رغم العلم بحتمية الفشل.. لماذا يقع البعض في فخ "التكلفة الغارقة"؟
على مستوى الاقتصاد وإدارة الأعمال، وحتى في الحياة اليومية، يتمادى بعض الأفراد في أخطائهم ويرفضون تصديق الحقيقة القائلة، بأن هناك أشياء لا يمكن تعويضها بأي شكل، وأن بعض الفرص لا تؤتي ثمارها لأسباب مختلفة، ويُجسد هذا الأمر مصطلحاً يُعرف بـ"التكاليف الغارقة"، فما المقصود به؟ وما الفرق بينه وبين "التكاليف التفاضلية"؟ ولماذا يقع صناع القرار في فخ القرارات الخاطئة أحياناً، رغم أنهم يعرفون أنها "خاطئة"؟
ما معنى مصطلح "التكلفة الغارقة"؟
يصف مصطلح "التكلفة الغارقة- sunk cost" التكاليف التي أُنفقت على شيء ما بالفعل ولا يمكن استرجاعها بالمجازفة والاستثمار، وهناك أمثلة عديدة، مالية وغير مالية، لشرح هذا المصطلح، منها:
لنفترض أنك تريد شراء هاتفٍ من متجر يبعد عن منزلك بمسافة 200 ميل، ولأن الوقت متأخر والمتجر سيغلق قريباً، تتواصل مع موظفيه لتُخبرهم بأنك في الطريق بالسيارة، لقد قطعت 180 ميلًا وأوشكت على الوصول، ولكن لسوء الحظ تصلك رسالة من صاحب المتجر أنه قد أغلق لظروفٍ طارئة.
في هذا السيناريو فإن الـ180 ميلاً التي "أنفقتها" لا يمكن أن تُعوَّض مهما فعلت، وبغض النظر عن القرار الذي ستتخذه، إلّا إذا كان استكمال الرحلة لمعرفتك بأن هناك متجراً آخر يبيع الهاتف نفسه بالسعر نفسه وعلى بعد 20 ميلاً.
مثالٌ آخر لشرح مصطلح "التكلفة الغارقة"، وهذه المرة مثالٌ ماليّ: أنت صاحب شركة وقررت المخاطرة والاستثمار في منتجٍ ما ثمنه 100 ألف دولار، وبعد فترة، تُدرك أن هذا المنتج لا يستحق المبلغ، وأنه لم يحقق ولو جزءاً بسيطاً مما توقعته، بل لم يُحقق أي فائدة حقيقية. في هذه الحالة تُعتبر الـ 100 ألف دولار تكلفة غارقة، لأنك لا تستطيع العودة بالزمن والعدول عن قرار الاستثمار، والأهم؛ لأن الاستثمار الإضافي في هذا المنتج لن يعوضك.
طريقة حساب التكاليف الغارقة
تُحسب التكلفة الغارقة ببساطة عن طريق جمع كل المبالغ المُنفقة غير القابلة للاسترداد، على سبيل المثال: تُريد شركة "س" أن تبدأ مشروعاً جديداً فتشتري كل المعدات اللازمة بتكلف 50 ألف دولار، ولكنها تكتشف لاحقاً أنها استهدفت السوق الخطأ وتعرض المعدات للبيع، لسوء الحظ، تبيع الشركة بعض المعدات بتكلفة 5000 دولار فقط، ولا تستطيع الاستفادة ببقية المعدات أو بيعها بأي شكل، وهنا تُصبح التكلفة الغارقة = 50 ألف دولار – 5 آلاف دولار= 45 ألف دولار.
اقرأ أيضًا: "الإدارة الكلية".. كيف يثق المدير بفريقه ليحقق النجاح؟
الفرق بين التكلفة الغارقة والتفاضلية
يخلط البعض بين مصطلح التكلفة الغارقة والتكلفة التفاضلية أو الـ "Differential Cost"، التي تُشير إلى المُفاضلة بين تكلفة خيارين بديلين -أو أكثر- كما يتبين من الاسم، وتحدث عندما تواجه الشركة عدداً من الخيارات المتشابهة، التي لا يمكن ترجيح كفة إحداها على الأخرى بسهولة، وعندما يواجه المديرون التنفيذيون أو أي شخص هذه المُعضلة، يجب عليهم مقارنة الإيجابيات بالسلبيات للذهاب مع الاختيار الأكثر جدوى.
