لماذا تتجه الشركات للتعامل مع الموظفين المستقلين؟
تواجه العديد من الشركات اليوم تحدياً كبيراً في إدارة المواهب، إذ لا تمتلك القدرات البشرية التي تحتاجها داخلياً للقيام بكل عملياتها الأساسية، والضرورية في عصرنا المتسارع، كما أنها غير قادرة بشكل متزايد على إقناع المهنيين ذوي المهارات العالية بالانضمام إلى العمل بدوام كامل، خاصة وأن الأشخاص الذين يتمتعون بالمهارات الأكثر طلباً في بعض المجالات أصبحوا يفضلون العمل كمستقلين، وهو ما يلقي بظلاله على مستقبل إدارة بعض أو كل الأعمال، في ظل تحديات العمل المختلط ومحاولات التوفيق والدمج بشكل كامل بين الموظفين بتصنيفاتهم المختلفة، لتشكيل فرق عمل داخلية فعالة، تتحقق أهداف المشروعات، وتحد من الحاجة للاعتماد على الموظفين المستقلين، فلماذا تتجه الشركات للتعامل مع هؤلاء؟ وكيف تبدو الصورة؟ وهل في الأفق من حلول؟
الشركات وتحدي التوظيف!
يواجه المديرون في كل الشركات تقريباً تحدياً كبيراً خلال عملية التوظيف، التي ربما تبدأ في الأساس بسبب افتقاد الشركة للموظف الذي يحتاجون إليه داخل الفريق، إذ يبحث المديرون عن موهبة بمواصفات خاصة تتناسب مع طموحات وأهداف مشروعات الشركة خلال المراحل الحالية أو القادمة، مثلما تتناسب مع حجم التنافس المتصاعد في الأسواق، وذلك بعد اكتشاف إدارة هذه الشركات أن مواهبهم الداخلية تفتقر إلى الخبرة العميقة والتجربة اللازمة لإنجاح خططها الطموحة.
ومع عدم قدرة فرق التوظيف فيها على جذب أو إقناع المهنيين ذوي المهارات العالية بالعمل بدوام كامل، يضطرون في النهاية إلى اللجوء إلى سوق العمل المستقل، للاستفادة مما يقدمه من حلول ناجعة، ومن ثم يتبنون نموذج العمل الحر، ربما كإجراء مؤقت، ولكنه فيما يبدو يحمل معه الكثير من الهواجس والقضايا التي يجب معالجتها على المدى المتوسط والطويل، لضمان اتزان واستقرار الشركة واستمرارها دون عقبات.
إذ يجب على الشركات هنا العمل باستمرار لجذب الأشخاص الذين يتمتعون بمجموعة معتبرة من المهارات والتقنيات الأكثر حداثة، وغالباً ما يكون هؤلاء من المستقلين والأكثر طلباً، وبالتالي فإنهم يميلون إلى القفز من مشروع إلى آخر، وربما يكون هذا هو السبب الرئيس الذي تدفع الشركات لهم من أجله، حيث تدفع مقابل الخبرة، وبالتأكيد فإن خبراتهم المترا كمة، ووجهات النظر الخارجية التي يجلبونها معهم لأي مشروع تشكل قيمة إضافية للعمل.
ولكن عقلية هؤلاء تبدو أكثر اختلافاً عن عقلية الموظفين التقليديين، حيث يفضلون إيجاد ترتيبات عمل أكثر مرونة، وخاصة بعد أن عالج التطور الكبير الذي شهدته أسواق العمل عن بعد العديد من الجوانب السلبية، التي كان ينطوي عليها فيما مضى، حيث كان العمل المستقل يمثل مصدر دخل غير موثوق يعتمد بشكل كبير على شبكات العلاقات الشخصية، ولكن هذه الصورة تغيرت اليوم، إذ يمكن لمنصات مطابقة الوظائف مثل Upwork و Fiverr أن تطابق على الفور بين المرشحين ذوي المهارات العالية واحتياجات أصحاب العمل.
وحسب دراسة موسعة أجرتها شركة "ماكينزي" في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2022، فقد اختار ما لا يقل عن 36% من القوى العاملة هناك العمل بعقود مؤقتة أو مستقلين، فيما ارتفعت النسبة لتصل إلى 38% في دراسة Upwork في ديسمبر 2023، بينما ينتشر هذا التحول على مستوى العالم.
