هل قامت الحرب العالمية الأولى بسبب شطيرة؟
تنبأ "أوتو فون بسمارك"، مستشار التاريخ الألماني الشهير، أن أوروبا ستدخل في حرب شعواء نتيجةً لسبب سخيف في دول البلقان، وهو ما قد كان بشكل أو بآخر.
وبغض النظر عن أن الشرارة الحقيقية التي بدأت بسببها الحرب العالمية الأولى كانت اغتيال الأرشدوق النمساوي، "فرانز فيردناند"، على يد الطالب الصربيّ "جافريللو برينسب"، إلّا أن ذلك -بحسب روايات عديدة- لم يكن ليحدث لولا شطيرة!
عداءٌ متبادل
بعد هزيمة الدولة العثمانية على يد الإمبراطورية الروسية في عام 1878، انتقلت سيادة البوسنة والهرسك إلى المملكة النمساوية المجرية. حقدت صربيا على النمسا والمجر، ورأت أن البوسنة والهرسك يجب أن تكون تحت سيادتها هي؛ وذلك لأن حوالي 40% من الصرب كانوا يعيشون في البوسنة والهرسك.
تمر السنوات وتستعيد الدولة العثمانية قوتها شيئًا فشيئا، ولكنها سُرعان ما تُهزم على يد دول البلقان، ما يزيد صربيا وشعبها قوةً، ويزيد المملكة النمساوية المجرية قلقًا.
"فرانز فيردناند"، ولي عهد النمسا والمجر، كان يحتقر الصرب ويصفهم بالخنازير واللصوص والقتلة والأوغاد، والصرب كانوا يبادلونه نفس الشعور ويكنون له ولبلاده كل العداء، إذ إنه عندما علموا أنه سيزور البوسنة والهرسك في إطار بعض الأعمال العسكرية، استعد مجموعة من الطلّاب الثوريين للتآمر عليه واغتياله.
وفي مايو من عام 1914، جهَّزت عصابة "اليد السوداء- Black hand"، الموالية للجيش الصربي، ثلاثةً من الطلبة الثوريين، وعلى رأسهم شرير قصتنا "جافريللو برينسب"، بستة قنابل يدوية وأربعة مسدسات نصف آلية، فضلاً عن كبسولات السيانيد للانتحار فور تنفيذ عملية الاغتيال.
شدَّ الطلبة الصرب الرحال إلى البوسنة والهرسك، وساعدتهم جماعة "اليد السوداء" على تهريب الأسلحة عبر الحدود، وإلى يومنا هذا ليس معروفًا ما إذا كانت صربيا نفسها متورطة في ذلك التهريب أم لا.
محاولة اغتيال فاشلة
بالرغم من تلقيه تحذيرات كثيرة، صمم "فرانز فيردناند" أن يسافر رفقة زوجته "صوفي" إلى عاصمة البوسنة والهرسك، سراييفو، في الثالث والعشرين من يونيو عام 1914. لم تكن تلك التحذيرات من معاونيه فقط، بل من القَدَر كذلك؛ إذ يُزعَم أن حرارة محرك السيارة قد ارتفعت مما جعل ولي العهد يقول مُتعجّبًا: "تبدأ رحلتنا بفأل واعدٍ للغاية؛ هنا تحترق سيارتنا، وهناك سيلقون القنابل علينا". لم يكن يعرف أن هذا سيحدث بالفعل!
وصل ولي العهد وزوجته إلى بلدةٍ صغيرة تبعد بضعة أميالٍ عن العاصمة سراييفو، تَفَقَّد "فيردناند" الأحوال العسكرية هناك، بينما زارت "صوفي" المدارس ودور الأيتام. بعد ذلك استكمل الزوجان الجولة إلى البلدية لحضور مناسبة هناك، ما اجتر نظر العامة نحويهما، كما أن "برينسب" كان واقفًا مُتربصًا، ولكنها مرّت بسلام.
اليوم الموعود، الثامن والعشرون من يونيو عام 1914، "فيردناند" وزوجته يركبان سيارة بسقف مفتوح، ويتجهان وسط موكبٍ متواضع نحو بلدية المدينة. في تلك الأثناء كان أحد الطلبة الثوريين الثلاثة -الذين جهّزتهم عصابة "اليد السوداء" لمثل هكذا لحظة-، ويُدعى "كابرينوفيتش- Cabrinovic"، يقفُ متربصًا، ولم يكد أن يرى سيارة "فيردناند"، حتى رمى عليها إحدى القنابل التي تجاوزت سيارة ولي العهد وانفجرت بالسيارة التي تَخلفها.
اقرأ أيضًا:أبرز إنجازات العلماء المسلمين في تطور الحضارة الإنسانية
وبعد فشل عملية الاغتيال، قفز "كابرينوفيتش" في النهر مُحاولاً الانتحار، ولكن الضباط أمسكوه ليصيح بهم: "أنا بطلٌ صربيّ".
عنادٌ ما بعده عناد
من المفترض بأي إنسان عاقل تعرض لمحاولة اغتيال في مكانٍ ما أن يترك هذا المكان، ولكن "فيردناند" كان مُختلفًا، إذ أصرّ على استكمال جولته المُقررة نحو بلدية المدينة، بل الأعجب من ذلك أنه عندما انتهى من زيارة البلدية، قرر العودة وزيارة الضُباط الذين تضرروا من قنبلة "كابرينوفيتش"!.