مثال على التكلفة التفاضلية: تعتمد شركة "ص" للاتصالات على موقعها الإلكتروني والجرائد الصحفية للترويج لخدماتها، والأمور تسير على ما يُرام، ويقترح المدير التسويقي الجديد أن تُركز الشركة أكثر على الإعلانات التليفزيونية ووسائل التواصل الاجتماعي للوصول إلى قاعدةٍ أكبر من الجماهير.
الوضع الحالي يُكلف الشركة 400 دولار للترويج الصحفي و100 دولار إضافية لصيانة الموقع شهرياً والإعلان عليه، أما الخطة الجديدة، فستتطلب 1000 دولار شهرياً للترويج التليفزيوني، بالإضافة إلى 1000 دولار مثلها للترويج على وسائل التواصل الاجتماعي، أي أن الخطة التسويقية الجديدة للشركة ستحتاج إلى 2000 دولار، وهو 4 أضعاف تكلفة الخطة التسويقية القديمة التي لم تكن تحتاج سوى 500 دولار، ما يعني أن التكلفة التفاضلية في هذه الحالة هي 1500 دولار (2000 - 500 دولار).
في هذه الحالة يجب على شركة "ص" للاتصالات أن تُفكر ملياً فيما إذا كانت الخطة التسويقية الجديدة تستحق، علاوة على ما إذا كانت ستستمر بالإعلان على موقعها الإلكتروني والجرائد الصحفية؛ مع طرح أسئلة مثل:
- هل سنتمكن من الوصول إلى قاعدة جماهيرية أكبر فعلاً؟
- هل سنعوّض الـ 1500 دولار بعائدٍ يستحق؟
- هل ستزيد المبيعات بشكلٍ عام بعد تبني الخطة الجديدة؟
كل هذه أسئلة يجب على الشركة أن تطرحها على نفسها قبل الاستقرار على ما ستتخذه من إجراءات وما سترجحه من اختيارات.
الآثار الاقتصادية للتكاليف الغارقة
هناك ما يُسمى بمغالطة التكلفة الغارقة The Sunk Cost Fallacy، وتحدث عندما تتمادى الشركات أو حتى الأفراد في قراراتهم الخاطئة، بحجةٍ أنهم بدأوها أو قطعوا فيها شوطاً، آملين بأن يتغير الوضع!
على سبيل المثال، قد يختار طالبٌ في مقتبل مرحلته الجامعية تخصص المحاسبة، ولكنه يكتشف لاحقاً أن هذا التخصص لا يناسبه، وأنه كان يجب أن يدرس علم الحشرات، وبدلاً من أن يفعل ذلك، يقرر أن يستمر في تخصص المحاسبة، متحججاً بالفصول الدراسية التي قضاها وبالشوط الطويل الذي قطعه، وهذا ليس قراراً صائباً.
الشيء نفسه يحدث للشركات عندما تقرر الإدارة التعنت والاستمرار في قراراتها الخاطئة، رُغم أنهم يعرفون أنها خاطئة، مُبررين الأمر بنفس الحجج، على أمل أن يتغير شيء في المستقبل، وهو ما قد يحدث، إلا أن فرص حدوثه ضئيلة.
وإذا فكرت كل شركة بالطريقة نفسها ووقعت في فخ أو مغالطة التكلفة الغارقة، فقد تحدث عواقب اقتصادية وخيمة، ولكن الخبر السعيد أن الوعي بهذه المغالطة وباحتمالية الوقوع فيها، قد يجعل الأفراد والشركات يحرصون على اتخاذ قرارات حكيمة.
