الاضطرابات الانشقاقية "التفارقية".. الأعراض والأسباب وطرق العلاج
هل شعرتَ من قبل أنّ كل ما حولك غير حقيقي كأنّك تعيش حلمًا؟ هل شعرتَ أنك تنظر إلى نفسك من خارجها من قبل؟ كلّا، ليس أن تحلم، بل كأنّك لست أنت، كأنّك خرجت من جسدك وبتّ تنظر إلى نفسك من الخارج. هذه هي السمات الأساسية للاضطرابات الانشقاقية (التفكيكية)، وهي من الاضطرابات النفسية النادرة، لكنّها تُؤثّر بشدّة في وعي الإنسان بذاته وبما حوله. فما أنواع هذه الاضطرابات؟ وما أعراضها؟ وكيف يمكن للإنسان أن يكون مُتعدّد الشخصيات في آنٍ واحد؟
ما هي الاضطرابات الانشقاقية أو التفارقية؟
اضطرابات تُسبِّب فقدان وعي الإنسان بما حوله أو بذاته، كما تنطوي على مشكلات في الذاكرة والإدراك والسلوك. فيشعر الإنسان بانفصاله عن الواقع أو تواجده خارج جسده، أو قد يتعرّض لفقدان الذاكرة.
ومن الطبيعي أن ينفصل أي إنسان في بعض الأحيان عمّا حوله، كما لو كان يتجوّل في أحلام يقظته. لكن إذا استمرّ هذا الانفصال، فقد تُعاني اضطرابًا انشقاقيًا أو تفارقيًا، خاصةً إذا كان ذلك الانفصال مزمنًا ومهيمنًا على عقلك ويؤثّر في حياتك اليومية.
أنواع الاضطرابات الانشقاقية
تشمل أنواع الاضطرابات الانشقاقية، حسب الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية "DSM-5":
1. اضطراب الهوية التفارقي
أحد اضطرابات الصحة النفسية التي يعيش فيها الإنسان بهويتين منفصلتين أو أكثر، وتتحكّم كل هوية أو شخصية في سلوكه في أوقات مختلفة، بل لكل هوية تاريخها الشخصي وسماتها وما تُحبِّه وما تكرهه، بل إنّ ذل الاضطراب قد يُحدِث فجوات في الذاكرة وهلاوس.
يُطلَق أيضًا على اضطراب الهوية التفارقي "اضطراب الشخصي المتعدِّد" أو "اضطراب الشخصية المنقسمة"، وتشمل أعراض ذلك الاضطراب:
- عدم القدرة على تذكُّر ذكريات الطفولة أو التاريخ الشخصي للإنسان.
- الشعور بالانفصال عما حولك.
- العودة المفاجئة لذكريات منسية سابقًا.
- ضعف الوعي بالأحداث الأخيرة.
- نسيان الكثير من الأحداث.
- التفكير بإيذاء النفس أو الانتحار.
ويتطلّب تشخيص اضطراب الهوية التفارقية، حسب الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية، الإصدار الخامس "DSM-5" توفُّر المعايير الآتية:
- وجود هويتين أو شخصيتين متميزتين أو أكثر، لكل منهما نمط خاص به في التعامل، وقد يشكو المُصاب من وجود هذه الشخصيات أو قد يُلاحِظ المُعالِج ذلك عليه.
- فقدان الذاكرة من الأمور التي يجب أن تحدث مع ذلك الاضطراب، ما يحد من مقدار ما يمكن للإنسان أن يتذكّره عن الأحداث اليومية والحوادث المؤلمة التي عصفت به سابقًا.
- صعوبة أداء العمل اليومي المعتاد.
- ألّا تكون الأعراض جزءًا من ممارسة ثقافية أو دينية.
- ألّا تكون الأعراض الجسدية أو النفسية ناتجة عن استخدام أي مواد، مثل الكحول أو الأدوية.
ورغم أنّ اضطراب الشخصية التفارقية نادر حسب البعض، لكن كشفت العديد من الدراسات إلى أنّ 1 - 1.5% من السكان يُعانُون ذلك الاضطراب.
وتُوجَد بعض الأدلة، حسب موقع "Verywellmind"، على أنّ المُصابِين باضطراب الهوية التفارقية أكثر قابليةً للتنويم المغناطيسي والإيحاء لهم من قِبل الآخرين، وقد دفع هذا بعض الخبراء للقول بأنّ الهويات المُنفصِلة التي يُعانِيها هؤلاء الأشخاص قد تكون نتيجة أحد الإيحاءات التي تعرَّضوا لها.
