أقدم القوانين التي عرفها البشر.. "شرائع حمورابي" بين العدل والجنون
منذ عام 1792 وحتى 1750 قبل الميلاد، حكم الملك البابلي الشهير "حمورابي" مدينة بابل العريقة، وجعل منها مملكة ضخمة ذات أطرف مترامية على طول نهر الفرات، ناهيك عن سعيه لضم وتوحيد جنوب بلاد ما بين النهرين بالكامل تحت سيطرته. في فترة حكمه، سنّ "حمورابي" دستورًا أو مجموعة من القوانين والشرائع التي أذهلت العالم آنذاك وحتى يومنا الحالي. تألّف ذلك الدستور من قوانين وصل عددها إلى 282 قانونًا في مختلف المجالات: السياسية والعسكرية والاجتماعية والتجارية، إلخ.
فمن هو "حمورابي" بالضبط؟ وما هي أشهر قوانينه التي ما زال يُعمَل بالكثير منها حتى يومنا هذا رُغم أنها من أقدم ما كُتب في هذا الصدد؟ دعونا نتعرف على ذلك معًا.
السيطرة على بلاد الرافدين
ينحدر "حمورابي" من الأسرة البابلية الحاكمة التي سيطرت على وسط بلاد الرافدين "العراق حاليًّا" لمدة قرونٍ ثلاثة منذ عام 1894 وحتى عام 1595 قبل الميلاد.
كان "حمورابي" سادس ملوك تلك الأسرة الذي يتولّى دفّة الحكم، وأسرته كانت تنحدر بالأساس من قبائل العموريين "قبائل شبه بدوية في غرب سوريا".
أما عن اسم "حمورابي" نفسه فكان يعكس مزيجًا من الثقافات، حيث تعني كلمة "حمو" العائلة باللغة العمورية، بينما تقابل "رابي" كلمة عظيم باللغة التي تحدث بها البابليون في ذلك الوقت، ألا وهي اللغة الأكادية.
خلال فترة حُكمه لبابل، والتي امتدت نحو 30 سنة، بدأ "حمورابي" توسيع مملكته شمال وجنوب وادي نهري دجلة والفرات، واستطاع بإطاحته لممالك آشور، وغيرها من الممالك المنتشرة آنذاك، أن يُخضع بلاد الرافدين تحت سيطرته.
اقرأ أيضًا:"يرتاده 3 ملايين زائر سنويًا".. التاريخ المُظلم لجبل راشمور
حمورابي.. المُشرّع الأول
قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة، وميثاق حقوق الإنسان، والقوانين المُتعارف عليها حاليًا بآلاف السنين، وضع "حمورابي" شريعته المُؤلَّفة من 282 قانونًا والتي يمكننا أن نقول بحقها إنها أثّرت على القوانين الحديثة، بشكل أو بآخر.
تميزت قوانين "حمورابي" بالصرامة والعدل، كما أنها هدفت إلى حماية حقوق الأفراد والمجتمع بشكلٍ عام.
في الفترة الأولى لحُكمه، لم يمتد نفوذ الملك البابليّ لأكثر من 50 ميلاً، ولكنه لم يكد يسيطر على مزيدٍ من المدن والمناطق حتى لاحظ الحاجة إلى مجموعة من القوانين تسري على الجميع باختلاف أعراقهم. وعلى الرُغم من قدِم شريعة "حمورابي" واعتقاد الكثيرين بأنها أول شريعة تُكتَب في التاريخ، فإن الحقيقة ليست كذلك، إذ يُحسَب السبق في هذا إلى ألواحٍ عُثرِ عليها في مدينة إيبلا القديمة "قرية تل مرديخ بسوريا الآن" والتي يعود تاريخها عام 2400 قبل الميلاد، أي قبل وضع "حمورابي" لشريعته بحوالي 600 عام.
وبالعودة للملك البابلي ومحاولاته لتوحيد الشعوب التي أصبحت تحت حُكمه، فقد أرسل الخبراء إلى مختلف أنحاء مملكته وكلَّفهم بجمع القوانين ومراجعتها قبل أن يحصرهم في دستوره المكون من 282 قانونًا ومقدمة مفادها أنه يريد "إظهار العدل في الأرض، وتدمير الظالم وفاعل الشر حتى لا يؤذي القوي الضعيف".
وبالفعل، بالنظر إلى قوانين "حمورابي"، ستراها تسعى لتحقيق ما جاء بالمقدمة عن طريق حماية الأرامل، والعطف على الأيتام، وحماية كل من تعرض لأذًى أو استغلال، ولو أن التطبيق كان كارثيًّا في بعض الأحيان كما سنرى.