وتتوقع مؤسسة "جارتنر" أن يشكل العمال المستقلون ما بين 35% إلى 40% من القوى العاملة العالمية بحلول عام 2025، ومن ثم سيكون دمج وإدارة ما يسمى بـالقوى العاملة المختلطة أحد التحديات الإدارية الرئيسية في السنوات المقبلة، شاءت الشركات ذلك أم لم تشاء، ومن ثم فإن عليها الاستعداد لهذا السيناريو القادم بثبات.
تحديات القوى العاملة المختلطة!
حسب الخبراء، فإن التعامل مع الموظفين المستقلين يبرز عددًا من القضايا والمخاوف لدى كل مدير أو مسؤول عن مشروع، خاصة إذا بذل جهدًا معقولاً في نشر ثقافة الشمول والتعاون والملكية والتعلم المستمر بين فريقه، فهنا سيسأل نفسه عددًا من الأسئلة المنطقية مثل:
- هل سيعيش المستقلون المهرة بهذه القيم ويساعدون في الحفاظ على هذه الثقافة؟
- ماذا عن نقل المهارات إلى الفريق؟
- كيف يمكن تجنب الاعتماد على المواهب الخارجية مع مرور الوقت؟
- كيف يمكن التأكد من عدم ضمور مهارات الموظفين الدائمين؟
- كيف يمكن إدارة الموظفين المستقلين دون سلطة رسمية عليهم؟
- هل يمكن إدارتهم بنفس أسلوب إدارة باقي أعضاء الفريق؟ أم يحتاجون إلى مجموعة مختلفة من المهارات في ظل غياب الاعتماد على النفوذ المتمثل في زيادة الأجور أو تعزيز الفرص الوظيفية؟
- هل سيظل باقي أعضاء الفريق الذين يعملون بدوام كامل ملتزمين وهم يشاهدون الاستقلالية الممنوحة للموظفين المستقلين، الذين يمكنهم بسهولة رفض العمل الإضافي أو الطلبات غير المريحة؟
بالإضافة إلى العديد من الأسئلة والمخاوف والتحديات التي تحتاج إلى أفكار مدروسة قبل التعامل معها، حيث تحتاج الشركات هنا إلى إيجاد نهج مختلف يدمج الخبراء المستقلين بشكل كامل في فريق متماسك، مثلما تحتاج كل شركة إلى وجود عدد من الموظفين الداخليين الذين يملكون معرفة خاصة بثقافتها، و هؤلاء يعملون بشكل أساسي في الموقع، مع بعض المرونة في العمل عن بعد، بالإضافة إلى الحلقة الوسطى من القوى العاملة المؤقتة، وأخيرًا المستقلين ذوي المهارات المهنية العالية الذين يؤدون عملًا محددًا مع الشركة، و ربما مع أكثر من عميل آخر في الوقت نفسه.
الأمر الذي دعَا بعض الشركات العملاقة إلى وضع قواعد ملزمة للجميع، وربط نتائج جميع موظفيها الدائمين والمؤقتين والمستقلين ببعضهم البعض كفريق واحد، بالإضافة إلى توفير تدريبات شاملة للمستقلين حول قيم الشركة وإجراءات العمل، بما في ذلك الاستخدام الأمثل لأدوات المشروع، لإدارة سير العمل وتسهيل التواصل، مع ممارسات صارمة للاحتفاظ بالمعرفة المؤسسية، بما يُضمن إحداث الانسجام وتقليل المخاوف إلى أدنى حد، في ظل غموض المشهد خاصة فيما يتعلق بالفترة الزمنية التي تحتاج الشركة خلالها الاستعانة بالمواهب المستقلة، التي ربما لا تنتمي سوى لمهنيتها.
ولعل أحد المخاوف الشائعة عند توظيف المستقلين هو أنه عند مغادرة بعضهم، سيأخذون معهم بعضًا من المهارات والمعرفة القيمة التي تراكمت لديهم، وهنا تتعامل الشركات مع هذا الأمر بعدة طرق، من خلال:
الانخراط في ممارسات منضبطة: مثل وضع خطط عمل واضحة، وتحديد أدوار ومسؤوليات محددة، وتتبع تقدم العمل عن كثب.
استخدام أدوات إدارة المشاريع المشتركة: مثل منصات التواصل والتعاون، وأدوات إدارة المهام، وأدوات مشاركة الملفات.
