"كوفيد 19" ونزيف الشركات المالي: الحل يبدأ باستعادة مبدأ الحيطة والحذر في المحاسبة
يوماً بعد يوم تتكشف التداعيات المرعبة لفيروس "كورونا" على القطاع الإقتصادي. الخسائر عالمياً ضخمة والشركات تعاني نزفاً مالياً غير مسبوق، ووسط مستقبل غامض غير معروف ما الذي سيحمله/ فإن الحديث عن تعافي الشركات سابق لأوانه. التعافي بشكل عام يعتمد على قدرة الشركات على التحكم بنسبة الخسائر التي منيت بها، فإن كان تحت السيطرة فالتعافي لن يتطلب وقتاً طويلاً. فهل هناك إمكانية لوقف النزف المالي حالياً، لضمان التعافي السريع لاحقاً؟
ترك الفيروس تأثيره الكبير في القطاع الإقتصادي، فجميع القطاعات توقفت بشكل مفاجئ، ما أثر وبشكل كبير في الإنتاج والمداخيل. في المملكة المتحدة قطاع صناعة السيارات، على سبيل المثال، صنّع بتصنيع 197 سيارة في شهر أبريل/ نيسان من العام الحالي، بتراجع ٦٩،٨٠٣ سيارة مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي، حيث تم إنتاج ٧٠ ألف سيارة، وفي تناقض أكبر، يبرز حجم الكارثة التي لحقت بالقطاعات، فإنه تم إنتاج ١٢٠ الف سيارة خلال فبراير/ شباط وحده من عام 2020.
أرقام إن دلت على شيء فهي توضح حجم الخسائر الضخمة التي منيت بها الشركات والمؤسسات حول العالم.
الأزمة المالية الحالية لم تكن بالحسبان، بل جاءت كصفعة قوية ومفاجئة ولكنها ليست الأزمة الأولى التي يمر بها العالم. منذ أكثر من عقد اختبر العالم أزمة ألحقت أضراراً بالقطاعات الاقتصادية، ورغم أنه كان هناك دلائل بأننا قد نختبر أزمة اقتصادية ناجمة عن تفشي وباء ما، خصوصاً مع تفشي إيبولا وزيكا عامي ٢٠١٤ و ٢٠١٦ ولكن الدول لم تقم بالتحضيرات المناسبة على الصعيد الاقتصادي والتي تمكنها من مواجهة التحديات.
خسائر الشركات العربية قدرت بـ ٣٢٣ مليار دولار. فوفق رئيس اتحاد رجال الأعمال العرب حمدي الطباع، فإن الشركات في المنطقة العربية تكبدت خلال الربع الأول من العام الحالي خسائر فادحة من رأس مالها السوقي، بلغت ٤٢٠ مليار دولار وهذا الرقم يعادل ٨٪ من إجمالي ثروة المنطقة. الخسائر ترافقت مع تراجع الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري في الدول العربية بسبب الإغلاق وانحسار السياحة وتعطل الخدمات وهذا بدوره سيؤثر في الاستثمارات مستقبلاً. ما يعني أن على الشركات اتخاذ إجراءات جدية وحاسمة لوقت النزف المالي، فالأمر لم يعد يتعلق بصمود الشركات فحسب بل بصمود إقتصادات الدول في الوقت عينه.
ويبقى السؤال الأكثر أهمية هو عن الطريقة التي تمكن للشركات الخروج من الأزمة بالحد الأدنى من الخسائر وتحضير نفسها لأزمة ما قد تفرض نفسها خلال السنوات القادمة، الإجابة وبكل بساطة هي أنه للنجاة من هكذا أزمة على الشركات أن تتمتع بالكفاءة والمرونة، ومبدأ الحيطة والحذر في المحاسبة يساعد الشركات على تحقيق التوازن بين هذين الأمرين.
ما مبدأ الحيطة والحذر في المحاسبة؟
المبدأ هذا يتطلب تسجيل المصاريف والالتزامات بأسرع وقت ممكن، وأخذ جميع المصروفات والخسائر المتوقعة في الحسبان، عند تحديد نتيجة أعمال المؤسسة ومركزها المالي. في المقابل لا يتم الاعتراف بالإيرادات والأرباح المتوقعة، وإنما بالإيرادات والأرباح المحققة فقط.
مبدأ الحيطة والحذر في المحاسبة يعني تسريع عملية الاعتراف بالخسائر وتأجيل الاعتراف بالأرباح حتى تحققها. الحيطة والحذر من أقدم المبادئ في المحاسبة وعادة ما تلجأ إليهما الشركات لحماية نفسها من آثار التضخم وقد تم الاعتماد عليهما بشكل كبير مطلع السبعينيات بعد أزمة النفط.
بطبيعة الحال أي مبدأ سيجد من يدلل على مكامن الخلل فيه، فمن بعض المشكلات في تطبيق الحيطة والحذر هو إظهار تناقض ذاتي للمبدأ نفسه إذ إن تطبيقهما سيؤدي لزيادة الأرباح في العام الذي يلي تطبيقه والزيادة هذه هي تناقض للمبدأ نفسه.
في المقابل يرى البعض أن اعتماد الحدّ الأدنى للأصول والحدّ الأقصى للخصوم، وفقاً لمبدأ الحيطة والحذر يتعارض مع فرض الدورية في المحاسبة ووضرورة تحديد نتيجة أعمال كل دورة بشكل دقيق وواقعي، إذ إنه ينقص أرباح جيل من المساهمين في دورة محاسبية معينة لمصلحة غيرهم في الدورات المتعاقبة.
