"التنافر المعرفي".. عندما تخدع نفسك بنفسك!
تعلم ضرر التدخين ولا تتوقّف عنه، زاعماً أنّه يُخفِّف توترك، أو ربّما ترغب في أن تكون بصحةٍ جيدة، ومع ذلك لا تمارس الرياضة أو تلتزم نظاماً غذائياً صحياً!
أليس هناك تناقض صارخ بين معتقداتك وسلوكك؟
لنفترض أنّك بصدد اتخاذ قرارٍ وأمامك عديد من الخيارات، فاتخذت خياراً لا يتناسب مع معتقداتك، ثُم لم تتراجع عنه، بل شرعت في تبرير أسباب اتخاذه وأنّه كان أفضل خيار، تُرى ما سرّ هذا التنافر المعرفي؟ ولماذا نقع فيه كثيراً؟!
ما هو التنافر المعرفي؟
يمكن وصف التنافر العاطفي بأنه، انزعاج عقلي نتيجة تبنّي مُعتقدَين أو قِيم متضاربة مع بعضها البعض؛ إذ يسعى الناس إلى أن تكون مواقفهم وتصوراتهم متسقة مع بعضها رغم تناقضها، ما قد يُسبِّب لهم بالنهاية انزعاجاً أو مشاعر غير سارّة.
فعندما تتخذ باستمرار خيارات تتعارض مع معتقداتك، فقد تُعانِي الكثير من التوتر والتعاسة، ورغم ذلك فإن التنافر المعرفي ليس بالضرورة أن يكون شيئاً سيئاً.
ولعل المثال التالي يوضح الفكرة أكثر، فإذا كان شخص ما يرغب في حماية الآخرين، ويعتقد أن جائحة كوفيد-19 حقيقية، فقد يرتدي قناعاً أو كمامة في الأماكن العامة، وهو ما يعني أنّه متوافق مع أفكاره، أمّا إذا كان يعتقد أنّ الجائحة حقيقية ولكنّه يرفض ارتداء قناع أو كمامة، فهنا وقع في تناقض واضح، وهنا حدث التنافر المعرفي.
فالتنافر بين فكرتين متناقضتين، أو بين فكرة وسلوك، يخلق انزعاجاً واضحاً، بل إنّه يكون أشدّ عندما يمتلك المرء العديد من الآراء المتناقضة، وهي آراء مهمة بالنسبة له في الوقت نفسه، رغم تناقضها!
أمثلة من الحياة اليومية على التنافر المعرفي
قد يُعانِي أي إنسان تنافراً معرفياً يزعجه في حياته اليومية، ووهذه بعض الأمثلة التي تُوضِّح ذلك:
- تريد أن تكون بصحة جيدة، لكنك لا تمارس الرياضة بانتظام ولا تتناول نظاماً غذائياً صحياً، فتشعر بالذنب نتيجة ذلك، لأنّك تعلم أهمية الرياضة والنظام الغذائي الصحي!
- أنت تعلم أن التدخين يضر صحك، لكنك تفعل ذلك على أي حال، وتُبرِّر هذا الفعل بأنّك شديد التوتر، وبأن التدخين يساعدك على تخفيف توترك، رغم علمك بأضراره!
- ترغب في زيادة مدخراتك، لكنّك تنفق أموالاً إضافية بمجرد حصولك عليها، فتندم على هذا القرار لاحقاً، عندما تواجه نفقات غير متوقعة ليس لديك ما يكفي من المال لتغطيتها.
- لديك قائمة مهام طويلة، لكنّك تقضي اليوم في مشاهدة برامجك المفضلة بدلًا من ذلك، وأنت لا تريد أن تعرف زوجتك بالأمر، لذا تحاول أن تجعل الأمر يبدو وكأنّك عملت بجدٍ طوال اليوم!
علامات التنافر المعرفي
يُعانِي جميع البشر تقريباً تنافراً معرفياً إلى حدٍ ما، ومع ذلك فليس من السهل التعرّف عليه، ولكن قد تدل بعض العلامات على وجوده، مثل:
- الشعور بعدم الارتياح قبل القيام بشيءٍ ما أو اتخاذ قرار.
