"ملحمة جلجامش".. ملخص أقدم قصة مكتوبة في التاريخ
بالنسبة لكثيرين، تُعد ملحمة جلجامش (قصة ميثولوجية، أي خياليّة) أكثر الملاحم تكاملًا في التاريخ، فحبكتها الرائعة وعمرها الذي يتجاوز الـ 4000 عام، أهَّلاها لتكون صالحة لكل زمان ومكان، إذ تتناول قصتها قضايا ما زالت شائكة إلى يومنا هذا، على المستويين الفكري والعاطفي، مثل الحياة والموت، والحب، والخلود، والإرادة، والصداقة، والتضحية والفداء، وغيرها، أضف إلى كل ذلك أنها أول قصة دُوّنت في التاريخ!
كما أن مسألة الغاية أو الهدف من الحياة هي أكبر مسألة أخلاقية أرَّقت، وما زالت تؤرّق، الجميع؛ فإن كان الموت مصيرنا الحتمي في النهاية، فما فائدة كل هذا؟ هل نستمر في سعينا أم نجزع للكسل وننساق وراء أهوائنا؟ تُعالج ملحمة جلجامش هذه المسألة بطريقة رائعة يستحق أن ينتهجها الجميع.
تنويه: من المهم أن نعرف هذه القصة تندرج تحت قصص الميثولوجيا أو الأساطير، أي مثلها مثل الأساطير الإغريقية والنوردية وهكذا، ولكن ما يُميزها أنها أول قصة في التاريخ يتم تدوينها وتُنقَل إلينا عن طريق المنحوتات. فمن المثير للغاية أن نعرف كيف كان البشر يفكرون قبل آلاف السنين، وهو ما فاق توقعي شخصيًّا عندما قرأت الملحمة للمرة الأولى.
بطلا القصة
قبل أن نتطرق إلى قصة الملحمة نفسها، دعونا سريعًا نتعرف على بطليها، أولًا جلجامش: ذلك البطل الذي يُضرَب به المثل في الشجاعة والإقدام، والمُنحدِر من أولى سلالات الوركاء الملكية السومرية. يُقال إنه حكم مدينة الوركاء لمدة 126 عامًا، كما يُروَى أن أمه كانت الإلهة "ننسون" وأبوه الملك "لوغال بندا". من الصعب أن نجزم بالفترة التي عاش فيها، ولكن يُعتَقد أنها ما بين 2800 إلى 2500 قبل الميلاد.
عادةً ما يتم تمثيل جلجامش على هيئة بطلٍ بقرنين يُصارع وحوشًا مفترسة، ولكن المنحوتات الآشورية تُصوره بأشكال وصور مختلفة، ففي إحداها مثلًا يظهر جلجامش وهو يحمل بيده ساطورًا وباليد الأخرى أسدًا حجمه صغير بالنسبة للبطل جلجامش للدلالة على ضخامته، بينما يظهر في منحوتة أخرى وهو يحمل جديين ويقدمهما كقربان إلى إله الشمس.
ولا ينفرد جلجامش ببطولة هذه الملحمة وحده، فالبطل "إنكيدو" يشاطره إياها. وإنكيدو هو كائن يمكننا أن نصفه "بالنصف بشري"، وذلك لأن هيئةٍ مُركَّبة من رأس وصدرٍ بشريين وجزء سُفلي على هيئة ثور، كما أن لديه قرونًا مثل جلجامش للدلالة على المكانة والقوم، حيث تشير القرون في تلك الأساطير السومرية إلى القدسية.
جلجامش: الطاغية المُزعج
تدور أحداث الملحمةٍ في مدينة يتباهى سكّانها بأسوارها العالية التي تحاوطها وتحميها. تُعرَف هذه المدينة بـ "أوروك"، وراعيها هو الملك الجبار جلجامش.
في البداية، وبحسب المصادر التاريخية لم يكن جلجامش راعيًا أو ملكًا محبوبًا على الإطلاق، إذ كان يطغى ويظلم سكان المدينة بكل الأشكال التي تصل إلى حد القتل. لم يستطع أحد ردعه أو إيقافه لأنه كان قويًا وجبارًا. يكفي أن تعلم أن طوله كان إحدى عشرة ذراعًا وعرض صدره وصل إلى تسعة أشبار. بشكل عام، لم يكن لهيئته الجسدية نظير؛ فثلثاه كان إلهًا والثلث الباقي بشر.
