كيف تتفادى الآثار السلبية لكبت مشاعرك في "العمل العاطفي"؟!
ترسم ابتسامة على وجهك، تأخذ نفسًا عميقًا، وتستخدم نبرة صوت هادئة، بينما تتعامل مع الجميع بإيجابية، إنها استراتيجية يومية عليك اعتمادها طوال عملك، بغض النظر عما تشعر به، فقمع المشاعر ممارسة شائعة في جميع أماكن العمل وعلى كل المستويات، وذلك لتقديم خدمة “مثالية” للعملاء، أو حتى لتفادي الدخول في أي نزاعات، أو لمجرد العمل وفق مبدأ ”فصل الحياة الشخصية عن المهنية”.
والحقيقة أن منع النفس من إظهار المشاعر الإنسانية الفعلية واعتماد "قناع" يتناسب مع المتطلبات المهنية للوظيفة يسمى "العمل العاطفي"، وكما تشي التسمية فإن هذه العملية تتطلب جهدًا عاطفيًّا كبيرًا، بيد أن المردود قد يكون سلبيًّا، يؤثر على صحتك النفسية، وربما ينعكس على صحتك الجسدية أيضًا.
المتطلبات الوظيفية وقمع المشاعر!
في الماضي لم تكن الشركات بشكل عام تضع أهمية كبرى على قمع المشاعر الشخصية لموظفيها، وذلك لأن نمط العمل آنذاك كان يتطلب الحد الأدنى من السيطرة على الانفعالات، ومع حدوث التبدلات الاقتصادية الكبيرة التي شهدها العالم، وهيمنت قطاعات الخدمات بشكل كبير، بات ضبط الانفعالات والعمل ضمن ضوابط معينة أولوية، ولذلك لا غرابة في أن مصطلح "العمل العاطفي" لم يظهر إلا مؤخرًا، حين قامت عالمة الاجتماع "آرلي راسل هوشيلد" بدراسة الثمن الذي ندفعه حين نضع الأقنعة المهنية يوميًّا.
حين ندقق في تعريف "العمل العاطفي” سنجد أنه يشمل أكثر من مجرد الأقنعة، ليطول عملية إدارة المشاعر لتلبية المتطلبات العاطفية للعمل، وهو ما قد يشمل المشاعر الإيجابية أيضًا وليس السلبية، حيث يُتوقع من كل موظف عدم تجاوز مستويات معينة من الإنفعالات، وهذه المستويات تختلف بإختلاف المنصب أو طبيعة العمل.
وحسب الخبراء فإن مبدأ "الخدمة مع إبتسامة" حولت العمل العاطفي إلى أحد المتطلبات الوظيفية، خصوصًا في المناصب التي تتعامل مع العملاء بشكل مباشر في أي قطاع كان، ورغم ذلك فإنها تطول الذين يعملون في الخطوط الخلفية أيضاً.. فكم مرة قمت بأداء عمل ما لا يدخل ضمن مهامك؟ أو قمت بمهام إضافية لمجرد إرضاء مدير أو زميل أو للحفاظ على راحة البال في مكان العمل؟
فأنت لا تشعر بالرضا لأنك قمت بذلك، ولكنك قمعت استياءك وإحباطك وأنجزت المهمة "بهدوء" لتمر العاصفة، بينما كان هذا الهدوء يستنزفك ويترك أثره الكبير على صحتك النفسية والعقلية وحتى الجسدية.
أنواع القمع العاطفي
تخيل أنك تتعامل مع عميل غاضب وغير راضٍ على الإطلاق، تدرك تماماً أن المطلوب منك هو توفير خدمة جيدة له وحل المشكلات التي واجهها، ومراعاة مشاعره دون وضع مشاعرك بالحسبان، إذ يُمنع عليك هنا الشعور بالإحباط أو الإهانة أو القلق، بل عليك المحافظة على نبرة هادئة وحسن الاستماع.
خلال هذه التجربة قد تعتمد مقاربتين، الأولى تتجسد بالتفاعل أو "التمثيل السطحي"، بحيث تتفاعل مع العميل الغاضب من خلال قول كل العبارات التي عليك قولها والقيام بكل الإشارات الجسدية التي عليك القيام بها من أجل تهدئته، في الوقت الذي تختبر فيه مشاعر داخلية هي النقيض، فقد تختبر مشاعر الغضب أو التوتر أو حتى الإهانة. ومع ذلك تلتزم وبشكل كامل بالقواعد التنظيمية للشركة من خلال التزييف الكلي لمشاعرك.
