تأثير "دانينغ- كروجر".. لماذا نُبالغ في تقدير أنفسنا؟
قد يعتقد كثيرون أن المعرفة تولّد ثقةً بالنفس، ولكن الحقيقة عكس ذلك تمامًا، أو على الأقل هذا ما يُثبته العلم وما يُعرَف بـ"تأثير دانينغ كروجر- Dunning-Kruger Effect". هذه الظاهرة النفسية الغريبة تُشير إلى ميل الأشخاص غير الأكفاء إلى المبالغة في تقدير ذواتهم ومعارفهم المحدودة في حين أن الأشخاص المؤهلين يكونون على قدرٍ عجيب من التواضع والشك في قدراتهم. فما هي هذه الظاهرة بالتحديد؟ وكيف تحدث؟
من أين أتت ظاهرة دانينغ- كروجر؟
بُنيت ظاهرة دانينغ- كروجر على بحثٍ نُشر عام 1999 من قِبل عالمي النفس بجامعة كورنيل "ديفيد دانينغ" و"جاستين كروجر"، إذ قام هذا الثنائي باختبار عددٍ من المشاركين "تم تقسيمهم على 4 مجموعات متساوية" في جوانب عدة مثل المنطق والقواعد النحوية، بل وروح الدعابة، ثم طلبوا منهم أن يُقيموا أداءهم على مقياس ثابت.
المثير للدهشة أن أولئك الذين صُنِّفوا بالربع الأسوأ، أي نسبة الـ 25% فيما يدنوها، أكرموا أنفسهم بتقييمات غير مُستَحقة، إذ وضعوا أنفسهم مع نسبة الـ 62% فيما فوق، وهذا تقدير مُبالغ به للذات. على الجانب الآخر، كان أولئك المُصنفين من الصفوة، وبالتحديد ضمن الربع الأول "75% فيما يعلوها"، أكثر تواضعًا وميلاً إلى إعطاء أنفسهم التقييم الصحيح دون المُغالاة في التقدير رُغم أنهم نظريًا يستحقون ذلك.
أعزى الباحثون السبب إلى مشكلة وراء معرفية "Metacognition"، والتي يُقصَد بها قدرة الشخص على تقييم مهاراته وأفكاره الشخصية، وبهذا يكون الشخص محدود المعرفة أمام مشكلتين لا مشكلة واحدة؛ الأولى هي محدودية ما لديه من خبرات ومعلومات، والثانية والأهم هي عدم درايته بذلك.
اقرأ أيضًا: عزز مهاراتك الشخصية مع أفضل كتب تطوير الذات وبناء القدرات
لماذا تحدث ظاهرة دانينغ- كروجر؟
هناك عديد من الأسباب أولها "الخوف من عدم الكفاءة- Fear of inadequacy"، فالضغط الذي يولّده الظهور بمظهر الحمقى يدفع الأشخاص إلى المبالغة في تقدير ذواتهم وقدراتهم حتى لو كانوا يعرفون بزيف ادعاءاتهم. هذا الادعاء، رُغم زَيفه، فإنه قد يضع الشخص في مكانة اجتماعية مرموقة وإن كان لفترة مؤقتة ما يدفعه للمبالغة في تقدير مهاراته.
وإذا كنت تعتقد أن هذه الظاهرة العجيبة تحدث لغير الأكفاء فحسب، فالأذكياء أنفسهم مُعرّضون للوقوع في فخها إن كانوا مغرورين، فكونُ شخصًا ما ذكيًا لا يعني امتلاكه كل المعارف والمهارات، ولا بد من التفريق بين الثقة بالنفس والغرور، ومعرفة أن العامل الأساسي الذي يتسبب في حدوث الظاهرة -كما قال مكتشفاها- هو وعي الإنسان الجيد بنفسه وقدراته.
وما الذي يُصعّب على الإنسان معرفته بنفس وقدراته؟ عدم اختبار نفسه بالشكل الكافي وظنه بأنه ذكي كفاية حتى ينهل من العلم والمعرفة ما ينهل دون أدنى مشقة.
لماذا يعتقد الأشخاص أنهم يعرفون أكثر مما يعرفون حقًا؟
قد يبدو السؤال مُتشابهًا مع سابقه، ولكنهما مختلفان، إذ يتعلق سؤال "لماذا تحدث ظاهرة دانينغ- كروجر؟" برغبة الأشخاص في الظهور بمظهرٍ مرموق، أي أنه يتناول السبب من الناحية العملية، بينما يبحث سؤال هذه الفقرة عن السبب النفسي لمبالغة الأشخاص في تقدير معارفهم.
