رغم شِدّة الحزن.. لماذا يعجز بعض الناس عن البكاء؟
مع انشغالك في أفكارك، واستذكارك كثيرًا من الذكريات الحزينة، رُبّما ترغب في البكاء والتعبير عن تلك المشاعر المكبوتة بأي طريقة، وإذ تهمُّ الدموع بالهطول من عينيك، فلا تجدها جاوزت مُقلَة العين، فقد يعجز بعض الناس عن البكاء مهمّا بلغت همومهم وأحزانهم، لا لصلابتهم النفسية، وإنّما لأسبابٍ، مثل الخوف من الظهور بمظهر الضعف أو خشية وصمة العار التي تلحق الرجال خاصةً مع البكاء، أو غير ذلك من الأسباب، لكنّ حقيقة الأمر أنّ البكاء مهم وضروري للإنسان جسديًا ونفسيًا، وليس فقط للتعبير عن المشاعر.
أهمية البكاء للإنسان
البكاء هو الطريقة الطبيعية للتعبير عن مشاعر الحُزن، كما أنّه منفذ طبيعي لهرمونات التوتر، كما تحتوي الدموع على مادة "Leu-enkephalin"، وهي نوع من الإندورفينات، تُساعِد في تخفيف الألم وتحسين الحالة المزاجية، ما يُفسِّر شعور بعض الناس بالراحة بعد البكاء.
ولا بأس أيضًا من عدم البكاء، فمُعالَجة كل إنسانٍ لمشاعره تختلف عن الآخر، وحسب دراسةٍ أُجريت عام 2020، ركّزت على الناجيات من سرطان الثدي، ساعد العلاج بالبكاء على تحسين جودة الحياة عبر إحداث تغييرات إيجابية في المزاج.
وبصورةٍ عامّة تشمل أهمية البكاء للإنسان ما يلي:
- التواصل مع الآخرين، فالبكاء يُفصِح عن كثيرٍ من المشاعر النفسية غير المُعلَنة، مثل الحزن والفخر والسعادة.
- تنظيف العينين؛ إذ تُساعِد الدموع في طرد الغبار والعناصر الضارة في العين.
- تحسين المزاج، إذ يُعزِّز البكاء الحالة المزاجية في أوقات التوتر، أو المرور بضائقة نفسية.
- تخفيف الآلام، فالبكاء قد يُخفِّف الآلام الجسدية كما يُخفِّف الآلام العاطفية.
- تخفيف شِدّة المشاعر؛ إذ يُساعِد البكاء على تقليل التوتر وشِدّة المشاعر التي تمرّ بها؛ ما يُسهِم في استعادة التوازن النفسي من جديد.
لماذا يعجز بعض الناس عن البكاء؟
مع أهمية البكاء للإنسان، فإنّ بعض الناس يعجزون عن البكاء، وتظل الدموع حبيسة أعينهم لا تنطلق عبر مسارها الطبيعي، وقد يكون لعجز بعض الناس عن البكاء أسباب كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر:
1. تجارب الحياة الباكرة
وفقًا لبعض خبراء الصحة النفسية، فإنّ طبيعة علاقة الإنسان مع من يرعونه في طفولته تُمهِّد الطريق لأنواع مختلفة من الاستجابات العاطفية، حسب العلاقة وطريقة تعلّقه بهم، فمثلاً قد يظنّ بعض الناس أنّ البكاء طريقة غير صحية للتعبير عن المشاعر، كما في حالة التعلُّق التجنُّبي "Avoidant attachment"، إذ يتجاهل المُربّون حاجة أطفالهم العاطفية تمامًا.
وأشار دان أورباخ، المُعالِج النفسي الإكلينيكي ومستشار العلاقات في سيدني، أستراليا، إلى دور علم الأعصاب بين الأشخاص في تفسير دور الدماغ في التفاعل العاطفي، قائلًا: "الخلايا العصبية هي المرآة التي تنشط استجابةً للسلوكيات المرصودة، قد تُهيِّئ الشخص لقمع المشاعر، إذا كان مُحاطًا بأفرادٍ مُتحفِّظين عاطفيًا".
وقال أيضًا: "يُمكِن أن تُصبِح آليات التنظيم العاطفي للدماغ، خاصةً في قشرة الفص الجبهي مُفرطة النشاط، ما يقمع الاستجابات الطبيعية مثل البكاء"، وأضاف: "بالإضافة إلى ذلك يُمكِن أن يُؤدِّي الانفصال البيولوجي العصبي بين المشاعر والحالة الفسيولوجية، الناجم غالبًا عن الصدمة أو التوتر المزمن، إلى إعاقة القدرة على البكاء".
2. الخوف من وصمة العار
عندما تُقمَع المشاعر ولا يتمكّن الإنسان من التعبير عنها بسهولة، فذاك ما يُسمَّى بـ"الإمساك العاطفي" حسب توصيف الدكتورة كارولينا باتاكي، المُعالِجة الزوجية والأُسرية والمعالجة الجنسية المُعتمدة في جنوب فلوريدا، وهذا "الإمساك العاطفي" قد يكون له أسباب متنوعة، تشمل المعايير المجتمعية من بينها.
