المملكة في رمضان.. ذكريات معطرة بعبق التاريخ وعظمة المكان
كيف تبدو أجواء شهر رمضان في المملكة العربية السعودية، وكيف كانت بالماضي؟ وهل ثمة اختلاف بين الماضي والحاضر؟.. سؤال قد يتبادر إلى الأذهان كلما تابعنا التطور المتسارع لكل مناحي الحياة في قلب العالم الإسلامي، إذ امتد أثر تلك النهضة الكبيرة بما جعل الشهر الكريم فرصة عظيمة ليس للعبادة فحسب، وإنما للراحة والاسترخاء والاستمتاع بالرفاهية أيضًا، بما ينعكس على التفكر وتقدير العمل والجهد. وفي هذه السطور سنعرج إلى ماضي المملكة وذكرياتها المعطرة بعبق التاريخ، بينما نعود لحاضر المكان وعظمته بنقل لمحات من أجواء الشهر الفضيل.
رمضان في الماضي
قبل نحو عامين التقت وكالة الأنباء السعودية "واس"، مواطنًا سعوديًا من الطائف بلغ من العمر آنذاك 100 عام، هو هاشم بن محمد العبدلي، ليفتح نافذة على ذكريات بلاد الحرمين الشريفين، بينما تحدث عن عادات أهلها في استقبال شهر رمضان، إذ كانت كل محافظات ومدن المملكة تترقب استطلاع هلال الشهر المبارك بالعين المجردة، قبل وجود أدوات الرصد الحديثة، إذ كان الناس يصعدون إلى أسطح المنازل وقمم الجبال لمراقبة السماء، ومع ثبوت رؤية الهلال تبدأ الاحتفالات وتبادل التهاني.
بينما لم يكن الراديو منتشرًا بشكل كبير، كما لم تكن قد ظهرت بعد وسائل التواصل والاتصال الحديثة، وحسب "العبدلي" فقد كانت وسيلة إعلام الناس بثبوت الرؤية تتمثل في استخدام الأسلحة التقليدية، أو ردم كميات كبيرة من الحطب وإشعاله في أعالي الجبال بما يسمى بـ"مشعال"، بينما استخدمت بعض المدن أصوات المدافع الموجودة فيها، كما استُخدم المناديب لإرسالهم إلى القرى القريبة والنائية وأماكن تجمع الناس، لتبليغهم بدخول شهر رمضان المبارك.
بينما يسرد الكاتب المتخصص "أحمد حلبي" استقبال شهر الصيام قديمًا في مكة المكرمة، إذ كان يتم إعلام ثبوت الرؤية بإطلاق مدفع رمضان من موقعه على قمة جبل المدافع، ليدوي صداه في أرجاء مكة، مبشرًا بدخول الشهر الفضيل، ومن ثم يبدأ الناس في تنظيف المنازل وتزيينها، وتبخير دوارق الماء، فيما تبدأ ربات البيوت في إعداد المأكولات الرمضانية، وكان السكان القريبون من المسجد الحرام يحرصون في أول أيام الشهر الفضيل على الجلوس إلى مائدة الإفطار التي يتخللها دوارق مملوءة بماء زمزم، فيما يقوم أشخاص يُعرفون بـ"الزمازمة" بسقيا الصائمين، بينما توزع التمور داخل المسجد مع ارتفاع أذان المغرب.
أما بعد صلاة العشاء والتراويح، فكان الكثير من أهالي مكة المكرمة يتجهون لتناول بعض المأكولات الرمضانية، إضافة إلى توجه الأطفال إلى أماكن الألعاب الحركية كـ"المدارية"، المعروفة حاليًا بالمراجيح، بغرض التسلية، بينما كان المعتمرون في شهر رمضان يصلون إلى مكة المكرمة من جميع أنحاء العالم دون وجود أي تنظيم، وكانوا قلة لعدم توفر وسائل نقل حديثة، مع ارتفاع التكلفة المادية التي كان يتكبدها المعتمر في الماضي، حتى ظهور أول تنظيم لخدمات المعتمرين عام 1420هـ، إذ شكّل الانطلاقة الأولى لتلك الإنجازات اللاحقة التي حققتها المملكة في إطار تنظيم رحلات العمرة والحج.
رمضان في الحاضر
اقرأ أيضًا: "تهذيب للنفس وإشباع للروح".. مزارات دينية لا تفوتك بالمملكة في رمضان
أما أجواء رمضان فقد تطورت بشكل لافت في حاضرنا، بدءًا من مراحل تحري رؤية الهلال، التي لم تعد تقتصر على العين المجردة فقط، إذ استخدمنا التليسكوب الفلكي، والكاميرات الاحترافية لتتبع الهلال من ساعات النهار الأولى حتى الغروب، ولكن فرحة الحاضر بقدوم الشهر الكريم لم تختلف في مضمونها عن الماضي، فيما غيّرت التقنيات الحديثة سرعة المشهد، فقد بات خبر تحقق رؤية هلال شهر رمضان هذه الأيام أمرًا في غاية السهولة والسرعة، ينتشر بمجرد رؤية الهلال عبر وسائل الإعلام والتواصل المختلفة، وعندها يسارع الجميع لتبادل التهاني مثلما كان في الماضي، ولكن بتقنيات حديثة سهّلت كل شيء فيما طوت المسافات الكبيرة.
أما مظاهر الاحتفال فلم تتغير كثيرًا في مضمونها، فما زال اكتظاظ الشوارع والأسواق مع قرب قدوم الشهر الفضيل لشراء الزينات واحتياجات المطابخ قائمًا، فيما يزداد هذا الازدحام يوميًا قبل أذان المغرب من أجل شراء احتياجات الإفطار، وهي ظاهرة مميزة لرمضان ليس في المملكة فحسب بل في كل دول عالمنا الإسلامي، وكذلك يزداد الزحام بعد صلاة العشاء والتراويح، بينما قد نرى في بعض مناطق المملكة أسواقًا لا نشاهدها في أي شهر آخر، كتلك الأسواق الموسمية لبيع المأكولات الشعبية التي يكثر الإقبال عليها هنا خلال الشهر الكريم، فيما تتباهي المساجد والمزارات الدينية المختلفة بتلك الإشراقة التي صقلتها رؤية المملكة 2030، والتي جعلت منها واحات للعبادة والتفكر.
فيما تتميز مختلف المدن السعودية بانتشار الموائد ومفارش إفطار الصائم في المساجد وبالقرب منها وفي الشوارع، مع تلك الاستعدادات المبكرة للإفطار، وتوزيع وجبات الإفطار الخفيفة في الطرق، بينما اعتاد أهل المملكة عمومًا على "فك الريق"، ثم استكمال الإفطار بعد أداء صلاة المغرب، وسط تجمع العائلة، مع الأكلات الأصيلة التي لحقت بها المأكولات المعدة بالطرق الحديثة، إلا أن أحدًا لم يسحب البساط من عبق أطباق الماضي التقليدية، فيما يتنافس السعوديون منذ مطلع الشهر الكريم في الأعمال الخيرية والصدقات، مع وصل الأرحام والتزاور والولائم الرمضانية لجمع العائلة، بينما تتاح للجميع الفرص للتنافس في العبادة بختم القرآن والاستمتاع بأجواء الأماكن المقدسة التي حبا الله بها المملكة، فيما يزداد الاستمتاع بتلك الأجواء من خلال الاستعدادات لاستقبال عيد الفطر، وارتفاع تكبيراته في هذا البلد الآمن إلى يوم الدين.