العين بالعين والسن بالسن
مقولةٌ أشهرُ من النار على العلم، لا بد أنك قد سمعت بها من قبل، ولكن هل كنت تعرف أن أصلها يعود إلى ما يقرب من الـ 3800 سنة، وبالتحديد إلى القانون 196 من قوانين "حمورابي"؟
لا شك أن "العين بالعين والسن بالسن..." هو قولٌ عادل، ولكن إن طُبّق على الجميع بغض النظر عن مكانتهم الاجتماعية. من هنا نعترف أن "حمورابي" لم يُراعِ ذلك، والشكل الذي طُبّق به القانون كان يعتمد على مكانة الشخص في السلم الطبقي البابلي الذي تكون من 3 طبقات؛ الملكي والأحرار والعبيد، فإذا كان المجني عليه من علية القوم، عوقِب الجاني بنص القانون، أي بالجزاء نفسه، وهذا ما يُفتَرض أن يحدث، ولكن إن كان المجني عليه من العامةٍ أو من العبيد، عُوقِب الجاني بدفع الفضة فقط!
اقرأ أيضًا:ما علاقة "أينشتاين" بقصف هيروشيما ونجازاكي بالقنبلة النووية؟
شريعة مُجحفة
بسبب ذلك اختلف الناس على شريعة "حمورابي"، آنذاك وإلى الآن، ولكن ما لم يختلف عليه أحد أنها من أقدم الشرائع والقوانين التي سعت إلى مفاهيم نبيلة وعادلة وإن لم تُطبَّق الوسيلة إلى تحقيق ذلك بأفضل شكل ممكن، بل في الحقيقة كانت الوسيلة كارثية في أحيانٍ كثيرة.
مثال آخر على إجحاف بعض قوانين شريعة "حمورابي"، والتي كُتبت كلها بالمناسبة بصيغة "إذا حدث... فإن"، يتجسد في القانون السابع الذي ينص على ما يفيده الآتي: "إذا اشترى أي شخص أي شيء، ثورًا كان أم خروفًا، من ابنٍ أو مملوك أو مملوكة، دون عقد أو شاهد، فضة أو ذهب، فإنه يكون سارقًا ويُحكَم عليه بالموت"!
وآخر: "إذا سرق رجلٌ ثورًا، فإن عليه أن يرد 30 ضعف قيمته!"، وثالث: "إذا أخذ السيد مملوكه إلى البيت، يُحكَم عليه بالموت!"، ورابع: "إذا حفر أحدٌ حفرةً في منزلٍ ما بغية سرقته، فيجب أن يُقتَل قبل أن تُردَم الحفرة!"، وخامسٌ وأخير: "إذا لعن أحد الآخر، فإن اللاعن يجب أن يُقتَل!"، وإذا كنت تتساءل: "ما حكاية القتل؟" فدعنا نُخبرك أن شريعة "حمورابي" اشتملت على نحو 19 بندًا يُعاقبون المُخطئ بالقتل، ولعل ذلك يرجع لأن "حمورابي" كان يعتقد نفسه إلهًا مُرسلاً من السماء ليفرض القوانين.
بعض قوانين "حمورابي" المجحفة كانت تُعاقب بالقتل كما رأينا، وبعضها الآخر بالذبح، وعدة منها بسد الديون عن طريق تقديم النساء، وهلم جرا.
لحُسن الحظ أن قوانين "حمورابي" لم تكن كلها بهذا السوء، وإن كان البعض سيبرر عقوبة السرقة بالقتل ويرى الأمثلة التي أوردناها منطقية. على كلِ حال، تضمنت الكثير من قوانين "حمورابي" أحكامًا منطقية وعادلة أيضًا، والحقيقة أن طريقة العمل بشريعة "حمورابي" لا تختلف كثيرًا عما يحدث حاليًا، مع الأخذ في الاعتبار أن هناك فوارق واضحة بين شرائع البابليين القدامى وقوانين عصرنا الحالي، مثل الحُكم على المذنبين بالقفز في نهر الفُرات؛ إذا عادوا إلى الشط سالمين، فهذا يعني براءتهم، وإذا غرقوا فذاك دليل على إدانتهم.. كوميديا سوداء أليست كذلك؟
في النهاية، لا يمكن الأخذ بقوانين أو شريعة "حمورابي" دُفعةً واحدها، فبعضها يصلح، بل ويُطبَّق بشكلٍ أو بآخر إلى يومنا هذا، والبعض الآخر منها يُصنّف على أنه جنون محض وجريمة إنسانية بكل المقاييس. العِرفان الوحيد الذي يجب أن يُعطَ لشريعة الملك البابلي كوحدة واحدة أنها من أقدم الشرائع التي عرفها البشر في التاريخ.