والسبب في ذلك يتمثل في أحد أنواع الثقة المُفرطة بالنفس وهو "الدقة المُفرطة- overprecision"، والتي يكون فيها الشخص متأكدًا بشكلٍ مبالغٍ فيه من صحة ما يمتلكه من معارف، أي إنه لا يكون قاصدًا الظهور بمظهر الأذكياء كما هو الحال في السؤال السابق، وإنما يكون مدفوعًا بثقته العالية في معارفه، ولكن في النهاية الهدف المُشترك، وهو الظهور بمظهرٍ أكثر ذكاءً من الأشخاص الموجودين في المكان سواء كان ذلك عن قصدٍ أم لا.
اقرأ أيضًا: كتب تطوير الذات والنجاح.. الحل المثالي لتحقيق أحلامك في وقت قياسي
كيف أتجنب الوقوع تحت تأثير دانينغ- كروجر؟
هناك العديد من الاستراتيجيات والطرق المفيدة لتجنب الوقوع تحت هذا التأثير، ومنها:
1. اختبر معارفك: تبدأ أولى الخطوات من مواجهة النفس، واختبار معارفها في موضوعٍ بعينه. وفقًا لديفيد دانينغ (أحد العالمين اللذين اكتشفا الظاهرة)، فإننا نستطيع أن نكون الحكم على أنفسنا من خلال تحديها لمعرفة ما إذا كنا مُخطئين. ويكون اختبار النفس بابتكار حجة دحض مضادة لفكرة بعينها وتنحية كل الانحيازات مهما كان الأمر صعبًا.
2. أعد تقييم أفكارك: ليس منا من هو معصومٌ من الخطأ، ووجهات نظرنا من الوارد جدًا أن تكون في غير محلها، لذا ينبغي دومًا أن نقيم الأمور بطريقة التفكير النقدي وإعمال العقل الذي وُهِبناه.
3. تثقف، بلا هوادة: لعل أكثر الطرق المباشرة لتجنب الوقوع في فخ وهم المعرفة هو التعلم المستمر الذي يزيد من تواضع الشخص، وهذا ببساطة لأنه كلما نهل أحدنا من العلم والمعرفة، أدرك أنه ينقصه الكثير، الأمر كالحفرة.
4. تقبل النقد: رُغم وقع التعليقات الإيجابية الحسن، فإن الانتقاد هو ما يُفتَرض أن يبني المرء منا لأنه يُسلّط الضوء على الأمور التي تنقصنا، ومن ثم يكون العمل عليها مُباشرًا وسهلاً، وعليه يجب أن تتقبل الأمرين، بل وتسعى للنقد قبل رضاء الآخرين الذي سيأتي وحده لا محالة.
5. تحلَّ بالصبر: مثلما لا يوجد أحدٌ معصومًا من الخطأ، لا أحد معصوم من الوقوع في فخ دانينغ- كروجر، فالتحيزات المعرفية هي ميول نفسية طبيعية موجودة بكل البشر، وإن القضاء على التحيز بشكلٍ كامل لهو أمرٌ شبه مستحيل يجب تعلم التعايش معه، ولكن من المهم أن تُدرك هذه الحقيقة. بمجرد اكتسابنا لهذه المعلومة، سنكون أكثر تصالحًا مع أنفسنا وسيكون الحد من تأثير الانحيازات المعروفة مسألة وقتٍ لا أكثر، لهذا تحل بالصبر.
كيف أعرف أنني تحت تأثير دانينغ- كروجر؟
سل نفسك: هل سمعت نقدًّا بناءً ممن حولك وتجاهلته أو اعتبرته في غير محله؟ إذا كان الجواب نعم، ومعظمنا سيجيب بنعم -لأن الأمر طبيعي للغاية-، فلربما وقعت تحت هذا التأثير.
كيف أتغلب على تأثير دانينغ- كروجر؟
بالأخير، إذا كنت تعتقد أنك واقعٌ في فخ وهم المعرفة أو تأثير دانينغ- كروجر، فإن أفضل معروفٍ يمكن أن تُسديه لنفسك أن تتقبلها، وتعرف أن لا أحد معصومٌ من الوقوع في نفس الفخ. ولعل أحد أفضل الطرق للتعايش مع هذه الحقيقة والتغلب على الانحيازات الإدراكية والمعرفية هو ببساطة اكتساب المزيد من المعارف والخبرات في شتى المجالات، وبخاصة المجالات التي تهمك.
باكتسابك للمعرفة ستدرك أن الإلمام بكل شيء هو أمر مُستحيل، ويجب علينا جميعًا أن نتصالح مع ذلك. كذلك يجب عليك أن تعرف طريقة عمل أمخاخنا القاصرة وأن الانحياز قد يؤثر على مشاعر الشخص وسلوكه، ومن ثم يُعرّضه للوقوع تحت قبضة تأثير دانينغ- كروجر.