ريادة الأعمال العائلية: دليلك لتحقيق النجاح والاستمرارية عبر الأجيال
تُعد الأعمال العائلية حجر الأساس في اقتصادات الدول، حيث بدأت كمشاريع صغيرة، وتحولت إلى شركات عملاقة استمرت لأجيال، ورغم دورها المهم، فإن نجاحها ليس مضمونًا، إذ تواجه تحديات مثل النزاعات العائلية، وصعوبة الفصل بين العلاقات الشخصية والإدارة، ولضمان استمراريتها، تحتاج هذه الشركات إلى تخطيط دقيق، وإدارة فعالة تعتمد على الحوكمة والتخطيط الاستراتيجي.
وهي الأمور التي تناقشها منصة "الرجل" في السطور التالية، بينما نتناول مفاتيح نجاح ريادة الأعمال العائلية، التي تتضمن: بناء رؤية واضحة، وتعزيز الإدارة المهنية، ووضع آليات لانتقال القيادة بين الأجيال، كما نتناول نماذج عالمية لشركات عائلية تمكنت من التغلب على التحديات وتحقيق نجاح مستدام، فمن خلال تحليل هذه التجارب، يمكن لرواد الأعمال العائلية استخلاص دروس قيمة، تساعدهم على تحويل العقبات إلى فرص، وضمان استدامة أعمالهم في سوق متغير.
ما هي الأعمال العائلية في ريادة الأعمال؟

تشير بعض الاحصاءات إلى أن الأعمال العائلية تمثل أكثر من 60% من الشركات حول العالم، وتسهم في توفير ملايين الوظائف سنويًا، وفي حين أن هذه الشركات قد تبدأ بمشروع صغير تديره الأسرة، فإن بعضها يتحول إلى علامات تجارية عالمية، بفضل الإدارة الحكيمة والاستراتيجية الواضحة.
ومع ذلك، فإن العمل العائلي يحمل تحدياته الخاصة، التي سبق وأشرنا إليها، مثل النزاعات العائلية، وصعوبة الفصل بين العمل والعلاقات الأسرية، والتخطيط لنقل القيادة بين الأجيال، فالأعمال العائلية ليست مجرد مشاريع تجارية؛ إنها إرث عائلي يعكس قيم الأسرة وثقافتها، ومع مرور الوقت، يمكن أن تصبح هذه الأعمال قوة اقتصادية كبيرة تسهم في تنمية المجتمعات.
ومع ذلك، فإن الطبيعة الفريدة لهذه الشركات، التي تجمع بين العلاقات العاطفية والمصالح التجارية، تجعلها عرضة لتحديات خاصة، تتطلب إدارة استثنائية.
ما الذي يجعل الأعمال العائلية ناجحة؟

يعد نجاح العمل العائلي أمرًا ممكنًا إذا تمت مراعاة بعض المبادئ الأساسية، التي تضمن استقراره واستمراريته، ومن أهمها:
- بناء رؤية واستراتيجية واضحة:
أي مشروع ناجح يحتاج إلى رؤية واضحة تحدد أهدافه ومساره، وفي الأعمال العائلية، من الضروري أن يتفق أفراد الأسرة على القيم والمبادئ التي تحكم العمل، وأن يتم وضع استراتيجية طويلة المدى، تأخذ في الحسبان التطورات المستقبلية في السوق.
فالرؤية الواضحة تساعد في توجيه القرارات الاستراتيجية، وتوحيد جهود أفراد العائلة نحو أهداف مشتركة، وعلى سبيل المثال، يمكن أن تشمل الرؤية التوسع في أسواق جديدة، أو تطوير منتجات مبتكرة، أو تعزيز الاستدامة في العمليات التجارية، بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تكون الاستراتيجية مرنة بما يكفي للتعامل مع التغيرات السريعة في بيئة الأعمال.
- الفصل بين العائلة والعمل:
من أكبر الأخطاء التي قد تواجه الشركات العائلية، عدم القدرة على التمييز بين العلاقات الأسرية والعمل المهني، لذا، من الضروري وضع قواعد واضحة تحدد مسؤوليات كل فرد، والتعامل وفق معايير مهنية بحتة عند اتخاذ القرارات.