والحقيقة أن الكثيرين من صناع القرار يعلمون بمغالطة التكلفة الغارقة، ورغم ذلك يقعون فيها، فلماذا؟
حسب الخبراء فإن هناك 4 أسباب رئيسة وراء ذلك، وهي:
1. منطقة الراحة: يُفضل البعض تجنب الخسارة على تحقيق المكاسب، وهذا يرجع بشكل أساسي لخوفهم من المخاطرة، ولذلك تجدهم غير مستعدين لوقف ما بدأوه، حتى لو تضمن ذلك تكاليف غارقة.
2. التعنت وعدم المرونة: قد يلتزم البعض بخطة ما لمجرد أنها الخطة الأساسية، ما يؤدي في النهاية إلى الاستمرار في المشاريع المُخيبة للآمال، ومواجهة عواقب وخيمة في المستقبل.
3. الخوف من إهدار موارد الشركة: على الرغم من عدم فائدة هذه الموارد، فإن بعض الشركات تخاف من إهدارها لسببٍ أو لآخر.
4. العاطفة: أخيراً، يشعر البعض بارتباطٍ عاطفيّ أو مسؤولية كبيرة تجاه مشروع معين، وفي حالات كثيرة يكون هذا الارتباط العاطفي في غير محله فيكلّف الشركة الكثير.
اقرأ أيضًا: لإنجاز الأعمال وتعزيز الصحة: أفضل روتين صباحي للرجل
ما أهمية التكاليف الغارقة في اتخاذ القرارات الاقتصادية؟
من أهم الأشياء الواجب معرفتها عن التكاليف الغارقة، أنها لا يجب أن تؤثر بأي حال على قراراتنا الاقتصادية، فوقوع التكلفة الغارقة هو أمرٌ لا رجعة فيه، ومن ثم فإننا يجب أن نتخذ قراراتنا استناداً إلى المكاسب والخسائر المستقبلية المحتملة، وليس على ماضٍ حدث ولا يمكن تغييره.
وتُظهر الأبحاث التجريبية، أن الشركات غالباً ما تفشل في تجاهل التكاليف الغارقة، وتقع في مغالطتها التي تحدثنا عنها، وهذا يترتب عليه حدوث تشوهات كبيرة في قراراتهم الاستثمارية، ومن ثم يتأثر الاقتصاد ككل.
كيفية تجنب مغالطة التكاليف الغارقة؟
لحسن الحظ، هناك بعض النصائح التي يمكنك اتباعها لتجنب الوقوع في مغالطة التكاليف الغارقة بسهولة، ومنها:
1. تأطير المشكلة: بمعنى أن تضع يديك على المشكلة بالضبط، وتجعلها النقطة المركزية التي تدور حولها النقاشات؛ يجب أن تتحرك جميع الإجراءات نحو هذه المشكلة دون غيرها، لتجنب التشتت وتخصيص كل الطاقات اللازمة.
2. فكر بعقلك وثق بالمعطيات: عندما يستثمر الناس بعاطفتهم، فإنهم يفقدون الرؤية لما يحدث بالفعل، فضع جميع المعطيات والبيانات أمامك، وقارن بينها مع الفريق المختص، ثم اتخذ القرار بعقلك لا بعاطفتك.
3. لا تتمادى في المخاطرة: يعتقد الكثير من رواد الأعمال، لا سيما الجدد، أن الاستثمار يعني المخاطرة، وربما يطمعون في تحقيق أكبر العوائد فيخاطرون دون تفكير أو دون دراسةٍ جيدة للسوق، ومن ثم يحدث ما رأيناه في الأمثلة المطروحة: يشترون أو يستثمرون في أشياء لا تُشبع طموحاتهم.
ختاماً، يجب ألا يكون مصطلح "التكلفة الغارقة" حكراً على الشركات أو المؤسسات، فهو ينطبق حتى على الأفراد الذين لا علاقة لهم بعالم الأعمال، لا من قريبٍ ولا من بعيد، فتذكرة المباراة التي اشتريتها ولم تستفد بها هي تكلفة غارقة، وغرفة الفندق التي حجزتها ولم تُقم بها هي تكلفة غارقة، والدورة التدريبية التي دفعت رسومها مقدماً وتغيّبت عنها هي تكلفة غارقة، والأمثلة كثيرة.