تعيين موظفين بدوام كامل لتحمل المسؤولية عن العمليات الحيوية الشاملة ومخرجات المشروع: لتوجيه المستقلين، وضمان جودة العمل، ومراقبة التقدم.
وفي بعض أماكن العمل عالية الرقمنة، يتم تسهيل أنظمة إدارة المعرفة الداخلية بواسطة الذكاء الاصطناعي، مما يتيح نقل المهارات وإدارة المعرفة المؤسسية دون الحاجة إلى خطوات عملية إضافية أو جهد بشري. بينما تعتمد أماكن أخرى على استراتيجية مختلفة، يقوم خلالها الموظفون الداخليون بتطوير مهارات أساسية، ويكتسبون خبرات عامة، ويتم تعزيزهم على أساس الحاجة من قبل موظفين مستقلين متخصصين للغاية، مع إيجاد بيئة عمل تسمح بتحقيق الأهداف المهنية للعاملين والشركة على حدٍّ سواء، بما يضمن تحقيق التوازن العادل.
اقرأ أيضًا: معضلة يسعى الخبراء لحلها: لماذا يحب المديرون الابتكار ويحاربونه؟!
تحقيق التوازن بين الموظفين
لقد وضع الخبراء قائمة بما تحتاجه كل شركة من موظفيها، على اختلاف تصنيفاتهم، وما ينتظره هؤلاء من الشركة، بعد أن أدركوا أن تزايد اندماج الموظفين المستقلين ذوي المهارات العالية في قلب القوى العاملة، يحتاج إلى إيجاد نوع من الفهم لتحقيق التوازن بين قدراتهم واحتياجاتهم وطموحاتهم، فبينما تحتاج الشركة من هؤلاء الموظفين إلى الخبرات الجديدة، وإلى روح الاستقلالية، وإلى المرونة، وإلى سرعة التعلم، وإلى التنوع، ينتظر الموظفون المستقلون من الشركة تقدير: مخرجات المشروع المحددة، والخبرة المتطورة التي يتمتعون بها، والتجربة المتنوعة التي يقدمونها، والتزامهم بقيم الشركة.
وهي أمور بطبيعة الحال تختلف عما تحتاجه الشركة من موظفيها الدائمين وما ينتظره هؤلاء منها، فبينما تحتاج الشركة من موظفيها الدائمين: القدرة على التكيف مع متطلبات العمل المتنوعة والمتغيرة، والتوفر في أوقات الأزمات، والتفاني في الحفاظ على ثقافة الشركة، والالتزام بالتحسين المستمر للمهارات. ينتظر الموظف العمل الثابت المُرضي، وتحقيق الانتماء، وتوفر العلاقات المهنية الصحية، وتحقيق الفائدة والنجاح، والترقي الوظيفي. وكلها أمور لن تتم في جميع الحالات دون الاستثمار في بناء الثقة المتبادلة بين المديرين والموظفين، سواء كانوا دائمين أم مؤقتين أم مستقلين.
لقد مكنت التحولات التي يشهدها سوق العمل، والقفزات الكبيرة التي حققها التحاق المواهب المستقلة بفرق الشركات، من انتقال الموظفين الدائمين بسلاسة إلى الأدوار التي تستفيد منهم بشكل أكبر كخبراء في ثقافة الشركة، مع الاستمرار في تقديم التقارير الرسمية إلى المديرين، الذين تحولوا في بعض الشركات ليصبحوا مدراء للمشاريع، وليسوا ملاكًا للمواهب الداخلية، ومن ثم أصبح تركيزهم ينصب على تحديد نطاقات العمل، ووضع ميزانيات المشاريع، وتحديد متطلبات المهارات، والتعاقد مع الموظفين المستقلين، بهدف ضمان تحقيق التوازن في المشاريع، وهو الأمر الذي أصبح في حد ذاته يمثل تحديًا في ظل ضغط الأعمال، وتزايد اختيار الأجيال الجديدة للعمل المستقل، وهو ما يبشر بتطوير قواعد العمل في المستقبل القريب، حتى وإن كانت جميع الدراسات تؤكد على ضرورة إحداث التوازن والتناغم، وصولًا إلى العودة إلى شكل التوظيف القديم، ولكن بشرط توفر المهارات الدائمة التطور التي تحتاجها الشركات، وتلك التي تتناسب مع إيقاع عصرنا المتسارع.