ويمكن تحقيق ذلك من خلال إنشاء سياسات وإجراءات رسمية تحكم العمليات التجارية، مثل تحديد أدوار ومسؤوليات كل فرد في الشركة، وإنشاء قنوات اتصال واضحة، ووضع آليات لتقييم الأداء، كما يمكن تعيين مدير خارجي محترف للإشراف على العمليات اليومية، مما يساعد في تقليل التوترات العائلية.
- الحوكمة وإدارة الأدوار:
تعتمد الشركات العائلية الناجحة على وجود هيكل إداري واضح يحدد الأدوار والمسؤوليات، ويجب على الأفراد في العمل العائلي أن يتمتعوا بالكفاءة اللازمة لشغل المناصب، وليس فقط لأنهم أفراد من العائلة، كما أن وجود مجلس استشاري خارجي يمكن أن يساعد في تحقيق قرارات أكثر موضوعية.
فالحوكمة الجيدة تشمل إنشاء مجلس إدارة يضم أعضاء من العائلة وخبراء خارجيين، مما يضمن اتخاذ قرارات متوازنة تعكس مصالح الشركة ككل، بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تشمل الحوكمة إنشاء لجان متخصصة للإشراف على مجالات محددة، مثل التمويل والتسويق والعمليات.
اقرأ أيضًا: دروس قيادة الأعمال من كبار الرؤساء التنفيذيين: عصارة سنوات من الخبرة
- التخطيط لاستمرارية العمل عبر الأجيال:
الانتقال السلس من جيل إلى آخر هو أحد أكبر التحديات في الشركات العائلية، تشير الدراسات إلى أن 30% فقط من الأعمال العائلية تنجح في الانتقال إلى الجيل الثاني، و12% فقط تصل إلى الجيل الثالث، لذا، فإن التخطيط الجيد والتدريب المستمر للأجيال القادمة يُعد مفتاح البقاء.
ويتضمن التخطيط للاستمرارية تحديد القادة المستقبليين، وتدريبهم بشكل مناسب، وإنشاء خطة واضحة لنقل الملكية والإدارة، كما يمكن أن يشمل ذلك إنشاء صندوق أو هيكل قانوني يضمن استقرار الشركة في حالة حدوث خلافات عائلية.
تحديات الأعمال العائلية وكيفية التغلب عليها؟

مثلها مثل جميع الأنشطة التجارية، قد تصطدم الأعمال العائلية بمجموعة من التحديات والعوائق، التي قد تحول بينها وبين تحقيق الأهداف، وفي الواقع تشترك أغلب المؤسسات في التحديات نفسها، التي يمكننا أن نلخصها في النقاط التالية:
- النزاعات العائلية وتأثيرها على العمل:
تعد الخلافات بين أفراد العائلة من أكبر المعوقات التي تواجه الشركات العائلية، ويمكن أن تتسبب القرارات العاطفية أو الغيرة بين أفراد الأسرة في عرقلة العمل، ولحل هذه المشكلة، يجب وضع سياسات داخلية واضحة للحوكمة، مع آليات لحل النزاعات بعيدًا عن العواطف، كما يمكن أن تشمل هذه الآليات تعيين وسيط محايد لحل النزاعات، أو إنشاء لجنة عائلية تهدف إلى مناقشة القضايا الحساسة بعيدًا عن بيئة العمل، بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تساعد ورش العمل والتدريبات على تعزيز التواصل الفعال بين أفراد العائلة.
- تحديات الابتكار والتكيف مع التغيرات:
غالبًا ما تعاني الشركات العائلية من مقاومة التغيير، خاصة إذا كانت تُدار بعقلية تقليدية، لذا، يجب تشجيع ثقافة الابتكار، وإتاحة الفرصة للأجيال الشابة للمشاركة في تطوير الأعمال، بما يتماشى مع العصر الحديث، حيث يمكن أن تشمل استراتيجيات الابتكار الاستثمار في البحث والتطوير، أو التعاون مع شركات ناشئة، أو تبني تقنيات جديدة، كما يمكن أن تشمل إنشاء برامج تدريبية، لتعزيز مهارات الابتكار لدى الموظفين.
