"لحظات فارقة".. أشهر اكتشافات علمية حدثت بالمصادفة
يتطلب البحث العلمي والعمل المختبري مجهودًا مضنيًا وتركيزًا حادًّا حتى يخرج الباحثون بأفضل النتائج الممكنة مُكللين ما أنفقوه من وقت وجهدٍ ومال باكتشاف واحد قد يغير البشرية، أو على الأقل يُحدِث فارقًا، فمن البداهة أن النجاح لا يأتي مصادفة، وأن الاكتشافات العلمية لا تحدث من الفراغ، ولكن.. دائمًا ما توجد استثناءات.
فأحدهم اكتشف قوانين الطفو بينما كان يستحم عاريًا، بينما اكتشف آخران الإنسولين بسبب بول كلب، وما خفي أعظم! اليوم، سنقص عليكم قصصًا تستحق أن تُروى، قصصًا لعبت فيها المصادفة دورًا محوريًا مؤديةً إلى اكتشافات علمية عظيمة لن نبالغ إن قلنا إنها غيرت التاريخ.
مربية الأبقار واكتشاف أول لقاح في التاريخ
في أواخر القرن الثامن عشر، أخبرت مربية أبقارٍ الطبيب البريطاني "إدوارد جينر" بأنها لاحظت أن المصابين بجدري البقر (مرض غير ضار ينتقل من الأبقار) لا يُصابون بمرض الجدري (عدوى فيروسية خطيرة، وأحيانًا مميتة).
للتحقق من اِدعاء هذه السيدة، أخذ الطبيب عينةً من قرحات إحدى المصابين بهذا المرض وحقن بها طفلاً يبلغ من العمر 8 سنوات يُدعى "جيمس فيبس". ظهرت على الطفل أعراض حمى بسيطة وبعض البثور، ولكنه بالمجمل كان سليمًا.
تمر بضعة أشهر ويُعطي الطبيب للطفل جرعة ثانية، ولكن هذه المرة جرعة تحتوي على فيروس الجدري، والنتيجة؟ لم يلتقط الطفل المرض فعلاً!
على الرغم من أن إجراء التجارب على الأطفال في عصرنا الراهن يعد جريمةً شنعاء، وبعيدًا عن أن العلماء لم يفهموا أساسيات المناعة سوى بعد 50 عامًا من هذا الاكتشاف، فإننا ما زلنا نستخدم نفس الآلية -المتمثلة في اللقاحات المُضعَّفة- التي استخدمها الطبيب الإنجليزي لعلاج الكثير من الفيروسات حتى وقتنا هذا.
اقرأ أيضًا:"الأشواغاندا".. العُشبة التي قد تغير حياتك
قطعة الحلوى واكتشاف أشعة الميكروويف
في عام 1945، كان المهندس الأمريكي "بيرسي سبينسر"، الذي اضطُرَّ إلى ترك المدرسة وأصبح مهندسًا بالتعليم الذاتي بالمناسبة، يدرس الأجهزة الصغيرة الموجودة الآن بالميكروويف والمسؤولة عن إشعاعاته -تُعرَف بالمغناترونات magnetrons-. وفي أحد الأيام، وفي أثناء تواجده بالقرب من أحد هذه الأجهزة، يُفاجَأ بأن قطعة الحلوى الموجودة في جيبه والمصنوعة من زبدة الفول السوداني قد شرعت في الذوبان نتيجة تعرضها لإشعاعات المغنترون، ومن هنا وُلِدَت أشعة الميكروويف.
إذ سُرعان ما اختبر "سبينسر" قدرات هذه الأشعة بتوجيهها ناحية حبات من الذُرة، و"بوووم!" ها هو الفشار يصبح أول طعام يُطهَى باستخدام أشعة الميكروويف. اليوم، تُستَخدم هذه الأشعة في مختلف المجالات الحياتية بدءًا من طهي الطعام وليس انتهاءً بمراقبة سرعات المركبات والتأكد من حالة الطقس. كل هذا بسبب ذوبان قطعة الحلوى وملاحظة سبينسر الثاقبة.
وجدتها! وجدتها!
أمر ملك مدينة سرقوسة الإغريقية، الملك هيرو الثاني، حِرفيًا أن يَصنع له تاجًا من الذهب، وبعد أن انتهى الصانع من التاج، شكَّ الملك في أمانته، وشعر بأن التاج ليس مصنوعًا من الذهب الخالص، وأن الحرفيّ قد غشَّه بالفضة، فطلب الملك من العالِم "أرخميدس" أن يقطع له الشك باليقين، ويتأكد مما إذا كان التاج مصنوعًا من الذهب الخالص.
فكَّر "أرخميدس" طويلاً، ولكنه لم يجد طريقةً يتأكد بها من نقاء الذهب دون أن يتلف التاج، وفي يومٍ من الأيام، وفي أثناء استحمامه في أحد الحمَّامات العامة، يلاحظ "أرخميدس" أن وزنه ينخفض عندما يغطس في حوض الاستحمام، ويكتشف أنه قد أزاح كمية من الماء -الموجود بالحوض- تساوي الانخفاض الحاصل في وزنه. يستنتج العالِم الإغريقي أن هناك علاقة بين حجم جسده وحجم الماء، ويستلهم الفكرة -متحمّسًا- التي سيحل بها معضلة الملك فيخرج من حوض الاستحمام عاريًا يصرخ: "وجدتها!".