تجنبًا لأي محاولة اغتيال أخرى، سار الموكب هذه المرة بسرعةٍ أكبر، وكان من المفترض أن يكون هناك تغيير في خط سير السيارة، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السُفن ولا يتم تبليغ سائق سيارة ولي العهد بالمسار الجديد فيدخل شارعًا يُسمى "فرانز جوزيف" بالخطأ. يلاحظ الجنرال الذي كان يركب مع ولي العهد أنهم يسيرون في الطريق الخاطئ فيُبلغ السائق، والذي بدوره يُبطء السيارة، يأخذ منعطفًا، ويحاول الخروج من ذلك الشارع.
الشطيرة التي أشعلت فتيل الحرب العُظمى
بعد فشل محاولة الاغتيال الأولى، لم يَعُد "جافريللو برينسب" من حيث أتى، وإنما ظل في سراييفو، ولسوء الحظ أنه كان في نفس الشارع الذي تحاول سيارة "فيردناند" أن تخرج منه الآن، وهو شارع "فرانز جوزيف".
يعتقد المؤرخون أن "برينسب" -البالغ من العمر 19 عامًا وقتها- توقف في ذلك الشارع ليتناول شطيرة في مطعمٍ يُسمى Schiller’s، كما يعتقدون أيضًا أنه لو لم يتوقف من أجل إشباع جوعه، لَمَا كانت الكارثة لتحل على العالم.
فبينما تستعد سيارة ولي العهد للخروج من شارع "فرانز جوزيف"، يلمحها "جافريللو برينسب" ويُخرِج مسدسه بسرعة ويطلق طلقتين؛ واحدة على رقبة "فرانز فيردناند" والأخرى على بطن زوجته "صوفي"؛ ليتمتم الزوج لزوجته قائلاً: "صوفي، صوفي، لا تموتي.. ابقي حيةً من أجل أطفالنا"، ولكنه لم يكد أن يُنهي تمتمته حتى وافته المنية وزوجته.
حاول "برينسب" أن يبتلع حبة السيانيد بسرعة لينتحر، ولكنه فشل مثل صديقه "كابرينوفيتش"، حتى أنه حاول أن يُطلق النار على نفسه، ولكن الجنود كانوا قد أمسكوا به بالفعل.
في التحقيقات اعترف "برينسب" بجريمته، ولكنه قال إنه لم يقصد أن يقتل الزوجة. حُكِمَ عليه بعشرين سنة، ولكنه مات في السجن نتيجةً لمرض السُّل، وكان ذلك مع مشارف نهاية الحرب العالمية الأولى، أو الحرب العُظمى كما يسمّيها البعض، والتي اندلعت نتيجة لفعله الشنيع.
ما صحة قصة الشطيرة؟
بحسب الكاتب "مايك داش"، فإن قصة الشطيرة ظهرت للمرة الأولى في عام 2003، ومنذ ذلك الوقت وهي تجذب الانتباه، ولكنه يرى أنها قصة غير حقيقية لأسباب عدة، أولها أن "الشطيرة- Sandwich" اختراعٌ أنجلو-أمريكي وهو لا يعتقد بأنها كانت قد وصلت إلى البوسنة في ذلك الوقت.
ويضيف "داش" أن هذه الشائعة أخذت في التفشي بسبب وثائقي بريطاني يُسمى "الأيام التي صدمت العالم- Days that Shook the World". إذ يقول مؤلف هذا الوثائقي إنه اعتمد في بحثه الدقيق على مصادر بلغات مختلفة، وربما كلمة "ساندويتش" كانت ترجمة عامية يُقصَد بها شيء آخر.
ولكن بغض النظر عمّا إذا كانت هذه القصة حقيقة أم مختلقة، أم رُوِّجَ لها نتيجة لسوء التفاهم، فإن الأقدار التي ساقت "فرانز فيردناند" إلى هذا المصير لا تختلف في إثارتها عن قصة الشطيرة، فمنذ تنبؤ "بسمارك" وحتى توقّع "فيردناند" -بأن قنبلةً ستُلقى عليهم- وليس انتهاءً بعدم إبلاغ السائق بتغيير المسار، وكل المؤشرات توحي بوقوع الكارثة.
ما نعرفه جيدًا أنه لولا هذا التفاعل التسلسلي للأحداث، لما قامت الحرب العالمية الأولى، وبالتالي لم تكن الحرب العالمية الثانية لتقوم، وربما لم نكن لنسمع عن "هتلر".
ماذا عن القنبلتين النوويتين وكارثة هيروشيما ونجازاكي؟ وماذا عن عشرات الملايين الذين ماتوا جرّاء الحربين العالميتين؟ صعود أمريكا وسيطرتها على العالم الذي تغيرت خريطته ومساره، والثورة الروسية وصعود البلشفية وما ترتب على ذلك من أحداث. كل ذلك وأكثر ربما لم يكن ليحدث لولا شطيرة، وبالتأكيد لم يكن ليحدث لولا الرصاصتان.