الحاسة السادسة.. هل يستحق الحَدْس أن نعتمد عليه؟
عادةً ما يُنظَر للحَدْس Intuition، أو الحاسة السادسة كما يُحب أن يسميها البعض، بشيء من الحذر، وهذا عين العقل وما يجب أن يحدث في الكثير من الحالات التي نحتار فيها بين أمرين أو أكثر، لهذا لا عجب من سماعنا لعبارات مثل "فكر مرةً أخرى"، أو "لا تتعجل" وغيرهما من العبارات عندما نكون بحاجة إلى اتخاذ قرار ما.
يتجسد هذا الأمر في مقولة عالم الرياضيات والأسطورة الشطرنجية إيمانويل لاسكر: "إذا وجدت نقلةً جيدة، ابحث عن نقلةٍ أفضل"، والتي على الرغم من طابعها "الشطرنجي"، فإنها تُلائم مختلف المواقف الحياتية، وتدعو إلى التأني والتريث في اتخاذ القرارات.
ولكن مهلاً! ماذا لو كان الوثوق بالحدس هو الخيار الصحيح؟ وكيف ننمي حدسنا؟ وما هو الحدس أساسًا؟
ما هو الحدس؟
يُعرف بذلك الشعور الغريزي الذي يُرجّح كفة خيارٍ ما على آخر دون سببٍ منطقي؛ أنت فقط تشعر براحة تجاه شيء معين فتفعله دون أن تُفكر مليًا، وهنا تكمن مشكلة الحدس في بعض الأحيان.
ولكن من أين يأتي هذا الشعور؟
لم يحسم العلم المسألة بعد وهناك الكثير من التفسيرات التي تجتهد لفهم ماهية الحدس وكيف يحدث. أحد هذه التفسيرات هو ما يُشير إليه باحثون من جامعة "بومبيو فابرا"، وهي جامعة مرموقة في إسبانيا، إذ يقولون إن الأطفال الذين يُكملون 12 شهرًا يُكونون فكرة عن الاحتمالات وعن الأشياء التي يجب أن يُرجّحوا كفتها، ولاحظ أننا نتحدث عن أطفالٍ لم يمروا بأي تجارب من قبل، ما يشير إلى وجود غريزة فطرية لديهم "الحدس".
ويوضح الباحثون أن الأطفال بمثل هذا العمر المُبكر يمتلكون أيضًا مجموعة من الأدوات الإدراكية الكفيلة بتشكيل بعض الانحيازات، وهو ما يساعدهم على اتخاذ القرارات -بغض النظر عما إذا كانت صحيحة أم لا- وفهم العالم من حولهم.
وبشكلٍ عام، يقول العلماء في تفسير الحدس إن العقل غير الواعي "unconscious mind" يُفكر بشكل أسرع من العقل الواعي "conscious mind" عندما يكون مُخيرًا بين أمرين أو أكثر، ناهيك بأنه يستدعي خبرات وتجارب سابقة ويقارن بينها وبين ما يعترض تفكيره ليحاول اتخاذ القرار الصحيح بناءً على ذلك.
وبذلك يظل الحدس مفهومًا مائعًا لا تعريف محددًا له، ولهذا إن سألت أحدهم عن ماهيته فأغلب الظن أنه سيقول لك: "هو مجرد إحساس"، أو "أنا فقط أشعر أن هذا هو القرار الصحيح"، وما إلى ذلك من الأجوبة المشابهة.
هل يمكن الاعتماد على الحدس؟
اقرأ أيضًا: متى تُصدِّق الحاسة السادسة لديك؟
وفقًا لجوزيف ميكلز، وهو أستاذ علم النفس بجامعة ديبول DePaul University، فإن الحدس -باعتباره عملية عاطفية- قد يجعلك تتخذ قرارات أفضل وبخاصة في الحالات المعقدة التي تحتوي على تفاصيل كثيرة.
البحث الذي أجراه "ميكلز" رجّح كفة الاعتماد على الحدس في نوعية الحالات المذكورة عوضًا عن الاعتماد على العقل فقط، ووجد أن هذا الأمر يُجدي نفعًا مع كِبار السن تحديدًا كونهم أكثر خبرة من الشباب وقدراتهم المعرفية أفضل وأعمق، وهذا بالتبعية يعني أن أهمية الحدس تتناسب طرديًا مع التقدم في العمر.
وقد بحث الجيش الأمريكي -في إطار محاولاته المستمرة لإخراج الطاقة القصوى للبشر- في مسألة الحدس مرارًا وتكرارًا تحت العديد من المسميات؛ جوزيف كوهن مثلاً، وهو القائد والباحث بعلم النفس في مكتب الأبحاث البحرية، يصف ببراعة أهمية الحدس قائلاً إن السبب في ذلك يرجع لعدم وجود الوقت الكافي دائمًا لإعمال العقل في اتخاذ القرارات، فمن غير المنطقي أن يُعمِل الجندي عقله "أكثر من اللازم" وهناك عبوة ناسفة أسفل قدميه ستنفجر بعد ثوانٍ.
ما دفع الجيش الأمريكي إلى مواصلة البحث في أهمية الحدس كانت روايات الجنود العائدين من الحرب، والذين ادعوا أن الغريزة أنقذتهم كثيرًا وأنقذت الكثير من الأرواح عمومًا.