- جذب الكفاءات من خارج العائلة:
في بعض الأحيان، قد لا يكون جميع أفراد العائلة مؤهلين لقيادة العمل، وهنا، تأتي أهمية توظيف مديرين محترفين من خارج الأسرة، لضمان استدامة العمل وفق معايير مهنية، وليس فقط بناءً على الروابط العائلية، ويمكن أن يشمل ذلك إنشاء برامج تدريبية لتطوير مهارات أفراد العائلة، أو تعيين مديرين تنفيذيين محترفين للإشراف على العمليات اليومية، كما يمكن أن تشمل الاستعانة بمستشارين خارجيين لتقديم المشورة في مجالات محددة.
نماذج عالمية ناجحة للأعمال العائلية وأسرار نجاحها

يعجُّ العالم بالتجارب العائلية الفريدة من نوعها، والتي يمكن من خلالها إمعان النظر في كيفية تجاوزها للتحديات، وتحولها إلى علامات تجارية عالمية يضرب بها المثل، ولعل أبرز هذه النماذج:
- سامسونج (كوريا الجنوبية): من متجر صغير إلى عملاق تكنولوجي
بدأت شركة "سامسونج" عام 1938 كمتجر صغير لبيع الأرز والسكر، أسسه "لي بيونج شول"، ومع مرور العقود، توسعت الشركة في مجالات عدة، لتصبح اليوم واحدة من أكبر الشركات في العالم في مجال التكنولوجيا والإلكترونيات، حيث تقود سوق الهواتف الذكية والتقنيات المتطورة.
- وول مارت (الولايات المتحدة): نموذج في الإدارة العائلية والنمو المستدام
تأسست شركة "وول مارت" عام 1962 على يد "سام والتون"، وهي اليوم أكبر سلسلة متاجر للبيع بالتجزئة في العالم، ولعل ما يميز "وول مارت" هو استمرار العائلة في إدارتها، مع الالتزام بسياسات واضحة تسهم في استدامة النجاح ونمو الشركة عالميًا.
بي أم دبليو (ألمانيا): استمرارية النجاح عبر الأجيال
تعدُّ BMW واحدة من أنجح الشركات العائلية في مجال صناعة السيارات، وعلى الرغم من التحولات الكبيرة في صناعة السيارات، استطاعت العائلة المؤسسة الحفاظ على إدارة قوية ومتوازنة، ما ساعد الشركة في الحفاظ على مكانتها الرائدة عالميًّا.
هيرميس (فرنسا): الحفاظ على الهوية العائلية في سوق عالمي تنافسي
شركة "هيرميس"، التي تأسست عام 1837، متخصصة في صناعة المنتجات الفاخرة، مثل الحقائب والأزياء الراقية، وقد تميزت الشركة بقدرتها على التكيف مع العصر الحديث، دون فقدان هويتها العائلية، ما جعلها من أقوى العلامات التجارية في قطاع المنتجات الفاخرة.
اقرأ أيضًا: لتجنب مخاطر عالم الأعمال.. كيف تستثمر في نفسك كقائد للفريق؟
الدروس المستفادة والتوصيات

تؤكد هذه النماذج العالمية أن نجاح العمل العائلي ليس مستحيلاً، لكنه يحتاج إلى رؤية واضحة وإدارة فعالة، ومن أبرز الدروس المستفادة هنا:
- أهمية وضع رؤية واستراتيجية طويلة المدى:
تعد الرؤية الواضحة والاستراتيجية المدروسة حجر الأساس لنجاح الأعمال العائلية، حيث تساعد في تحديد الاتجاه العام، وتوحيد جهود أفراد العائلة نحو أهداف مشتركة، ومن دون رؤية واضحة، قد تفقد الشركة تركيزها، ما يؤدي إلى اتخاذ قرارات غير متناسقة وضعف النمو، كما يجب أن تكون الاستراتيجية طويلة المدى مرنة، تأخذ في الاعتبار تغيرات السوق والتطورات التكنولوجية، لضمان قدرة الشركة على التكيف مع المستجدات.
يعد إشراك جميع الأجيال في وضع الرؤية والاستراتيجية أمرًا ضروريًا، لضمان توافقها مع قيم العائلة وأهدافها المستقبلية، ويمكن أن يشمل ذلك خططًا للتوسع في أسواق جديدة، أو تطوير منتجات مبتكرة، أو تعزيز الاستدامة في العمليات التجارية، والتخطيط الجيد يساهم في تقليل الخلافات العائلية، ويضمن استمرار الشركة عبر الأجيال، مع تحقيق التوازن بين الحفاظ على هوية العائلة ومواكبة متطلبات العصر.
