لامركزية شفافة.. تقنية البلوكشين ثورة في عالم أمن البيانات
سمع معظمنا عن العملات الرقمية وتقنية "البلوكشين Blockchain"، وعلى عكس ما قد يعتقده البعض، فهي تقنية ثورية لا تقتصر فائدتها على مجرد تداول العملات المشفرة مثل "البيتكوين" و"الإيثيريوم"، حيث تقدم طفرة واضحة في كيفية حماية المعلومات وأمان البيانات عبر الصناعات والقطاعات المختلفة، وذلك بسبب اللامركزية والشفافية، وغيرها من المصطلحات التي سنركز عليها في السطور التالية.
البلوكشين.. الثورة القادمة في حماية المعلومات
لم تعد كلمة "البلوكشين"، أو تقنية سلسلة الكتل، مجرد مصطلح رنان، وإنما أداة ثورية تُغير مفهومنا عن أمان البيانات عبر الصناعات المختلفة، فصحيحٌ أن اسمها دائمًا ما يرتبط بالعملات المشفرة، إلا أن إمكاناتها تمتد إلى ما هو أبعد من العملات الرقمية بكثير.
وهي تقنية لا مركزية بالأساس، أي أنها ليست حِكرًا على جهةٍ مركزية أو كيانٍ واحد، وتُعرف بأنها دفتر إسناد موزع Distributed ledger، يُسجل المعاملات بأمان عبر العديد من الأنظمة والحواسيب، كما يُسهل من عملية تتبع الأصول.
ويُمكن أن تكون الأصول هنا ملموسةً، مثل: المنزل أو السيارة أو الأرض.. إلخ، أو غير ملموسة مثل: الملكية الفكرية وبراءات الاختراع وحقوق الطبع والنشر والعلامات التجارية.. إلخ، كذلك يُمكن تتبع وتداول أي شيء ذو قيمة تقريبًا على شبكة "البلوكشين"، ما يقلل من المخاطر ويخفض التكاليف بالنسبة لكل الأطراف.
كيف تعزز تقنية البلوكشين أمان البيانات في العالم الرقمي؟
تتميز تقنية "البلوكشين" بثلاثة أشياء رئيسة، أولها اللامركزية التي تحدثنا عنها، والشفافية حيث تكون جميع المعاملات مرئية للمشاركين، ما يُعزز الثقة ويُمَكن المساءلة، وأخيرًا وليس آخرًا ثبات المعاملات، بحيث لا يمكن تغييرها أو حذفها، ما يضمن سلامة البيانات ودقتها، وهكذا تُعزز تقنية "البلوكشين" أمان البيانات في العالم الرقمي، ولكن إذا أردنا أن نُلخص الأمر في نقاط واضحة فسيكون كالآتي:
- السجلات الثابتة: المعاملات التي تُسجل على "البلوكشين" تكون دائمةً، ولا يمكن التلاعب بها، ما يضمن ثبات وأمان البيانات، لأنه بمجرد كتابتها، تكون غير قابلة للتغيير أو الحذف، ما يحميها من العمليات غير المشروعة.
- التشفير: تستخدم تقنية "البلوكشين" نوعًا متقدمًا من التشفير لتأمين البيانات وحمايتها بطبقةٍ إضافية، بحيث لا يستطيع أي شخص الوصول إليها سوى المصرح لهم.
- العقود الذكية: تمتلك "البلوكشين" ما يُسمى بالعقود الذكية، وهي عقودٌ تُنفَّذ تلقائيًا فور استيفاء شروط معينة، بحيث تلغي نظام الوساطة، فإذا أردت أن تشتري سيارةً على سبيل المثال، يتم نقل ملكيتها إليك مباشرةً -على البلوكشين- عند دفع مبلغ مُتفق عليه، ودون الحاجة إلى تدخل أي شخص.
- آليات الإجماع: أو الـ"Consensus Mechanisms"، وهي بروتوكولات تتطلب اتفاق جميع المعنيين على صحة المعاملات، بحيث تقل احتمالية حدوث المعاملات الاحتيالية، إذ يتعين على "الهاكرز" أن يخترقوا معظم الشبكة، وهذا شيء صعب للغاية.