تقول الملحمة إن جلجامش لم يترك ابنًا لأبيه وأن مظالمه لم تنقطع عن الناس ليلاً ونهارًا، ومع ذلك فإن بعض السكان كانوا يتغنون به لأنه "حاكمهم القوي والجميل والحكيم" على حد وصفهم. ومن اللقطات الغريبة التي تُصور مدى تمادي جلجامش في الطغيان، أنه كان يمتلك عددًا كبيرًا من الطبول يستخدمها لإزعاج رعيته واستدعائهم في عمل السخرة القسري بينما هُم نيام. وفي يومٍ من الأيام، طفح الكيل بأهل المدينة فشَكَوه إلى الآلهة وقالوا لهم -فيما معناه-: ألم تخلقوا هذا الوحش الجبار الذي لا يضاهي فتك أسلحته سلاح؟ نريدكم أن تخلصونا من اضطهاده. وبالفعل، تستجيب الآلهة، ولكن بطريقة غير تقليدية على الإطلاق؛ فبدلًا من قتله بصاعقة من البرق أو حتى بنزع قواه منه، قررت الآلهة أن تُرسل إليه كائنًا يضاهيه في القوة ويُسمى إنكيدو.
اقرأ أيضًا:"يرتاده 3 ملايين زائر سنويًا".. التاريخ المُظلم لجبل راشمور
جلجامش وإنكيدو: صداقة غير متوقعة
كان إنكيدو كائنًا بدائيًا غير متحضر، أقرب للحيوانات منه إلى البشر، ولكنه كان قويًا ونبيلًا، وعندما عَرِف بظلم جلجامش لأهل بلدته، قرر أن يصارعه فورًا، وبعد قتال ضارٍ فاز به جلجامش بشق الأنفس، أبدى كل طرف إعجابه بقدرات الآخر القتالية وقررا أن يكونا صديقين.
وصلت درجة الصداقة بين جلجامش وإنكيدو إلى أشدها، فتشاركا المغامرات والطموح وكان كلٌ منهما يؤثر على الآخر، وحتى أن جلجامش قد علّم إنكيدو أساليب التحضر. خاض الصديقان مغامرات كثيرة أبرزها كان في غابة الأرز المسحورة حيث تغلبا على وحش يُسمى " خومبابا " ووظيفته الأساسية كانت حماية أشجار الأَرز المُقدسة.
بعد التغلب على الوحش كان الصديقان أمام قرارٍ مصيري، هل يقتلانه أم يتركانه وشأنه؟ وعلى غير المتوقع، يرى جلجامش أن خيار العفو هو الأفضل، بينما يصر إنكيدو على قتله، وهو ما يحدث بالفعل، ويا ليته ما حدث!
نهاية مؤسفة
بعد قتل الوحش، يقطع الصديقان أطول شجرة أرز موجودة بغية تقديمها لإله يُسمى "إنليل". تسمع إلهة الحب الغنية عن التعريف "عشتار" بهذه القصة البطولية فتطلب من جلجامش الزواج بها، وهو ما قوبل بالرفض نظرًا للماضي المؤسف لأزواج عشتار السابقين.
تستقبل عشتار رفض جلجامش بصدمة كبيرة فتعرج إلى السماء وتطلب من أبيها "آنو" أن يعاقبه قائلة: لقد سبني وعيرني بشروري، فيرد عليها أبوها بأن جلجامش معذورٌ، فتقول عشتار ساخطة: إن لم تخلق ثورًا سماويًا يُهلك جلجامش فسأحطم باب العالم السفلي وأحرر الموتى وأجعلهم يأكلون الأحياء.
يستجيب آنو لعشتار ويُنزل هذا الثور للقضاء على جلجامش، ولكن البطلان يُجهزان عليه ليزيدا من حنق عشتار، التي سرعان ما صرخت: الويل لجلجامش الذي دنسني وأهانني وقتل ثور السماء. يسمع إنكيدو صياح عشتار فيقتلع فخذ الثور ويقذفه بها قائلًا: لو أمسكتك لقتلتك مثله ولربطت أحشاءه بأطرافك. أقام البطلان حفلة وكل واحدٍ منهما اضطجع على فراشه، ولما نهضا، قص إنكيدو على صديقه كابوسًا غريبًا.
قال إنكيدو إنه رأى الآلهة العظام، من ضمنهم "آنو" و"إنليل"، قد اجتمعوا وقرروا وضع حدٍ للذين قطعوا أشجار الأرز، وإن "إنليل" بالتحديد قد قرر أن "إنكيدو" وحده هو الذي يجب أن يموت، ربما لأنه أصر على قتل حامي الأشجار "خومبابا".