- محاولة تبرير أو عقلنة قرار اتخذته.
- الشعور بالحرج أو الخجل من شيء قمت به ومحاولة إخفاء أفعالك عن الآخرين.
- الشعور بالذنب أو الندم على شيءٍ قمت به في الماضي.
- القيام بأشياء بسبب الضغط الاجتماعي، أو خوف فوات ذلك الشيء "FOMO"، حتى لو لم يكُن شيئًا تريد القيام به.
اقرأ أيضًا:"سيكولوجية المقتنيات الفاخرة": الأسباب وراء اختيارنا للرفاهية
الآليات الدفاعية النفسية مع التنافر المعرفي
يحاول جلّ الناس تجنّب أو حل التنافر المعرفي، لما يُسبِّبه من انزعاجٍ لهم، ما قد يدفعهم إلى تبنِّي آليات دفاع مُعيّنة عندما يتعيّن عليهم مواجهة ذلك التنافر، ومنها:
1. التجنُّب:
تجنّب أو تجاهل التنافر في داخلك، بما قد يجعل المرء يتجنّب الأشخاص أو المواقف التي تُذكِّرهم به، أو ربّما يُثنِي الناس عن الحديث عن ذلك الشيء الذي يُسبِّب التنافر، أو قد يميل المرء إلى تشتيت نفسه بأداء مهام إضافية.
2. نزع الشرعية:
يمكن أن نصفها أيضاً بزعزعة الأدلة على التنافر، فقد يُشوّه سُمعة شخص أو مجموعة أو موقفٍ حدث سلّط الضوء على ذلك التنافر، بأن الشخص مثلاً أنّه غير جدير بالثقة أو متحيّز أو ما إلى ذلك.
3. تخفيف التأثير:
يتضمّن الحد من الشعور بعدم الراحة المصاحب للتنافر المعرفي، من خلال التقليل من أهميته، وهذا قد يكون من خلال ادعاء الشخص بأنّ هذا السلوك نادر أو حدث لمرة واحدة، أو من خلال تقديم حجج عقلانية لإقناع نفسه أو الآخرين بأنّ هذا السلوك جيد.
وبدلًا من هذه الآليات الدفاعية السابقة، قد يتخذ بعض الناس خطوات لحل التنافر؛ إمّا بتغيير السلوك، أو تغيير المعتقدات، حتى تكون متسقة مع بعضها.
لماذا نقع في التنافر المعرفي؟
هناك عدد لا يُحصَى من المواقف التي قد تخلف صراعات داخلية، تُؤدِّي إلى التنافر المعرفي، وقد تجعلنا نسقط فريسة لفخ التنافر المعرفي، ومنها مثلاً:
1. الطاعة القسرية:
قد تجد نفسك منخرطاً في سلوكيات تتعارض مع معتقداتك، بسبب التوقّعات الخارجية في العمل أو المدرسة أو فيما يتعلّق بالوضع الاجتماعي، وهذا قد يتضمّن مواكبة شيءٍ ما بسبب ضغط الأقران أو الأصدقاء أو المجتمع من حولك، أو القيام بشيءٍ ما في العمل، لتجنُّب التعرض للمساءلة، وأن تعارض معتقداتك.
اقرأ أيضًا:هل تؤثر الثروة في صفات الأثرياء أم أنّ صفاتهم جلبت ثرواتهم؟
2. تعلم معلومات جديدة:
قد يُؤدِّي تعلّم معلومات جديدة أحياناً إلى الشعور بالتنافر المعرفي، فإذا انخرطت في سلوكٍ، علمت لاحقاً أنّه ضار، فقد يؤدي ذلك إلى شعورٍ بعدم الراحة، ويتعامل الناس أحياناً مع هذا من خلال تبرير سلوكياتهم، أو إيجاد طرق لتشويه أو تجاهُل المعلومات الجديدة التي تتعارض مع معتقداتهم.