تأثير تقنية البلوكشين على أمان البيانات
لكي نعرف تأثير هذه التقنية على أمان البيانات، علينا أن نتناول أمثلة وتطبيقات في أكثر من مجال وقطاع، مثل:
1. القطاع الصحي:
تضمن تقنية "البلوكشين" أن تكون السجلات الطبية دقيقة وغير قابلة للتغيير، فضلًا عن إتاحتها للأشخاص المُصرح لهم فقط، ما يقلل من الاحتيال واختراق البيانات، ومن الأمثلة على الشركات أو القطاعات الصحية التي تستخدم هذه التقنية شركة "Medicalchain" المُصنعة للتقنيات الطبية في لندن.
2. القطاع المصرفي:
توفر تقنية "البلوكشين" وسيلة آمنة وشفافة لتسجيل المعاملات المالية، وهذا يُقلل أيضًا من فرص الاحتيالات، ويُحسن من نزاهة البيانات المالية، ومن الشركات التي تستفيد من تقنية سلسلة الكتل لتسهيل المعاملات المالية الآمنة نجد شركتي Ripple وCircle.
اقرأ أيضًا: هل الاستثمار في العملات المشفرة مرض نفسي؟
3. إدارة سلسلة الإمداد:
تستفيد شركة IBM وغيرها من الشركات من تقنية "البلوكشين" في تتبع سلاسل الإمداد، والتأكد من أصالة المنتجات؛ الشيء الذي يقلل من خطر التزوير.
4. القطاع الحكومي والانتخابات:
يمكن استخدام تقنية "البلوكشين" في تصميم أنظمة تصويت مُحصنة ضد محاولات التلاعب، مما يضمن نزاهة وشفافية الانتخابات، ومن الشركات الرائدة في هذا الأمر شركة "Voatz"، حيث تستخدم تقنيات رائدة تُسهل من عمليات التصويت من أي مكانٍ في العالم، بشكل يضمن الأمان الرقمي ويعزز الثقة.
5. العقارات:
تؤمّن تقنية سلسلة الكتل سجلات الممتلكات، ما يقلل من فرص الاحتيال ويسهل عملية نقل ملكية العقارات، وتستخدم شركات مثل "Propy" و"Ubiquity" تقنية "البلوكشين" لتسهيل المعاملات العقارية الآمنة والشفافة.
كيف يحسن البلوكشين من أمان المعاملات الرقمية؟
اتفقنا على أن "البلوكشين" توفر ملاذًا آمنًا للمعاملات عبر الإنترنت، حيث تُسجلها على شبكة لا مركزية، يصعب على المخترقين أو المحتالين التلاعب بها، فضلاً عن صعوبة الوصول إليها، كما قلنا إن ما يُوجد على "البلوكشين" من معاملات وبيانات يظل موجودًا دون تغيير، وكل معلومة جديدة تُضاف إلى هذه السلسلة، تُطبق عليها نفس سياسات الحماية والأمان.
بالإضافة إلى توفير منصة آمنة للمعاملات، كما تأتي تقنية "البلوكشين" بمميزات عديدة مثل الشفافية والمساءلة، حيث يمكن لكل مستخدمٍ معنيّ أن يتتبع تاريخ المعاملات بالكامل، بما في ذلك وقت المعاملة والأطراف المعنيين، وهذا يُسهل من اكتشاف الأنشطة الاحتيالية بالطبع، والتي يصعب حدوثها أساسًا.
جانبٌ آخر مهم من تقنية سلسلة الكتل هو تسهيلاتها الكثيرة، خاصةً فيما يتعلق بالعقود الذكية، والعقد الذكي هو برنامجٌ أو كود برمجي ينفذ تلقائيًّا فور استيفاء شروط معينة من العقد، ما يسمح بأتمتة المعاملات، ويقلل من الحاجة إلى الوسطاء ومن الأخطاء البشرية.