لكن المشكلات أو مكامن الخلل كما يحلو للبعض تسميتها، لا تقلل من أهمية هذا المبدأ على الإطلاق. تطبيق الحيطة والحذر في المحاسبة مهم جداً للمؤسسات، سواء خلال الأزمات أو خارجها.
كيف يحقق مبدأ الحيطة والحذر التوازن بين الكفاءة والمرونة؟
المرونة هي القدرة على الصمود والتعافي من الصدمات السلبية. المرونة حالياً تتمثل بفترة الركود، أي بالقدرة على استيعاب صدمة الفشل والمضي قدماً. مثلاً المؤسسة تكون غير مرنة حين تتمسك بقسم ما يتسبب بخسائر كبيرة للشركة، أما الشركة المرنة فهي التي تقوم بالتخلص من هذا القسم وإغلاقه بشكل كلي للحد من الخسائر والنزيف المالي.
الكفاءة في المقابل تعني نتاج أكبر (المخرجات) وإهدار أقل لكمية معينة من المدخلات. الشركات التي تملك الكفاءة هي تلك التي تعتمد مبدأ الأصول الخفيفة وبالتالي تكون رافعتها المالية أقوى مقاربة بغيرها.
ومبدأ الأصول الخفيفة يعني أن الشركة تملك عدداً أقل من الأصول الرأسمالية مقارنة بقيمة عملياتها. والأصول الرأسمالية في الشركات هي الأصول التي لها عمر إنتاجي أطول من عام وغير مخصصة للبيع في السياق المعتاد لتشغيل الشركة، وعادة تستخدم الشركات الأصول الرأسمالية لتوليد إيرادات على مدار أكثر من عام، ويتم تسجيلها كأصل في الميزانية العمومية ويتم قيدها على مدى العمر الإنتاجي للأصل من خلال عملية الاستهلاك. الأصول الرأسمالة لها دورها في المساهمة في قدرة الأعمال على تحقيق الأرباح، خصوصاً أن الفوائد المكتسبة من الأصل قد تمتد الى أكثر من مدتها، أي عام واحد.
وفي السياق نفسه، فإن نمط الأصول الخفيفة، الذي وجد شهرة كبيرة خلال السنوات الماضية وباتت تعتمد عليه الشركات الناشئة، يضمن تحقيق العائدات بفترة زمنية قصيرة مقارنة بالأنماط التقليدية.
الشركات التي تعتمد على الأنماط التقليدية للأصول هي أقل مرونة، لأنها تملك احتياطياً مالياً أقل، وبالتالي حين تواجه الأزمات فهي تتخبط وتعاني. الأصول الخفيفة تعني حرفياً حمولة أقل ما يمكن الشركة من التحرك بسرعة وبخفة، كما أنها تعني أن الشركة لن تكون ملزمة على التخلص من أي وزن إضافي وذلك لأن الشركة تتحرك بحرية تامة.
الرافعة المالية لها دورها المهم جداً أيضاً، فمفهوم الرافعة مأخوذ من الفيزياء، ويعني إمكانية رفع جسم ثقيل بتطبيق قوة صغيرة نسبياً باستخدام الرافعة. مالياً هي درجة استخدام موجودات الشركة التشغيلية في نشاط معين، بحيث يترتب على استخدامها تحمل الشركة كلفة ثابتة وتحقيق إيرادات أي إنها الاستخدام الممكن للتكاليف المالية الثابتة لزيادة الأرباح. وحين تكون الرافعة المالية للشركة أقوى من غيرها ومدعومة بنمط الأصول الخفيفة، فإن الشركة يمكنها إنجاز الكثير برأس مال قليل وهذا الواقع مفيد جداً خلال الأزمات لأن الموارد تكون شحيحة.
مبدأ الحيطة والحذر في المحاسبة يوازن بين الأمرين وبالتالي يسمح للشركة بأن تتمتع بالكفاءة والمرونة، ويساعدها على المناورة بخفة والخروج من الأزمة واكتشاف مكامن الخلل، والتخلص من المشاريع الخاسرة أو الأقسام التي تسهم في زيادة النزف المالي ضمن الشركة. المشاكل في الشركة ستكون واضحة، والمطلوب هو التصرف بسرعة لتحصين الشركة وضمان نجاتها من تداعيات فيروس كورونا.
ولعل الأهم هو أن مبدأ الحيطة والحذر في المحاسبة يسهم في وقف الهدر. أغلبية الشركات في العالم، وفي عالمنا العربي، بشكل خاص، تواجه معضلة الهدر الذي أحياناً يصعب رصد مصدره، ولكن عبر هذا المبدأ يمكن رصده واكتشافه ووضع حد له، وتقليل نسبة الخسائر واستخدام المال في مجالات أخرى تعتبر مهمة للشركة حالياً.
وبالمثل عندما ترفع الشركة من المديونية المالية في القروض العامة أو الخاصة أو أسواق المال، فهي تقوم بذلك رغم التقييم التنازلي في الحسابات. وهكذا يكون الدين أكثر أماناً مايجعل الشركة والجهات الدائنة أكثر قدرة على تجنب الخسائر الفادحة والفشل عند وقوع الأزمات.