لسوء الحظ يتحقق الكابوس ويصبح إنكيدو طريح الفراش لعدة أيام من شدة الإعياء إلى أن يموت بعد صراع مع المرض. تنفجر دموع جلجامش ويحزن حزنًا لا يوصف ومن هنا يبدأ فصل جديد تمامًا في القصة.
اقرأ أيضًا:كيف امتلكت "بيبسي" سادس أقوى جيش في العالم؟
البحث عن الخلود
بعد وفاة إنكيدو دعا جلجامش شعب أوروك إلى الحداد على صديقه العزيز، كما أمر أمهر الحرفيين بصنع تمثال مهيب على شرفه. يبدو أن جلجامش لم يكن يستوعب أن رفيقه الوحيد -تقريبًا- في الحياة قد فارقه، ولكنه تيقن من هذه الحقيقية المؤسفة في النهاية وتيقن أيضًا من أن هادم اللذات "الموت" هو شيء بغيض، فقرر البحث عن الخلود.
كان جلجامش يعلم أن هناك رجلاً خالدًا في المدينة يُدعى "أوتانابيشتيم"، فقرر أن يشد الرحال إليه ويسأله عن سر الخلود. اضطر جلجامش أن يقطع مسافات طويلة وطرق غابرة، يقاتل الأسود، بل يسابق الشمس نفسها حتى وصل إلى الملاّح الشهير في ميثولوجيا بلاد الرافدين، "أورشنابي"، والذي بدوره نقله عبر بحر الموت حتى أوصله إلى "أوتانابيشتيم".
وأخيرًا يقابل بطلنا "أوتانابيشتيم" الذي يحكي له قصة طوفان نوح وكيف أنه نجا مع عدد قليلٍ من البشر من هلاك البشرية جمعاء، ويقول له إذا أراد أن يعرف سر الخلود، فعليه أن ينجح في اختبار صغير وهو أن يظل مستيقظًا لمدة 6 أيام و7 ليالٍ. يقبل جلجامش بالتحدي، ولكنه لا يقوى على الاستمرار فيخلد إلى النوم. يقول "أوتانابيشتيم" لجلجامش مستنكرًا: إن لم تستطع أن تهزم النوم، فكيف لك أن تهزم الموت؟ ويرفض أن يخبره بسر الخلود.
تُلح زوجة "أوتانابيشتيم" عليه وتجبره على إخبار جلجامش بالسر الذي قطع من أجله مسافات طويلة مُضطرًا إلى مصارعة الأهوال، فيرق قلبه ويخبره بأن السر يكمن في نبتة مثل الشوك موجودة في مياه بحر الموت. يحصل جلجامش على النبة بالفعل، ويعود برفقة الملاّح "أورشنابي" إلى مدينة أوروك، وفي طريق العودة يقرر بطلنا أن يستريح من رحلته الشاقة قليلاً عن طريق الاستحمام في إحدى بِركات المياه ويترك النبتة على حافة البركة.
في تلك الأثناء، وبينما هو مُسترخٍ، تلتقط أفعى النبتة وتلتهما فيبكي جلجامش ويُصاب بإحباط شديد، ويتيقن من أن ثمة شيء خطأ فيما يفعله. يبدو أنه أدرك أخيرًا أن الخلود شيء مستحيل ولا يجوز للمرء أن يتخذه هدفًا، وها هو القدر يسوق له أحداثًا تنبئه بذلك.
يرتضي جلجامش هذه الحقيقة المأساوية ويعود والملاح إلى مدينة أوروك. وفي مشهد تصوره لنا الملحمة بشكل رائع، وبينما يقتربان جلجامش وأورشنابي من أسوار المدينة، يتبدل شعور جلجامش من السخط والإحباط إلى الرضا، ويسأل الملاح عن رأيه بأسوار المدينة، ويطلب منه أن يأخذ جولة بأوروك وأن يستمتع باللحظة.
ما الذي تريد الملحمة أن تخبرنا به؟
تتمثل عظمة ملحمة جلجامش في كثير من الأشياء، ولعل أهمها هي نهايتها المفتوحة تلك، والتي سيفسرها كل واحد منا بطريقته الخاصة. بالنسبة لمحدّثكم، فلقد تعلمت أن أتقبل حقيقة الموت بصدرٍ رحب، وأن أُقدر قيم الصداقة، فضلاً عن محاولة ترك أثر فارق، فماذا عنكم أعزائي؟