ولا تقتصر استخدامات "البلوكشين" على المعاملات المالية فحسب، بل يمكن استخدامها في أنواع أخرى مختلفة، مثل تبادل البيانات الشخصية، وإدارة الأصول الرقمية، على سبيل المثال، يمكن استخدام "البلوكشين" لإنشاء منصة آمنة لامركزية لتخزين البيانات الشخصية، مثل السجلات الطبية، وهذا يتيح للأفراد التحكم في بياناتهم ومعالجتها بشكلٍ آمن.
المنصات الأشهر في عالم البلوكشين
تُعتبر منصتا أو عملتا "البيتكوين" و"الإيثيريوم" الأشهر في عالم "البلوكشين"؛ أما "البيتكوين" فتعد أول وأشهر عملة مشفرة، حيث أُنشِئت عام 2009 بواسطة شخص أو مجموعة من الأشخاص المجهولين -حتى يومنا هذا- تحت الاسم المستعار "ساتوشي ناكاموتو"، وتستخدم سلسلة "بلوكشين عامة" لتسجيل المعاملات، كما تتيح إجراءها بين الافراد مباشرةً دون وسيط.
على الجانب الآخر، تُعد "الإيثيريوم" ثاني أكبر منصات "البلوكشين" شهرةً، وقد أُطلقت في عام 2015 بواسطة المبرمج الروسي الكندي "فيتاليك بوتيرين"، وهي أيضًا منصة "بلوكشين" عامة، غير أنها تختلف عن "البيتكوين" في دعمها للعقود الذكية والتطبيقات اللامركزية أو الـ decentralized applications (DApps).
وتتيح منصة "الإيثيريوم" للمطورين إنشاء ونشر تطبيقاتهم اللامركزية الخاصة، كما تحتوي على لغة برمجة مدمجة أكثر تعقيدًا وتنوعًا، أقله من حيث إنشاء العقود الذكية.
وهناك منصات بلوكشين شهيرة أخرى، مثل: Binance Smart Chain (BSC)، وSolana (SOL)، وPolkadot، وTether، وCardano، وDogcoin، وLitecoin، وRipple (XRP)، وغيرها.
البلوكشين.. تحديات واعتبارات
على الرغم من كل الإمكانات الكبيرة التي تتمتع بها تقنية "البلوكشين"، فإنها تواجه بعض المشكلات والتحديات، مثل التوسع، والذي يُعتبر أحد التحديات الرئيسة في الوقت الراهن، وذلك لأنه كلما زاد حجم "البلوكشين"، زادت الحاجة إلى قوة حوسبة أكبر لمعالجة المعاملات والتحقق منها، ونظرًا لأن "البلوكشين" -مثل أي تقنية أخرى- من المتوقع لها أن تتوسع، فمن المهم أن نواجه هذا التحدي بأسرع ما يمكن، خاصةً في ظل العصر المتسارع الذي نشهده.
مشكلة أخرى تواجه تقنية سلسلة الكتل نجدها في الأطر القانونية والتنظيمية، فعلى الرغم من فوائد اللامركزية وغياب الوساطة، فإن هذا الأمر يُصعّب من الامتثال للقوانين، ويثير القلق بشأن الخصوصية وحماية البيانات، لذا، من أجل تحقيق الاستفادة الكاملة من البلوكشين، يتوجب علينا أن نوازن بين الابتكار والتنظيم.
أما التحدي الثالث الكبير الذي يقف حائلًا أمام تطور تقنية سلسلة الكتل، وعلى عكس المتوقع، فهو الأمان؛ صحيحٌ أن البلوكشين آمن، ولكنه ليس مُحصنًا تمامًا ضد المخاطر الأمنية، لا سيما عندما يطلب مجموعة من الأشخاص الاستحواذ على أكثر من 50% من القوة الحوسبية على شبكة "البلوكشين".
أيضًا قد تُشكل العقود الذكية ثغرة كبيرة في سلسلة "البلوكشين"، وذلك إذا تمت برمجتها بطريقةٍ خاطئة، أو سُرِقت مفاتيحها بطريقة ما كالهندسة الاجتماعية.