ومع ذلك لم يُوافِق خبراء آخرون على هذا الرأي، خاصةً أنَّ الدراسات الحديثة تدحض هذه الفكرة، فمثلًا أظهرت بعض الدراسات أنَّ الشخصيات المختلفة للمُصاب بذلك الاضطراب، لها أنماط فسيولوجية مختلفة وليست سلوكيات شخصية فقط.
بمعنى أنّها مختلفة حتى في نشاط الدماغ واستجابات القلب والأوعية الدموية. وقد استُخدِمت هذه الدراسات دليلًا على وجود تغييرات فعلية، وليس إيحاءً لتنويم مغناطيسي أو ما شابه ذلك.
2. فقدان الذاكرة التفارقي
أمّا فقدان الذاكرة التفارقي فهو اضطراب يُواجِه فيه الإنسان صعوبة تذكّر معلومات مهمة عن نفسه وحياته، وهو أكثر الاضطرابات التفارقية شيوعًا؛ إذ يُصِيب نحو 1.8% من الناس، حسب موقع "Psychcentral".
ويُشخَّص فقدان الذاكرة التفارقي، حسب الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية، بوجود هذه الأعراض:
- صعوبة تذكّر معلومات من حياتك.
- غالبًا ما تكون المعلومات التي يصعب تذكرها مؤلمة لك.
- عادةً ما تتذكّر المعلومات المنسية بسهولة.
- ألّا يكون عدم القدرة على استدعاء المعلومات ناتجًا عن إدمان المخدرات.
- قد يكون فقدان الذاكرة حول أحداث مُحدّدة أو عن تاريخ حياة المرء عمومًا.
وقد يُسبِّب فقدان الذاكرة التفارقي مشكلات للإنسان في علاقاته مع الآخرين أو في عمله، كما قد يستمر نسيان المعلومات لفترة قصيرة أو عِدّة سنوات، وغالبًا ما يحدث ذلك فجأة.
3. اضطراب تبدد الشخصية/ تبدد الواقع
اضطراب يُعانِي معه الإنسان أمرين:
- تبدُّد الشخصية: وهو الشعور بفقدان هويتك أو أنَّك لست حقيقيًا، كما قد يشعر الإنسان كأنّه يُراقِب نفسه من خارج جسمه.
- تبدُّد الواقع: الشعور بالانفصال عن تجاربك ومحيطك، فقد تشعر أنَّ الأشخاص والأشياء من حولك بعيدة أو غير حقيقية.
وهذا الاضطراب نادر، ويُصِيب نحو 1% فقط من عموم السكان، وتزداد مُعدّلات الإصابة به في وجود اضطرابات نفسية أخرى قد يُعانِيها الإنسان، مثل:
- الاكتئاب.
- اضطراب الشخصية الحدية.
- الفصام.
- الاضطرابات الانشقاقية الأخرى.
وتشمل الأعراض الأكثر شيوعًا لاضطراب تبدُّد الشخصية:
- الشعور بالانفصال عن الذات والبيئة.
- النسيان وفقدان الذاكرة.
- الشعور كأنّك تُشاهِد نفسك في فيلم.
- تخيّلات بشأن ترك جسمك والعودة إليه عبر ومضات من الضوء.
- الشعور بالارتباط بتجارب الأحلام.
- الشعور بأنّ المواقف المألوفة جديدة تمامًا، أو أنَّ المواقف غير المألوفة مألوفة.
- أحاسيس اللمس والصور التخيلية عند وصف شيءٍ يمكن رؤيته.
4. اضطراب تفارقي غير محدد
يُشِير الاضطراب التفارقي غير المُحدَّد إلى الأفراد الذين يُعانُون أعراض التفارق أو الانشقاق، أو أعراضًا أخرى متسقة معه، لكنّهم لم يستوفوا المعايير الكاملة لتشخيصه.
5. اضطرابات تفارقية أخرى محددة
هو أي اضطراب يُعانِي معه الإنسان أعراضًا انشقاقية لكن أعراضه لا تفي بالمعايير التشخيصية الكاملة لأي اضطراب تفارقي آخر.