أما المقاربة الثانية فهي التفاعل الفعلي أو "التمثيل العميق"، بحيث تبذل جهدًا للتماهي مع العميل ووضع نفسك مكانه، واختبار مشاعر الإحباط التي يختبرها، ومن ثم تفاعلك معه سيكون مبنيىًّا على اختبارك مشاعر تتناسب مع الموقف، وإن كنت لا توافق على أسلوبه في التعبير.
وبشكل عام فإن الطريقتين مهذبتان وتلتزمان بمعايير الشركة، ورغم أن الطريقة الثانية قد تبدو منهكة، لكنها أهون الشرين، إذ إنها تحميك من الاحتراق النفسي والاستنزاف العاطفي، ولكن عليك أن تختار طريقتك بنفسك.
اقرأ أيضًا: الجيل Z في مجالات العمل.. كيف تستقطبهم وتستفيد من مهاراتهم المهنية؟
تكلفة العمل العاطفي!
قد يكون العمل العاطفي غير مرئي، ولكنه يظل شكلاً من أشكال العمل، فالتحكم بمشاعرك وتعديل تصرفاتك يتطلبان مجهوداً كبيراً، خصوصاً عندما تقوم بذلك لفترات طويلة كل يوم، فهنا سيكون الإرهاق والاستنزاف العاطفي هما النتيجة الطبيعية لإخضاع النفس لهذه الرقابة النفسية الصارمة يومياً.
إن التمثيل السطحي أو العميق لا يمكنهما تبديل مشاعرك بشكل كلي، فمشاعرك الفعلية موجودة مهما حاولت تبديلها أو قمعها، وهذا يؤدي إلى التنافر العاطفي والمعرفي، فعندما نظهر ما لا يتماشى مع مشاعرنا الحقيقية ترفع التناقضات من مستويات التوتر لدينا، وتدفعنا لاختبار "متلازمة المحتال"، ما سيؤثر على نظرتنا لأنفسنا، ولعل هذا ما يبرر زيادة معدلات الارهاق الجسدي والنفسي، وربطت العديد من الدراسات بين هذا الواقع وبين تراجع الأداء والإنتاجية، وبين التمثيل السطحي ومعدلات استقالة الموظفين.
بينما ثبت أن الضغوطات النفسية تؤثر على الصحة الجسدية، وتؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب، وحتى التأثير على مستويات المناعة لدينا.
هل هناك ما يمكن فعله؟
السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل هناك ما يمكنك فعله لتفادي تلك الضغوطات، خصوصاً أن العمل العاطفي بات من المتطلبات الوظيفية؟
في الواقع هناك مقاربات يمكنها أن تحد من تأثير العمل العاطفي، ولكن نجاحها يعتمد على الشخص نفسه، فالمقاربة الأولى تتمثل في اعتماد التمثيل العميق وليس السطحي، أي محاولة فهم مشاعر الآخرين والتماهي معها، وهو ما سيقلل من تداعيات العمل العاطفي، كما أن هناك أيضاً بعض الحدود التي يمكنك فرضها، لتمتلك الحد الأدنى من السيطرة على حياتك، ولكن هذه الحدود التي يمكنكم وضعها محدودة ويجب أن تكون ضمن الإطار العام لسياسة الشركة.
فيما يمكنك العثور على طرق صحية وفعالة للتنفيس عن مشاعرك المقموعة طوال اليوم، إذ إن كبت المشاعر طوال النهار ثم كبت الاحباط الناجم عن ذلك سيؤدي في نهاية المطاف إلى الانهيار، وقد تكون ممارسة التمارين الرياضية أو حتى مجرد الحديث مع شخص تثق به إحدى طرق العلاج.
في المقابل هناك خطوات يمكن للمؤسسات اتخاذها للحيلولة دون استنفاد طاقات الموظف، ومنها الحد من العمل الإضافي، والإكثار من فترات الراحة بانتظام، وإيجاد وسائل جيدة للتعامل مع النزاعات في مكان العمل في بدايتها، فيما يؤكد الخبراء أن بيئة الصدق والشفافية تنعكس إيجابًا على جميع الأطراف في مكان العمل، فالمؤسسات التي توفر لموظيفها مساحة للاسترخاء بعيداً عن الانضباط وقمع المشاعر المستمر، مع السماح لهم بالتعبير بين الحين والآخر عما يشعرون به في بيئة آمنة تساعد على تنفيس الاحتقان تتمتع بإنتاجية أفضل، ومواجهات أقل، بل تعزز القدرة على فصل المشاعر في أثناء العمل.