار في مشاريع تُعد عالية المخاطر، وذلك في ضوء الغموض الاقتصادي الراهن.
ويُلاحظ أيضًا أن تمويل المراحل الأولية قد عانى ركودًا مماثلًا، إذ تراجع بنسبة تزيد على 15%، وهو ما يعني تراجع الثقة وربما إعادة تقييم للجدوى الاقتصادية للشركات في هذه المرحلة.
الأسواق الأمريكية وضربة الحظ
في الوقت الذي تعاني فيه السوق العالمية من التباطؤ، فإن الشركات الأمريكية تبرز كقوة استثنائية تمثلت في استقطاب نصف تمويلات شهر نوفمبر الماضي. ومع أن ذلك قد يبدو انفراجة في واقع الأمر، غير أن الحقيقة تكمن في التفاصيل، إذ يُعد هذا أيضًا مؤشرًا على التركيز الزائد وتقلص المجال للشركات العالمية الأخرى، ما يعزز سيناريو المنافسة الشرسة في أسواق محدودة الفرص.
استمرارية الذكاء الاصطناعي كقطاع مفضل
ليس كل ما يُرى في سماء الاستثمار غيمًا داكنًا، فلا يزال قطاع الذكاء الاصطناعي يثبت أنه منطقة جاذبة للتمويل، وربما يعود ذلك لإمكاناته الواعدة وتطبيقاته الثورية في مختلف الصناعات. الاستثمار الضخم الذي حصلت عليه شركة "أليف ألفا" يدل على ثقة المستثمرين بالعائد الطويل الأمد لهذا القطاع.
نظرة فاحصة لتصريحات برايان سميغا
تعليقات "سميغا"، والتي جاءت نتيجة ملاحظات دقيقة لأداء السوق، تُعد بوصلة توجيه للشركات والمستثمرين. وإذ يشير الارتفاع في جودة الحركات المالية إلى انتقائية أشد في الجولات التمويلية، وقد يُفسر طول أمد إتمام الصفقات كمقاييس جديدة للدقة والحذر.
تُضيف التوقعات الاقتصادية لعام 2024 بُعدًا آخر لتحديات الشركات الناشئة وحتى المؤسسات ذات الخبرة الواسعة في المجال. تراجع الجولات التمويلية لا يعني فقط صعوبة في جمع رأس المال، ولكنه أيضًا يعكس تغير في مناخ الأعمال على مستوى عالمي.
والحقيقة أن كفاءة العمليات والابتكار في المنتجات والخدمات تصير الآن، وأكثر من أي وقت مضى، مركز الاهتمام الفعلي والحقيقي، لتكون بمثابة المنقذ للشركات في هذه الأوقات الاستثنائية.
اقرأ أيضًا:الإدارة المالية للأعمال.. مفهومها وأهدافها واستراتيجيات تحقيقها
دور التكنولوجيا والتحليل البياني
في هذا السياق، يُعد تبني التكنولوجيا وأدوات التحليل البياني بمثابة المفتاح الذي لا غنى عنه، لأي شركة تسعى للبقاء في مقدمة المشهد، وهو التوجه الذي تبذل كل الشركات قصارى جهدها من أجله في الأخير.
ويشير التركيز المستمر على استثمارات الذكاء الاصطناعي إلى الثقة في هذه التكنولوجيا كعامل نمو قوي في السنوات القادمة، وينبغي على الشركات الاستثمار في بناء الكفاءات الرقمية ومواكبة أحدث التقنيات لتعزيز قدراتها التنافسية.
النظرة المستقبلية والاستثمار الاستراتيجي
بالنسبة للمستثمرين، يصير المشهد أكثر تعقيدًا أكثر من أي وقت مضى، فتقاطع الوضع الحالي مع ارتفاع فوائد القروض وضغوط التضخم يتطلب احتساب المخاطر والعائدات على نحو بالغ الدقة.
وقد تشهد أسواق المال حالة من الحيطة والحذر، حيث يميل المستثمرون نحو الصفقات ذات ضمانات العائد المستقر والاستثمارات في الشركات التي تُظهر مرونة في وجه التحديات الاقتصادية.
مع استمرار طول وقت إغلاق الصفقات، يُصبح الإبداع والمعرفة العميقة بتفاصيل السوق مكونات أساسية لصياغة الصفقات الناجحة. وقد يعثر المستثمرون الأذكياء على فرص ذهبية مخفية بين ثنايا الجولات التمويلية المتباطئة، وهنا يحظى الصبر والتأني في إتمام الصفقات بأهمية مضاعفة، إذ ستسنح الفرصة لتقييم أعمق وأشمل للإمكانات والمخاطر.
التأقلم والتعاون كركائز للصمود
تكمن القوة بالنسبة للشركات في القدرة على التكيف مع التوجهات الجديدة والتعاون مع شركاء استراتيجيين، ويمكن للجمع بين الموارد والخبرات أن يشكل حصانة ضد عواصف السوق المالية ويسهم في استقرار التدفق النقدي.
ومع دخول العام 2024، فإن التساؤل عن كيفية تحويل هذه التحديات إلى قصص نجاح يحمل بين طياته بعض الإجابات الصعبة. ولا شك أن التكيف، الصبر، والابتكار هي المهارات الأساسية التي يجب أن يتقنها الفاعلون في هذه السوق. وستُحفظ دروس هذه الفترة لتكون إرشادًا لأجيال لاحقة حول أهمية الرؤية الاستراتيجية والشجاعة في وجه أصعب الظروف.
وفي نهاية المطاف، يقودنا ذلك إلى التساؤل عن الاستراتيجيات التي يتحتم على الشركات تطويرها لتقف صامدة في وجه العاصفة المتوقعة، في ظل وجود حاجة ملحة لتعزيز قواعد الاستقرار المالي، وتقييم مواطن القوة والضعف بحيادية وشفافية، وعلى وجه الخصوص، بلورة خطط لتنويع مصادر الدخل واحتواء التكاليف بشكل فاعل.
وفي حين يبدو عام 2024 عام التحدي الصعب بالغ الوطأة، يتوقع أن تكون المرونة والابتكار في تخطيط الأعمال والاستثمارات الذكية هي عوامل النجاة الرئيسة، وسيرسم الفاعلون في السوق مسارات جديدة لتحفيز النمو وخلق فرص من العدم، وكأنهم يحاولون إضاءة النور في وسط الظلام الاقتصادي الدامس.