ففي بعض البيئات الاجتماعية والثقافات، يُنظَر إلى البكاء على أنّه ضعف وعار، ما يجعل الإنسان مُعرّضًا للتنمُّر أو السخرية من الآخرين، ولتجنُّب الظهور بذلك المظهر، قد يتبنّى بعض الناس مشاعر الهيمنة والغضب كآلية دفاع، وهذا الدرع العاطفي يُصعِّب تعبيرهم عن مشاعر ألين من هذه، مثل الحزن، ما يُفسِّر صعوبة البكاء.
3. القوالب النمطية للجنسَين
تشيع بعض الاعتقادات بشأن الرجال والنساء، من أبرزها الاعتقاد بأنّ الرجال لا ينبغي لهم البكاء أو الشعور بألمٍ عاطفي، وهذا بدوره يدفعهم إلى عدم البكاء وإن ألحّت نفوسهم بالبكاء بدلاً من كبت الحُزن بداخلهم، بينما يُشار إلى بكاء المرأة على أنّه مقبول تمامًا.
ومع نمو الرجال وهم مُحاصَرون بهذه الرسائل السلبية حول إظهار العاطفية، فرُبّما يصعب على كثيرٍ منهم البكاء مهما بلغ حُزنهم.
4. اضطرابات نفسية
قد تُؤدِّي بعض الاضطرابات النفسية إلى غياب المشاعر أو ضعفها، مثل الاكتئاب أو اضطراب ما بعد الصدمة، والاكتئاب تحديدًا قد يصحبه يأس وفقدان للشغف، كما قد يفقد بعض الناس لذّتهم بأي شيءٍ عمومًا، ويجدون صعوبةً في التعبير عن مشاعرهم، بما في ذلك البكاء.
5. مشكلات صحية
ربّما ليس بنفس الإنسان مشكلة، ونشأ نشأةً سويّة عاطفية، بما لا يُؤثِّر في قدرته على البكاء، ومع ذلك فثمّة بعض المشكلات الطبية التي قد تُؤثِّر في قدرة الجسم على إنتاج الدموع، مثل:
- التهاب القرنية والملتحمة الجاف: غالبًا ما يُشَار إلى هذه الحالة بـ "متلازمة جفاف العين"، وهي تحدث عندما تكون الأنسجة حول العين مُلتهبة وجافّة لدرجة يعجز معها الإنسان عن البكاء.
- متلازمة شوغرن: اضطراب مناعي يُسبِّب جفاف العين والفم، ما يُؤدِّي إلى صعوبة إنتاج الدموع.
- الحساسية: العيش في بيئة مُلوّثة أو تعرُّض العين لمُسبِّبات الحساسية، يجعل البكاء أكثر صعوبةً بلا شك.
- التقدُّم في العمر: تضعف القدرة على البكاء مع تقدُّم العمر، إذ ينخفض مُعدّل إنتاج الدموع.
- الأدوية: قد يُؤدِّي تناول بعض الأدوية إلى تأثُّر إنتاج الدموع أو ضعف الاستجابة العاطفية، مثل مضادات الاكتئاب، وأدوية الحساسية، ومُدرّات البول، ومزيلات الاحتقان، والعلاجات الهرمونية، وأدوية الذهان وشلل الرعاش.
هل عدم البكاء أمر سيئ؟
عدم القدرة على البكاء ليس بالأمر السيئ، إذ لا يشعر كثيرٌ من الناس بالحاجة إلى البكاء بينما هم قادرون على إظهار حُزنهم بطرقٍ أخرى، فلا تُوجَد طريقة صحيحة أو خاطئة في إظهار عاطفة الحُزن عمومًا.
كيف تبكي إذا واتتك رغبة في ذلك؟
من المهم التعامُل مع أي مشكلةٍ طبية قد تكون مُضعِفة للقدرة على إنتاج الدموع أو تُؤثِّر سلبًا على العين، وبعد استبعاد ذلك، يُمكِن اتّباع النصائح الآتية للحصول على فوائد البكاء لتخفيف الألم وتحسين المزاج:
- جِد مساحةً آمنة مُريحة لك؛ لإطلاق العنان لدموعك، مثل مكتبك الخاص أو سيارتك، فهذا سيمنحك الخصوصية التي تحتاج إليها للتعبير عن مشاعرك.
- تحويل الأفكار إلى مشاعر، فبدلاً من دفع الأفكار السلبية عن عقلك، اسمح لنفسك بالشعور بها، فكِّر في تفاصيل ما حدث، وأطلِق العنان لمشاعرك، ثُمّ ستجِد العين تنهمر بالدموع.
- تقبّل نفسك، فلا بأس بالبكاء سواء كُنتَ رجلاً أو امرأة، فالعاطفة واحدة، وليس هناك عارٌ يلحق أحدًا بالبكاء، بل قد يكون من الضروري في بعض الأحيان لتخفيف شِدّة الألم، وليس بالضرورة أيضًا أن يبكي الجميع.
- أحِط نفسك بمن يدعمونك وابتعد عن الأشخاص الذين لا تشعر بالراحة في البكاء أمامهم، فرُبّما تتفجّر الدموع من عينك فور فِعل ذلك.