اقرأ أيضًا: لماذا يجب عليك الاهتمام بالعملات المشفرة؟،
وأخيرًا وليس آخرًا، وعلى ذكر القوة الحوسبية، فتقنية "البلوكشين" تحتاج قوة حوسبية كبيرة، تستهلك قدرًا مهولاً من الطاقة، خاصة في حالة الأنظمة المكلفة بحل المسائل والمشكلات المعقدة.
أنواع البلوكشين
قلنا إن "البيتكوين" و"الإيثيريوم" يُعتبران من منصات "البلوكشين" العامة، وهذا أحد أنواع هذه التقنية:
- البلوكشين العام: يساعد في القضاء على بعض المشكلات والتحديات، مثل العديد من الثغرات الأمنية والسلطة المركزية، حيث يتم توزيع البيانات عبر شبكة أقران peer-to-peer بدلًا من تخزينها في مكانٍ واحد، كذلك يتم استخدام خوارزمية إجماع للتحقق من صحة المعلومات.
- البلوكشين الخاص: النوع الثاني من أنواع "البلوكشين"، ويعمل على شبكةٍ مغلقة، عادةً ما تكون مناسبة للأعمال التجارية الخاصة أو للمنظمات، وعلى عكس النوع الأول، يتم إدارة "البلوكشين الخاص" بواسطة سلطة واحدة فقط.
- شبكات البلوكشين المسموح بها: أو الـ"Permissioned Blockchain Networks"، وتُعرف أيضًا باسم سلاسل الكتل الهجينة، وهي عبارة عن شبكة من "البلوكشين" تسمح بالوصول لمجموعةٍ محدودة من الأفراد المصرح لهم، وعادةً ما تستخدم المنظمات هذا النوع من الشبكات للحصول على جميع المزايا الممكنة، كما أنها توفر هيكلةً أفضل عند إدخال المزيد من الأفراد إلى الشبكة أو المعاملة.
- بلوكشين الكونسورتيوم: يُشبه النوع السابق من حيث احتوائه على شبكات هجينة، وعلى الرغم من أن هذا النوع قد يكون أكثر تعقيدًا من حيث الإعداد في البداية، فإنه سيقدم أمانًا أفضل بمجرد تشغيله والاعتماد عليه.
- البلوكشين الهجين: في شبكات "البلوكشين" الهجينة، والمكونة من الشبكات العامة والخاصة، يكون التوازن بين الخصوصية والشفافية أفضل ما يمكن، ولهذا السبب يستخدمه الكثيرون، على سبيل المثال، يمكن لعدة أطراف في سلسلة الإمداد أن يصلوا لمعلومات معينة دون أخرى حساسة، تُترك دون أن تُمَس.
- البلوكشين الجانبي: أو الـ"Sidechains"، وهي مجموعة من سلاسل الكتل المختلفة، التي تعمل بالتوازي مع "بلوكشين" رئيس، ما يتيح وظائف ومميزات إضافية، ويزيد من إمكانيات التوسع، وتسمح السلاسل الجانبية للمطورين تجربة ميزات وتطبيقات جديدة دون التأثير على "البلوكشين" الرئيس، على سبيل المثال، يمكن استخدام سلاسل الكتل الجانبية لإنشاء تطبيقات لامركزية، وتنفيذ آليات إجماع محددة، مختلفة عن تلك الموجودة على "البلوكشين" الرئيس.
- البلوكشين ذو الطبقات: أو الـ" Blockchain Layers"، وهو نظام يقوم على بناء عدة طبقات من شبكات "البلوكشين" فوق بعضها، بحيث تمتلك كل طبقة قواعدها وآلياتها الخاصة، وفي الوقت نفسه تتفاعل مع الطبقات الأخرى، ويضمن ذلك القدرة على زيادة التوسع، حيث يمكن معالجة المعاملات بشكلٍ متوازٍ عبر طبقات مختلفة.
كانت هذه المعلومات أهم ما تحتاج إلى معرفته بخصوص تقنية "البلوكشين"، ودورها في إعادة تعريف أمان البيانات والعمليات الرقمية عبر العديد من القطاعات، لتشكل حلاً فعالاً لتقليل المخاطر، وفي الوقت نفسه زيادة الثقة.