ويُشخِّصه الطبيب عندما يكون هناك سبب مُحدّد ليس ضروريًا أن يكون من الأسباب المتوقعة للاضطرابات الانشقاقية الأخرى.
ومن صور ذلك الاضطراب:
- الأعراض التفارقية المختلطة: يشمل اضطرابات الهوية دون فقدان الذاكرة.
- اضطرابات الهوية نتيجة الإقناع المزمن والشديد: تضطرب الهوية بسبب غسيل الدماغ أو التعرّض لضائقة أو التعرّض للتعذيب.
- ردود الفعل التفارقية للإجهاد أو التوتر: أعراض تفارقية أو اشقاقية نتيجة أحداث مزعجة، تستمر بضع ساعات إلى أقل من شهرٍ واحد.
- الغيبوبة التفارقية: فقدان وعي الإنسان بمحيطه بشكلٍ لا يمكن السيطرة عليه.
ما أعراض الاضطرابات الانشقاقية؟
يشعر المصاب بالاضطرابات الانشقاقية الانفصال عن نفسه أو واقعه، ومن علامات ذلك:
- عدم القدرة على التذكّر أي شيءٍ لفترةٍ من الوقت.
- الشعور وكأنّك تفقد الاتصال بالأحداث التي تدور من حولك لفترة وجيزة، على غرار أحلام اليقظة.
- الإحساس بأنّ العالم من حولك غير حقيقي ومُشوّه.
- اضطراب الإحساس بالزمان والمكان.
- استرجاع ذكريات الأحداث المؤلمة في الماضي.
- فقدان الذاكرة بشأن بعض الأحداث أو الأشخاص أو أطر زمنية مُعيّنة في حياة المرء.
كذلك قد يشعر الشخص بأنّ نفسه غير حقيقية، وهو ما يُعرَف باضطراب تبدُّد الشخصية، فقد يرى أنّه خرج من جسده مثلًا ويرى الناس من أعلى، ما يجعله يشعر بأنّ كل ما يحدث من حوله لا يحدث له هو، كما قد يشعر بعضهم بالانفصال عن واقعهم ومحيطهم وأنّ ما حولهم مجرد حلم.
أسباب الإصابة بالاضطرابات الانشقاقية
ليس هناك سبب بعينه يمكن إلقاء اللوم عليه بشأن الاضطرابات الانشقاقية، لكن قد تُسهِم بعض العوامل في الإصابة بتلك الاضطرابات، مثل:
1. الصدمة
تُعدّ الصدمة من الأسباب الرئيسة للاضطرابات الانشقاقية؛ إذ تقع تلك الاضطرابات كوسيلة لمنع ذكريات الحدث المؤلم من أن تُهيمِن على مشاعر الإنسان أو مع كون ذلك الحدث ضخمًا بشكلٍ لا يمكن أن تتعامل معه.
يستوي في ذلك أن تكون الصدمة ناجمة عن الاعتداء أو سوء المعاملة، أو الحوادث أو الكوارث الطبيعية، أو الحروب العسكرية، أو غير ذلك.
2. إدمان المواد المخدرة
كذلك قد يُؤدِّي تعاطي المخدرات إلى الاضطرابات الانشقاقية، فقد وجدت دراسة في "Journal of Trauma & Dissociation" أنَّ السيدات اللاتي يُعانِين اضطراب إدمان المواد المخدرة واضطراب ما بعد الصدمة، يُعانِين أيضًا الاضطرابات الانشقاقية، لكن لا تزال هناك حاجة إلى مزيدٍ من الأبحاث لمعرفة كي يمكن أن يُسبِّب إدمان المخدرات تلك الاضطرابات.
3. اضطرابات نفسية أخرى
كذلك قد تُسبِّب بعض الاضطرابات النفسية أعراضًا انشقاقية، مثل اضطراب ما بعد الصدمة، كما وجدت دراسة عام 2021 علاقة مباشرة بين الاضطراب الانشقاقي والهلوسة والعظمة والبارانويا، والقلق والاكتئاب، كما قد يكون لاضطراب الوسواس القهري علاقة بالاضطراب الانشقاقي.
التشخيص
يتطلّب تشخيص الاضطرابات الانشقاقية تقييم الطبيب للأعراض التي يُعانِيها المُصاب، ومعرفة تاريخه المرضي، وإجراء فحص جسدي، كما قد تُطلَب بعض الاختبارات المعملية لاستبعاد أي أمراض أخرى لها أعراض مشابهة.
