هل يتفوق الذكاء الاصطناعي على المديرين التنفيذيين في اتخاذ القرارات الاستراتيجية؟
في المشهد التقني الحالي، المتطور بسرعة كبيرة، يبرز الذكاء الاصطناعي كقوة تحويلية لا يمكن إيقافها، ففي كل مجال من المجالات نجده وقد تمكن من تغيير كيفية مقاربات المؤسسات لأعمالها.
وحتى الأمس القريب كنا ما نزال نعتقد بأن الحدود مرسومة، والخطوط التي لم يتمكن هذه الذكاء من تجاوزها لا تزال صامدة، حتى اكتشفنا أن هذا الاعتقاد أبعد ما يكون عن الواقع.
فلم يعد الحديث حول الذكاء الاصطناعي يتعلق بالمهام الروتينية أو السهلة، بل بتنا في مرحلة الاعتماد عليه في صنع القرارات الإستراتيجية، التي قد تؤثر على حياة عشرات الآلاف أو حتى الملايين من البشر، بعد أن تفوقت الآلة في عدة مجالات، ليجد المديرون التنفيذيون أنفسهم أمام مقارنة غير عادلة، وبشكل خاص خلال عملية صنع القرار، ليطرح هذا السؤال المنطقي نفسه:
هل سيصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا من القيادة العليا؟
قد تبدو فكرة استبدال أي شخص في مركز إداري متقدم بالذكاء الاصطناعي ضربًا من الجنون، خاصةً أن هذا الذكاء لا يزال حتى الآن يرتكب العديد من الأخطاء في أداء المهام البسيطة، ناهيك بالهلوسة، أي توليد معلومات غير صحيحة أو مضللة، وطبعًا عدم قدرته على "التركيز" على إتمام المهام إذ تتضاعف الأخطاء كلما طالت مدة المهمة.
وهذه الصفات ليست بالتأكيد صفات مدير تنفيذي، مهمته القيادة والموازنة بين أصحاب المصالح المختلفين، وتحليل الاتجاهات والتغييرات، والتعامل مع الأزمات في الاسواق، واتخاذ قرارات استراتيجية، وهذا ما يدفعنا للتساؤل عن السبب الذي يجعل الشركات تصر على تحميله "مسؤوليات" إضافية رغم كل الشوائب!
السبب في الواقع يكمن في الدقة، وفي قدرته على إيجاد الحلول المبدعة، وهذه القناعة رُسخت بالنتائج الباهرة التي حققها في مجالات الفيزياء الحيوية وفي عالم البرمجيات، وهذا ما جعل البعض يعتبرون أن فكرة تولي الـAI لدور الرئيس التنفيذي لا تبدو جنونية رغم كل شيء.
الذكاء الاصطناعي بين التجارب والواقع
هناك بيانات تجريبية قليلة جداً حول أداء الذكاء الإصطناعي كرئيس تنفيذي في العالم الحقيقي، مقابل وفرة معلومات في بيئات تجريبية تحاكي الواقع، وفي هذه التجارب تفوق الذكاء الاصطناعي التوليدي على المديرين التنفيذين البشر في المهام الاستراتيجية التي تعتمد على البيانات.
التجربة التي أجريت العام الجاري بمشاركة 344 شخصاً ونموذج "جي بي تي 04"، كانت عبارة من محاكاة رقمية للتحديات التي يواجهها المديرون التنفيذيون في قطاع صناعة السيارات الأمريكية.
فبعد إكمال البشر لمهامهم تولى "جي بي تي" الدفة، وتمت مقارنة الأداء في مواقف مختلف بينه وبين 4 مديرين تنفيذيين، 2 منهم من الطلاب الجامعيين المتفوقين في اختصاص إدارة الاعمال، و2 من كبار المديرين التنفيذيين في شركات معروفة.
وكانت النتيجة تفوقه مرة تلو الأخرى عليهم في تصميم المنتجات، والاستجابة لإشارات الأسواق، كما حقق الأهداف الربحية أسرع منهم، ورغم كل هذه النجاحات طُرد من قبل المجالس الإدارية الافتراضية أسرع من أي من المشاركين البشر!