على الجانب الآخر، سنجد وجهة نظرٍ وأبحاثًا عديدة مُناهضة لفكرة الاعتماد على الحدس. صحيح أننا في بعض الحالات لا يكون أمامنا خيار سوى الاعتماد على غريزتنا مثلما أوضح جوزيف كوهن، ولكننا نتحدث عن الحالات الأخرى التي نمتلك فيها متسعًا من الوقت.
دانيال كانمان مثلاً، وهو المؤلف الشهير لكتاب التفكير السريع والبطيء "Thinking, Fast and Slow"، يحذر من الثقة غير المُبررة بالحدس، ومن الانحيازات المعرفية والسلوكية مثل ما يُعرَف بتأثير التأطير "Framing effect"، والذي يمكن تعريفه بأنه انحياز سلوكي للأشياء التي تُعرَض علينا بطريقة مٌنَمَّقة.
على سبيل المثال: إذا كنت في حيرةٍ بين أمرين، "أ" و"ب"، فإن عقلك اللاواعي أو حدسك قد يجعلك تميل لكفة الأمر "أ" لا لشيء سوى لأنه معروضٌ أمامك بشكلٍ أفضل، رُغم أن الفائدة تكمن في الخيار الآخر.. فكر في الأمر وكأنك تُفاضل بين مشروبٍ غازي وكوب من الماء أو قطعة من الجبن وشريحة من البيتزا؛ في أغلب الأحيان ينحاز الأشخاص للخيارات الضارة نظرًا لمظهرها أو مذاقها، إلخ.. رُغم أن الفائدة تكمن في تجنبها.
بالطبع لا تكون الأمور بهذه البساطة، فتأثير التأطير أعمق من ذلك ويستهدف العقل اللاواعي مباشرةً، لا سيما في مجال التسويق، لذلك انتبه!
كيف تُنمي حدسك؟
لأن الاعتماد على الحدس هو أمرٌ لا مفر منه في بعض الحالات، فدعونا نستعرض بعض النصائح لتنميته، ولكن أولاً، يجب أن نعرف أن الوعي هو سيد الحلول، لذلك في المرة القادمة التي سيتعين عليك فيها أن تختار بين "أ" أو "ب"، حاول أن تكون واعيًا بكل الحيثيات أولاً ثم اتبع النصائح التالية:
1. فكر مليًا
في القرارات التي اتخذتها مُتجاهلاً مشاعرك الغريزية وما ترتب على ذلك، وفكر أيضًا في الأوقات التي أنقذك فيها حدسك رُغم أن الأمر كان معقدًا.. ماذا كان شعورك حيال تلك المواقف؟ هل واجهت عواقب؟ وماذا تعلمت؟ والأهم من ذلك: لماذا اعتمدت على حدسك في مواقف بعينها دون أخرى؟
2. استفتِ قلبك.. دائمًا
وذلك في كل مرة تحتاج فيها إلى اتخاذ قرار؛ حوّل الأمر إلى عادة حتى تُدرب غريزتك، فعندما تكون أمام الخيارين "أ" و"ب"، جرب أن تُغمض عينيك وتختبر الشعور الذي سيأتيك بالتفكيرٍ في كلٍ منهما، قد تشعر أن أحدهما يصيبك بالتوتر بينما يجعلك الآخر مسترخيًا، وبالتبعية ستزيد فعالية حدسك في المستقبل، ولكن، عليك أن تتيقن بأن الأمر قد يستغرق بعض الوقت.
3. لا تستشر أحدًا.. مؤقتًا
الحدس لا يكون حدسًا إذا كان نابعًا من آراء الآخرين، أو مشوبًا بالعوامل الخارجية عمومًا.. اترك انحيازاتك -جميعنا منحازون بشكلٍ أو بآخر- جانبًا وحاول أن تترك العنان لقلبك وما تشعر به أنت تحديدًا "تذكر النصيحة السابقة تحديدًا".
ملحوظة: استشر الآخرين في الأمور الكبيرة، أو التي تحتمل أكثر من وجهة نظر، أما لو أردت أن تُدرب حدسك، فحاول أن تثق بمشاعرك قليلاً.. وتذكر، أنت أدرى شخصٍ بظروفك وما يواجهك من خيارات.
4. تأمل!
احظَ بالقليل من الوقت مع عقلك وأفكارك فقط، لقد أصبحنا مشتتين طوال الوقت بسبب الهواتف المحمولة والوتيرة المتسارعة لكل شيء. تريث، الحياةُ ماراثون وليست سباقًا؛ جرب التأمل "Meditation" وذلك الشعور بالملل عندما تتخلى عن هاتفك؛ ليس شرطًا أن تصطحب حيوانك الأليف عندما تذهب إلى السوبر ماركت أو محل البقالة، وليس من المفروض علينا أن نستمع إلى الموسيقى أو حتى "البودكاست" عند قيادة السيارة.. أحيانًا يحتاج العقل والقلب إلى لحظة من الصفاء حتى يعملا بأفضل شكلٍ ممكن ويشحذا الحاسة السادسة لديك.