ماذا قال لي مبتكر الخريطة الذهنية؟
محمد النغيمش*
من أمتع الحوارات التي حظيت بها، كان حواري مع البريطاني الشهير توني بوزان، مبتكرالخريطة الذهنية التي شهدت انتشاراً عالمياً واسع النطاق. وتتمثّل خرائطه في فكرة بسيطة ترسم من خلالها خططك أو أفكارك أو قراراتك، أو ما تعلمته في أي مكان في خريطة ذهنية ملوّنة، ومدعّمة برسوم بسيطة إن أمكن، تجعل عملية تذكر التفاصيل في غاية السهولة. وتتماشى هذه الخريطة أوmind map مع فطرة تفكير الدماغ، لأنها تقوم على فكرة رسم دائرة أو وضع رسمة أو صورة ، في منتصف الصفحة للفكرة أو عنوان الموضوع الرئيس، ثم تتفرّع منها خطــــوط مائلــة كالأغصان التي تتفرّع منها أغصانٌ أخرى أصغر.
وقد رأيت أمارات السرور على وجه بوزان، وهو يشرح لي كيف لقيت خرائطه في الصين والسعودية،وغيرهما انتشاراً منقطع النظير، لأنها تتماشى مع طريقة تفكير العقل ،فدماغ الإنسان تتحكم به مليارات الخلايا المترابطة التي هي دوائر تفسّر لنا كل صورة أو رسمة أو تجربة، أو صوت أوكلمة نراها أو نشعر بها. فعلى سبيل المثال حينما تقول أو تسمع كلمة "العراق" تفرّع الخلايا الدماغية في لحظة كل ما يدور في ذهنك، مثل "نهر الفرات، أو النزاع الدائر، أو الأكل العراقي اللذيذ".
ولتبسيط الفكرة أكثر نقول:حينما تسمع محاضراً أو مدير اجتماع يلفتُ إلى "قضية مهمة جداً"، هنا يمكن كتابة هذا هذه القضية في الدائرة الوسطى، ثم نفرّع منها خطوطاً مائلة، فيها رؤوس أقلام، أو بالأحرى كلمة واحدة رئيسية، ما أن نراها حتى نتذكر الموضوع نفسه.
وبصراحة أنا أستخدم هذه الخريطة في التحضير لمقابلة تلفزيونية أو محاضرة أو مقالة، لأنها تجمع أفكاري ذات الصِّلة. وأستطيع بنظرة خاطفة تذكّر كل شيء. أما إذا كنت تستمع مثلاً إلى أكثر من شخص في اجتماع ما، فيمكنك رسم دائرة لكل متحدث، ثم تفرّع منها خطوطاً كأشعة الشمس أوالأغصان التي تحمل كل منها كلمة واحدة key words ، وذلك لأن الكلمة تسهّل عليك "التذكر"، وتمنحك "الحرية" في تفريع كلمات أكثر غير مرتبطة بأمر محدد. فمثلاً حينما تكتب "النغيمش" أفضل من أن تدوّن "الكاتب النغيمش" ، لأن الحالة الأولى تمنحك مرونة في تفريع أمور أخرى في حياتي، غير الكتابة مثل شخصيتي أو اهتماماتي، وهذه هي فكرة الخريطة، لأنّها تمنح عقولنا حرية التوسّع بالأغصان، لنجمع أكبر قدر ممكن من أفكارنا أو ما تعلمناه، أو ما نعتزم القيام به من مشاريع أو قرارات.
وضرب بوزان مثلاً عملياً شاهده بنفسه في عدد من الدول، حيث رأى أن الخريطة الذهنية، ترفع من معدل تركيز المستمعين وانهماكهم فيما يسمعونه إليه من أحاديث، ذلك أن رئيس الوزراء الماليزي ماهاتير محمد، دعاه بنفسه لمساعدته في تطبيق هذه الخريطة في مناهج التعليم، مثلما فعلت سنغافورة التي"صار كل طفل تسأله في الشارع،هل سمعت عن الخريطة الذهنية أو استخدمتها؟ يقول لك نعم"، على حدّ قوله، لأنها أدخلت في المناهج، لكونها طريقة ممتعة في تلخيص ماتتعلمه، فتتذكره بسهولة لاحقاً، شريطة استخدام الألوان التي أثبتت الدراسات أن لها تأثيراً قوياً في التفكير والتذكر. الأمر الذي دفع الرئيس المكسيكي ووزارة التعليم،إلى دعوته لتفعيل هذا الأمر في المناهج التعليمية.
وأشاد كل من الرئيس الأمريكي الأسبق كلينتون وآل غور علناً بقوة تأثيرالخرائط في حياة الإنسان ومستقبله وتفكيره.
وَمِمَّا سمعته من بوزان أن هناك دراسة مهمّة قامت عليها الخرائط الذهنية، وهي التي أشارت إلى أننا نتذكر ٢٠٪ ممّا سمعنا و٣٠٪ ممّا شاهدنا و٥٠٪ ممّا سمعنا وشاهدنا. بيننا نتذكر نحو٨٠٪ ممّا سمعنا وشاهدنا وعملنا. الأمر الذي دعاه إلى أن ينصح باستخدام اليد في رسم الخريطة أولاً، قبل أي برنامج إلكتروني، لما لليد من ذاكرة وتفاعل مؤثرين في العملية التعليمية أيضاً .
وقال إن بلوغ "الخريطة الذهنية" نصف مليار كلمة في محركات غوغل، هو أمر يثلج صدره كثيراً. وهو دليل على أن ابتكاره قد بدأ يحدث نقلة كبيرة في التعليم، وهذا سبب تركيزه على الأطفال في الآونة الأخيرة. وأبدى سعادته الغامرة وهو يرى "ملايين العرب وتحديداً الخليجيين يستخدمونها في أعمالهم وحياتهم، ودراستهم"، وقد اطلع على تطبيق مدارس سعودية عدّة لخريطته.
رغم بساطة هذا الابتكار "الخريطة الذهنية"، فإنه "لن يموت"، حسب بوزان، لأنه قائم على فكرة الجمع بين الخيال imagination و الروابط ذات الصلة association، وهي الطريقة الفطرية التي يفكر بها كلّ المبدعين في العالم، كمخترعي المصباح والهاتف والتلفاز الذين نجحوا في ترجمة أفكارهم إلى رسوم أوليّة تمخّضت عن اختراعات عبقرية.