3. اتخاذ القرارات:
يتخذ الناس القرارات؛ كبيرةً كانت أو صغيرة، على أساسٍ يومي، فعندما نُواجِه بعض الخيارات لاتخاذ قرار، غالباً ما تتملّكنا مشاعر التنافر، وبمجرد اتخاذ القرار؛ قد يحتاج المرء إلى إيجاد طريقة لتقليل مشاعر الانزعاج لديه، وهذا قد يتحقّق من خلال تبرير سبب كون اختيارنا هو الخيار الأفضل (ربّما لا يكون كذلك)، حتى نتمكّن من تصديق أنّنا اتخذنا القرار الصحيح.
كيف يؤثر التنافر المعرفي في مشاعرك؟
يجعل التنافر المعرفي الإنسان غير مرتاح، خاصةً إذا كان التفاوت واضحاً بين معتقداته وسلوكياته، وبشكل خاص تلك التي تتعلّق بذاته، فقد تتعارض سلوكياته مع معتقداته عن العالم من حوله، وحتى مع معتقداته عن نفسه، وهذا التنافر المعرفي يظهر أثره في مشاعر المرء من خلال شعوره بأي مما يلي:
- القلق.
- الندم.
- الإحراج.
- الحزن.
- الخجل.
- التوتر.
بل قد يؤثر التنافر المعرفي في شعور الإنسان تجاه نفسه، ما قد يُؤدِّي إلى تدنّي احترام وتقدير الذات.
سلوكيات ناجمة عن التنافر المعرفي
قد يحاول المرء التعامل مع الشعور بعدم الارتياح والتنافر داخله من خلال:
- تبرير الصراع بين المعتقدات أو السلوكيات، من خلال إلقاء اللوم على الآخرين أو العوامل الخارجية.
- إخفاء المعتقدات أو السلوكيات عن الآخرين، لتقليل مشاعر الخجل والذنب، بسبب تناقض السلوكيات مع المعتقدات.
- البحث فقط عن المعلومات التي تؤكد المعتقدات الحالية، وهو ما يُعرَف بـ"التحيّز التأكيدي"، ما يؤثر في قدرة المرء على التفكير النقدي.
اقرأ أيضًا:اضطراب هوس السرقة.. أسبابه وكيفية علاجه
مخاطر التنافر المعرفي
قد يتطرّف بعض الناس في تبرير أو عقلنة السلوكيات المتناقضة مع معتقداتهم، فينخرطون في سلوكيات غير صحية أو يتخذون قرارات سيئة، وقد أشار عالم النفس "ليون فيستنجر"، الذي وصف ظاهرة التنافر المعرفي أول مرة، إلى مثال على ذلك بالأشخاص المستمرين في التدخين رغم معرفتهم بأضراره، فقد حاولوا إزالة التنافر من خلال:
- الاعتقاد بأنّ التدخين أعلى قيمة من الصحة.
- إقناع أنفسهم بأنّ الآثار السلبية للتدخين مُبالَغ فيها، أو الاعتقاد بأنّهم لا يستطيعون تجنّب كل خطرٍ، وبأن التدخين من تلك المخاطر.
- محاولة إقناع أنفسهم بانّهم إذا توقفوا عن التدخين، فسيزداد وزنهم، ما يمثل خطراً صحياً أيضاً، ومن ثم فلماذا التغيير إذن؟
وبتلك الطرق قلّل المدخّن التنافر المعرفي لديه، واستمرّ في التدخين والسلوك غير الصحي!
إنّ التغلب على التنافر المعرفي قد يكون بتغيير المعتقدات أو السلوكيات، أو بمعنى آخر إصلاحها، أو الانخراط في أمور لتقليل الانزعاج المصاحب لتناقض أفعال المرء مع سلوكه، مثل البحث عن معلومات موافقة لمعتقداته أو تقليل أهمية ذلك التناقض أو تبرير أو عقلنة التناقض، وإلا استمر مسلسل هذا التناقض إلى ما لا نهاية.