والسبب هو فشله في الاستجابة للمتغيرات المفاجئة، وعدم قدرته على التعامل مع الصدمات كانهيار الأسواق بسيناريو مشابه لكوفيد.
باختصار، الذكاء الاصطناعي تفوق على البشر في الكفاءة التشغيلية وتحليل البيانات، ولكنه ولعدم امتلاكه الحدس للتعامل مع المفاجآت، فشل في كل موقف كان يتطلب التكيف واعادة التقييم واتخاذ قرارات جديدة.
ولكن، والأمور هنا ستأخذ منحنى مثيرًا، فالمديرون التنفيذيون أيضًا تمت إقالتهم بشكل مبكر، والسبب كان اعتمادهم نفس مقاربة "جي بي تي"، وهي التركيز على النمو السريع والخطط قصيرة الأمد لزيادة الربح.
بينما الطلاب تبنوا استراتيجيات طويلة الأمد، تجنبوا من خلالها الارتباط بعقود صارمة، وقللوا نسبة المخاطرة بالمخزون، ما منحنهم المرونة اللازمة للتأقلم مع المتغيرات.
فكل من المديرين التنفيذين وجي بي تي قاما بارتكاب الخطأ نفسه، وهو الثقة المفرطة بنظام يكافئ المرونة والتفكير الطويل المدى بقدر ما يكافئ الاستراتيجية العدائية وتحقيق الأرباح السريعة، فكان القرار الربح السريع والمخاطرة التي أثبتت فشلها في الصمود بوجه الأزمات.
الـAI أساسي في استراتيجيات الشركات
إن كنا سنتحدث بواقعية، فإن تجاهل الذكاء الاصطناعي لم يعد ممكناً، فالتجربة أعلاه أثبتت أنه حتى باستخدام النماذج غير المبرمجة والمنضبطة بشكل كلي، يمكن تحقيق نتائج باهرة وتقديم أساليب فريدة ومبتكرة، كما يمكن لهذه النماذج إنتاج قرارات استراتيجية حين يطلب منها القيام بذلك بشكل صحيح.
والجهة التي يمكنها الطلب بشكل صحيح هي المدير التنفيذي، ولكن قبل البدء بذلك يجب تعزيز قدرات الذكاء الاصطناعي لتمكينه من القيام بمهامه بشكل أكثر فاعلية.
اقرأ أيضًا: القيادة في عصر الذكاء الاصطناعي.. ما يجب عليك معرفته كقائد
ومن العوامل الحاسمة لنجاح الـAI توافر البيانات عالية الجودة، التي تمكنه من اتخاذ القرارات الاستراتيجية التي ستعود بالفائدة على الشركة، فعديد من الشركات لا تنتج ما يكفي من البيانات من حيث السرعة والحجم والتنوع، ما يعني أن القرارات ستبنى على معطيات ناقصة، ومن ثم فإن بناء بنية تحتية قوية أساسي قبل إدخال الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى قاعة مجلس الإدارة.
أما المكاسب التي يحققها الذكاء الإصطناعي فتأتي أيضاً مع مجموعة من المخاطر، تماماً كالبشر، وفي كل الحالات يجب إخضاع هذه الآلات للرقابة مثلما يخضع البشر، فالكفاءة العالية لا تعني المخاطرة وعدم المراقبة أو الإشراف، وهذا ما يقودنا إلى معضلة ربما ستواجهها الشركات في هذه المسألة تحديدًا.
فلا يمكن مساءلة الذكاء الاصطناعي بالطريقة نفسها التي يتم فيها تحميل الرئيس التنفيذي البشري مسؤولية قراراته، فحذف برنامج الذكاء -مثلاً- لن يؤدي إلى التخلص من الضرر الناجم عن القرارات الخاطئة التي اتخذها، فمن يتحمل المسؤولية هنا؟
المستقبل الهجين!
استخدام الرؤساء التنفيذيين للذكاء الاصطناعي ليكون "شريكًا" لم يعد مفهوماً خيالياً، بل ضرورة استراتيجية في القيادة، ففي هذا العالم الذي ما ينفك يزداد تعقيداً لناحية الاعتماد على البيانات، فإن الـAI يوفر قدرة لا مثيل لها في إدارة الكميات الهائلة من المعلومات التي تنتجها الشركات يومياً.