كان "أرخميدس" يعرف أن الذهب أثقل من الفضة، فأخذ عينتين متساويتين في الكتلة من الذهب والفضة وأسقط كلتاهما في وعاء مملوء بالماء حتى حافته. وعلى الرغم من تساوي كتلة العينتين، فإنّ زيادة حجم الفضة "وقلة كثافتها مقارنة بالذهب" تعني أنها ستزيح كمية أكبر من الماء، وهو ما قد كان بالفعل.
والآن حان وقت الاختبار الحقيقي.. أحضر "أرخميدس" التاج، وأحضر كتلة مساويةً لكتلته من الذهب، غطَّس التاج في وعاء مملوء -حتى حافته- بالماء وعاير حجم الماء المُزَاح، ونفس الشيء فعله مع كتلة الذهب الخالصة، وكما أحسَ الملك؛ لم يكن التاج مصنوعًا من الذهب الخالص! إذ ما حدث هو أن التاج قد أزاح كمية أكبر من الماء، وهذا يعني أن حجم المادة المصنوع منها كان أكبر وأن كثافتها أقل، أي أنها ليست ذهبًا فعلًا!
من رحم هذه القصة وُلِدَت قوانين الطفو أو "مبدأ أرخميدس"، ومن صرخة العالِم الإغريقي "وجدتها!" يمكننا أن نتذوق لذة العلم، ونتحسس تطبيقاته العملية في كل جانب من جوانب حياتنا.
اقرأ أيضًا:في اليوم العالمي للصحة النفسية.. إرشادات مهمة لتوفير الرعاية السليمة
لهذا يجب أن تأخذ عطلة
عائدًا من عطلته في الثامن والعشرين من سبتمبر 1928، يكتشف دكتور "أليكساندر فليمنج" أن معمله في حالة من الفوضى، وأن مستعمرات بكتيريا "المكورات العنقودية الذهبية- Staphylococcus aureus" الضارة التي كان يُجري عليها تجاربه قد غزاها فطر البنسليوم، وبدلاً من أن يرمي الطبق الذي لوَّثه هذا الفطر في القمامة -كما يحدث في هكذا حالات-، يقرر فحصه تحت المجهر، ليغير بهذه الخطوة التاريخ، ويحدث ثورةً في عالم الطب.
فما لاحظه "فليمنج" تحت المجهر كان حادثةً أولى من نوعها: فطرٌ يمنع بكتيريا ضارة من الانتشار والنمو! هذا يعني أننا إذا استخدمنا هذا الفطر كعلاجٍ، فسنقضي على أنواعٍ كثيرة جدًا من البكتيريا، ونكون بهذا قد توصلنا إلى معجزة تُسمّى "المضاد الحيوي- Antibiotic" أو "قاتل البكتيريا" وهذا بالضبط ما حصل.
"عندما استيقظت فجر الثامن والعشرين من سبتمبر 1928، لم أكن أخطط لإحداث ثورة في الطب وأكتشف أول مضاد حيوي -قاتل بكتيريا- في العالم، ولكن أعتقد أن هذا بالضبط ما حصل"، هذا ما قاله "أليكسندر فليمنج".
إن كنت لا تستوعب عظمة هذا الاكتشاف، والذي حدث من قبيل المصادفة البحتة، فيكفي أن أخبرك أن المضادات الحيوية تنقذ سنويًا ما يزيد على مائتي مليون شخص في الولايات المتحدة فقط!
اكتشاف الإنسولين!
تقاسم الطبيبان "فريدريك بانتنغ" و"جون مكلويد" جائزة نوبل في عام 1923 لعزل واستخدام الإنسولين لعلاج مرض السكري، ولكن إن كنت تعتقد أنهما مُكتشفاه -الإنسولين- فهذا ليس صحيحًا، إذ يرجع الفضل لعالِمين، وبول كلب، ومصادفة بحتة!
تعود القصة إلى عام 1889، عندما نجح الطبيبان الألمانيان "جوزيف فون ميرينغ" و"أوسكار مينكوفيسكي" في إزالة بنكرياس كلبٍ سليم لأغراض بحثية هدفها تسليط الضوء على دور البنكرياس في عملية الهضم.
وبعد أيامٍ من إزالة البنكرياس، يلاحظ الطبيبان أن سربًا من الذباب قد اجتمع حول بول الكلب، فينتابهما الفضول ويقرران أن يفصحا البول لمعرفة سبب انجذاب الذباب له.
كشفت نتائج الفحص أن بول الكلب يحتوي على إفرازات سكرية، ونظرًا لأن الكلب كان سليمًا قبل إزالة البنكرياس، استنتج الطبيبان أن هناك علاقة بين البنكرياس وداء السكري، وأن إزالة هذا العضو يمكنها أن تصيب الكائن بهذا المرض المزمن. وبإجراء المزيد من الفحوصات، تم التأكد من أن البنكرياس يفرز مادة تتحكم في استقلاب السكر في الجسم. لاحقًا عرفنا أن هذه المادة الغامضة هي الإنسولين، وما أدراكم ما الإنسولين!
يا لها من مصادفات! قد تُفني عمرك كله جاهدًا من أجل أن تُحدِث فارقًا ولا تصل إلى مبتغاك، أو بالأحرى لا تصل حتى مجيء اللحظة الفارقة التي انتظرتها طوال حياتك، المهم أنك ستصل ما دمت مجتهدًا؛ فباطّلاعٍ سريع على سيرة العلماء المذكورة أسماؤهم، ستعرف يقينًا أنهم كانوا يستحقون هذه اللحظات الفارقة.. سمّها لحظات فارقة، أو مصادفات، أو تدابير، أو حتى حظًا.. لا يهم، المهم أنها حدثت، وأنها كانت ستحدث لا محالة، وهذا لاجتهاد أصحابها.