وتُستخدَم العديد من التقييمات للمساعدة في تشخيص الاضطرابات الانشقاقية، ومنها:
- مقابلة سريرية مُنظَّمة للتفارق.
- مقياس التجارب التفارقية (DES)، وهو استبيان يُسأل فيه المريض عن سير حياته اليومية، وكم مرة عانى أعراض الاضطرابات الانشقاقية أو التفارقية، وبنهاية الاستبيان تُسجّل درجة مُعيّنة، فلو كانت عالية (أكبر من 30)، دلّ ذلك على وجود الاضطراب، كما أنّ تراجُع الدرجة المُسجّلة مع تلقِّي العلاج يدل على فعاليته في التعامل مع ذلك الاضطراب.
- مقياس اضطراب ما بعد الصدمة الذي يديره الطبيب (CAPS)، وهذا قد يكون من خلال طرح الطبيب لبعض الأسئلة، مثل "هل هناك أوقات شعرت فيها أنّك خارج جسمك تراقب نفسك كما لو كُنت شخصًا آخر؟".
المضاعفات
إذا تُركت الاضطرابات الانشقاقية دون علاجٍ، فقد تستمر مدى الحياة وهذا أسوأ ما يمكن أن يحدث، كما ربطت بعض الأبحاث أيضًا بين الاضطرابات الانشقاقية وتفاقُم الأعراض النفسية التي يُعانِيها الإنسان مستقبلًا.
ومن المضاعفات المُتوقّعة أيضًا زيادة فرص تعرّض الإنسان للإيذاء أو أن يترك نفسه دون حماية مِمّن يُحاوِل أذيته.
علاج الاضطرابات الانشقاقية
من الضروري الاستعانة بطبيبٍ مُختص لعلاج الاضطرابات الانشقاقية حال الإصابة بها أو معاناة أحد أقربائك أو أصدقائك منها.
قد تكون رحلة العلاج طويلة وصعبة في بعض الأحيان لكنّها ضرورية، كما قد تضمُّ العلاج النفسي فقط أو العلاج النفسي والأدوية معًا:
1. العلاج النفسي
يساعد العلاج النفسي في علاج العديد من الاضطرابات النفسية، مثل اضطرابات الأكل واضطرابات التحكم في الاندفاع، وكذلك الاضطرابات الانشقاقية، وتشمل أنواع العلاج النفسي المُستخدَمة في علاج الاضطرابات الانشقاقية:
- العلاج المعرفي السلوكي: يُساعِد المريض على معرفة الأفكار والسلوكيات السلبية وكيف يُواجِهها ويُغيّرها بما يساعد في التغلب على الاضطراب الانشقاقي.
- العلاج السلوكي الجدلي: هذا العلاج أنسب لمن يُعانُون مشاعر شديدة إزاء ذلك الاضطراب، والهدف منه تحقيق توازن ما بين قبولك لمن أنت والتحدّيات التي تُواجِهها وفوائد التغيير، إذ يُساعِدك المُعالِج على تعلُّم مهارات جديدة لتنظيم مشاعرك.
- التنويم المغناطيسي: هو حالة من الاسترخاء العميق والتركيز الشديد، تجعل الإنسان أكثر قبولًا للمقترحات المُوجّهة إليه من قِبل المُعالِج لإجراء تغييرات تُساعِد في تحسين صحته وتجاوز الاضطراب الانشقاقي.
- إزالة حساسية حركة العين وإعادة المُعالجة: يتضمّن تحريك عينيك بطريقةٍ مُحدّدة في أثناء مُعالَجة الذكريات المؤلمة، وهدف ذلك العلاج مساعدة المريض على الشفاء من الصدمات أو التجارب المؤلمة التي مرّ بها، وهو علاج جديد نسبيًا مقارنةً بالطرق العلاجية الأخرى.
2. الأدوية
لا تُوجَد أدوية مُعيّنة لعلاج الاضطرابات الانشقاقية، لكن هناك بعض الأدوية التي قد تساعد في تخفيف الأعراض، مث:
- مضادات الاكتئاب.
- الأدوية المساعدة على النوم.
- الأدوية المضادة للقلق.
فقد تُوصَف هذه الأدوية للتغلب على الاضطرابات الأخرى التي قد تُصاحِب الاضطراب الانشقاقي، مثل القلق أو الاكتئاب أو صعوبة النوم.