ومن خلال دمج الذكاء كأداة لاتخاذ القرارت، بالاستناد إلى البيانات، يمكن للرؤساء التنفيذيين التركيز على المهام التي تتطلب الحدس والذكاء العاطفي والتأقلم.
فالشراكة بين الآلة والبشر على رأس الهرم الوظيفي ستؤدي إلى حسم القرارات بسرعة، وزيادة الكفاءة التشغيلية والابتكار، وإدارة المخاطر الاستراتيجية، وسرعة ودقة في التنفيذ، والتحسن بشكل مستمر، ولكن كيف؟
- تعزيز اتخاذ القرار: يتفوق الذكاء الاصطناعي على البشر في معالجة كميات هائلة من البيانات بسرعة ودقة، ومن ثم يمكن للمدير الإستفادة من قدرته في تصفية البيانات، وتحديد الأنماط، وإنشاء نماذج تنبؤية، تتوقع النتائج بناء على الإتجاهات السابقة لتوجيه قراراته.
- زيادة الكفاءة التشغيلية والتركيز على الإبتكار: يمكن للـAI تولي المهام الروتينية التي تستهلك الكثير من الوقت، مثل: تقارير الأداء وإدارة المخزون، ما يسمح للرؤساء التنفيذيين بالتركيز على الابتكار والاستراتيجية والقيادة، وعلى سبيل المثال في شركة "أمازون" يقوم الذكاء الاصطناعي بإدارة المهام التشغيلية، مثل أتمتة المخازن، وتحسين سلسلة التوريد، ما يمكن الرئيس التنفيذي من التركيز على استراتيجيات النمو المستقبلية.
- إدارة المخاطر الاستراتيجية: قدرة الذكاء الاصطناعي على إنشاء نماذج للسيناريوهات المختلفة، واختبار استراتيجيات متعددة ذات قيمة تُعد ميزة يحتاج إليها المدير التنفيذي بشدة، خصوصًا الذين يتعاملون مع إدارة المخاطر. مثلاً يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحاكي تأثير الأحداث العالمية مثل التراجعات الاقتصادية أو اضطرابات سلسلة التوريد، ووضع تصورات لها، ليقوم بمراجعتها الرئيس التنفيذي مع وضع استراتيجيات أكثر مرونة، مبنية على سيناريوهات مختلفة، ما يضمن قدرة الشركة على التكيف مع التغيرات المفاجئة.
- السرعة والدقة في التنفيذ: في الصناعات التي تتطور بوتيرة سريعة جداً مثل التكنولوجيا أو قطاع السلع الاستهلاكية، فإن الفارق بين الشركات المتفوقة وتلك التي تحاول اللحاق بالركب، هو القدرة على اتخاذ القرارات بسرعة. والذكاء الاصطناعي -من خلال تحليل البيانات- يمكنه تقديم سيناريوهات تسرع عملية حسم القرارات، فبدلاً من إضاعة الوقت بجمع البيانات أو انتظار التقارير، يحصل المدير التنفيذي على معلومات جاهزة للاستخدام، ما يمكنه من تنفيذ استراتيجية الشركة بشكل أسرع.
- التحسن والتطور بشكل مستمر: عندما يستخدم المدير التنفيذي الذكاء الاصطناعي كشريك، فهو لا يقوم بتبسيط عملية اتخاذ القرارات فحسب، بل يشجع ثقافة التحسن المستمر داخل المؤسسة، ويتم ذلك من خلال محاكاة الذكاء لأي تغييرات جديدة، ما يسمح للمدير باختبارها قبل تنفيذها.
- ضمان اتخاذ قرارات أخلاقية: الآلة تحسم القرارات بالاستناد إلى الأرقام، بعيداً عن التأثيرات الأخلاقية والاجتماعية، والمدير التنفيذي البشري سيقوم باعتماد المسارات التي تضع بالحسبان تأثير هذا القرار أو ذاك على الموظفين أو المجتمع، وفي المحصلة المفتاح الأساسي للاستفادة من الذكاء الاصطناعي يكمن في فهم إمكاناته وحدوده، خاصة في المجالات التي ما يزال فيها حسم القرارات وفق الحدس والخبرة من الأمور الأساسية.