- الفصل بين العلاقات العائلية والإدارة المهنية:
يواجه عديد من الأعمال العائلية تحديًا كبيرًا، يتمثل في الخلط بين العلاقات الشخصية والقرارات الإدارية، مما قد يؤدي إلى اتخاذ قرارات عاطفية تؤثر سلبًا على نجاح الشركة، وقد تؤدي هذه المشكلة إلى نزاعات داخل العائلة، أو منح مناصب قيادية لمن لا يمتلكون الكفاءة اللازمة، مما يضعف أداء الشركة ويؤثر على سمعتها في السوق.
ولتجنب هذه المشكلات، يجب وضع سياسات واضحة تنظم العلاقة بين أفراد العائلة داخل الشركة، وتحدد الأدوار والمسؤوليات بناءً على الكفاءة والخبرة، وليس القرابة، ويمكن أيضًا إنشاء مجلس استشاري يضم خبراء خارجيين للمساعدة في اتخاذ القرارات المهمة بموضوعية، كما أن تعيين مديرين محترفين من خارج العائلة للإشراف على العمليات اليومية يسهم في تعزيز الاحترافية وتقليل الضغوط العائلية، ما يضمن توازنًا صحيًا بين الحياة العائلية والعمل.
- التخطيط لاستمرارية العمل بين الأجيال:
يعد نقل القيادة بين الأجيال أحد أكثر التحديات التي تواجه الشركات العائلية، حيث تشير الدراسات إلى أن نسبة صغيرة فقط من هذه الشركات تنجح في الانتقال إلى الجيل الثاني والثالث، وهذا الفشل غالبًا ما يكون نتيجة غياب التخطيط المسبق، وعدم إعداد الأجيال القادمة لتحمل المسؤولية، مما يؤدي إلى صراعات داخلية قد تهدد استقرار الشركة.
ولضمان انتقال سلس للقيادة، يجب تحديد القادة المستقبليين مبكرًا وتدريبهم بشكل مستمر على مهارات الإدارة واتخاذ القرار، ويمكن أيضًا إنشاء هيكل قانوني يحدد كيفية توزيع الملكية والإدارة بطريقة عادلة وفعالة، بالإضافة إلى ذلك، من المهم تعزيز ثقافة القيادة والمسؤولية بين أفراد العائلة منذ سن مبكرة، وتعريفهم بتاريخ الشركة وقيمها، لضمان استمراريتها بروح متجددة تجمع بين الخبرة التقليدية والابتكار الحديث.
- الانفتاح على التغيير والابتكار:
تواجه الشركات العائلية خطر الركود إذا لم تكن مستعدة لمواكبة التغيرات السريعة في السوق، وفي كثير من الأحيان، يؤدي التمسك بالأساليب التقليدية إلى فقدان القدرة على المنافسة أمام الشركات الأكثر مرونة وابتكارًا، لذلك، يعد الانفتاح على التغيير واعتماد استراتيجيات الابتكار أمرًا ضروريًا للحفاظ على النمو والاستدامة.
ويمكن تحقيق ذلك من خلال الاستثمار في البحث والتطوير، وتبني التقنيات الحديثة التي تحسن كفاءة العمليات والإنتاج، كما أن التعاون مع الشركات الناشئة، أو دمج الأفكار الجديدة التي يقدمها الجيل الشاب، يمكن أن يعزز من قدرة الشركة على التكيف مع متطلبات السوق، والابتكار هنا لا يعني التخلي عن هوية الشركة العائلية، بل يعني إيجاد طرق جديدة لتطوير الأعمال، مع الحفاظ على القيم الأساسية التي تميزها، ومن خلال تحقيق هذا التوازن، يمكن للشركات العائلية ضمان استمراريتها، وقدرتها على المنافسة في بيئة أعمال متغيرة.
لذا، إذا كنت تدير عملاً عائليًا، فاحرص على تطبيق هذه المبادئ لضمان نجاحك واستدامة مشروعك، فالمستقبل بين يديك، والقرارات التي تتخذها اليوم ستحدد مصير مشروعك العائلي للأجيال القادمة.