التحول الرقمي للأعمال.. المفهوم والإيجابيات والاستراتيجيات
لم تعد حاجة المؤسسات والشركات إلى التحول الرقمي تخفى على أحد، لا سيّما بعد جائحة كورونا التي كشفت هذه الحاجة أمام العالم أجمع؛ فمنذ الجائحة -وحتى من قبلها- ومن الواضح أن المؤسسات تتسابق نحو تحقيق هذا المفهوم الذي ذاع صيته في عالم الأعمال، ونحن هنا لا نتحدث عن المؤسسات والشركات البعيدة عن التحول الرقمي فقط، بل حتى عمن يعتبر نفسه "مُتحولاً رقميًا".
جميع أصحاب الأعمال الذين يسعون إلى تحقيق نجاحات بارزة في السوق، لذا يجب عليهم أن يغيروا من تصورهم لمفهوم البيانات نفسه، ناهيك عن حاجتهم إلى امتلاك نظرة شمولية للتحديات التي تواجههم وإيمانهم بأن التحول الرقمي هو المستقبل.
لك أن تتخيل أن الشركات مُعرضة لخسارة ما يُقارب الـ 7 ملايين دولارًا في حالة فشل مبادراتهم في الوصول إلى التحول الرقمي -وهذا بحسب تقرير نشرته مجلة Forbs- ما يضعهم تحت ضغط واضح ومستمر، ويخلق سباقًا حامي الوطيس بينهم.
وفقَ استفتاء أُجري على مديرين تنفيذيين من 750 مؤسسة حول العالم، فإن 71% منهم يعتقدون أن التحول الرقمي هو السبب الرئيس لزيادة الإيرادات، و62% منهم يرون أن نفس المفهوم يُحسّن من التخطيط ومن عملية اتخاذ القرار.
لهذا لا عجب أن سوق التحول الرقمي من المتوقع له أن يتجاوز التريليون دولار بحلول العام 2025، وأن 90% من المؤسسات متحولة رقميًا بشكلٍ أو بآخر، وأن 87% من المديرين التنفيذيين يُنصّبون التحول الرقمي على رأس قائمة الأولويات، والإحصائيات التي تناصر هذا المفهوم وتُنبئ بتوحُّش هذا السوق لا حصر لها، ومن ثم فإن زيادة إيرادات الشركات والمؤسسات المستفيدة من التحول الرقمي هو أمر حتمي.
ما هو التحول الرقمي للأعمال؟
بعد أن تعرّفنا على الوضع الحالي للمؤسسات والشركات وسعيهم الدؤوب لتحقيق ما يُعرف بالتحول الرقمي، حان الوقت لنتعرف على ما يعنيه هذا المصطلح بالضبط.
من الصعوبة بمكان أن نضع مفهومًا موحدًا للتحول الرقمي يسري على جميع المؤسسات والشركات، وهذا ببساطة لأن كل جهة تختلف عن الأخرى في طبيعة وآلية عملها، ومع ذلك، يمكننا أن نقول إن التحول الرقمي هو دمج واعتماد التقنيات الرقمية في كل نواحي وآليات العمل، بشكل جذري وشبه كامل، وذلك على عكس الرقمنة التي يتم الاعتماد فيها على التقنية أيضًا، ولكن بشكل جزئي يقتصر على تحويل البيانات لشكلٍ رقمي.
يمكننا أن نعتبر التحول الرقمي بمثابة إعادة هيكلة الشركات وآليات العمل بها، رأسًا على عقب، وتغيير وضعها الراهن جملة وتفصيلاً.
ومثلما يختلف مفهوم "التحول الرقمي- Digital transformation" عن مفهوم الرقمنة، فإنه يختلف كذلك عن مفهوم "تحول الأعمال- Business transformation"، إذ إن المفهوم الثاني يتحقق بمجرد حدوث تغيير عادةً ما يكون بسيطًا إذا ما قورن بالتحول الرقمي، والذي على العكس تمامًا، يحتاج إلى جهود مضنية يمكن أن يُفني فيها المديرون التنفيذيون مسيرتهم الاحترافية كاملة، وهذا لأن التطور التكنولوجي لا يتوقف.
الشاهد أن تحقيق مفهوم التطور الرقمي للأعمال قد يتطلب تغيير كل شيء بالمؤسسات والشركات، بدايةً من سلاسل الإمداد Supply chains ومرورًا بمهارات الموظفين، بل وليس انتهاءً حتى بالأهداف والعملاء.
أما عن أمثلة المؤسسات والشركات التي اعتمدت على التحول الرقمي ونجحت نجاحًا كاسحًا، فحدّث ولا حرج؛ ولكننا الآن سنكتفي بالاستشهاد بالمتاجر الإلكترونية، وأبرزها Amazon، كمثالٍ حي على ما يُمكن للتحول الرقمي أن يفعله في حياتنا، ولاحقًا، سنستعرض معكم دراسة حالة ناجحة ومُفصَّلة لشركة تحولت رقميًا.
لماذا التحول الرقمي مهم للأعمال؟
إن أردنا حصر أهمية التحول الرقمي في كلمة واحدة، فستكون النجاة؛ حيث إن هلاك المؤسسات والشركات التي ما زالت تعتمد على الطرق التقليدية والروتينية في إدارة أعمالها ليس سوى مسألة وقت. فكل من له علاقة بتكنولوجيا المعلومات IT يعلم أن سلوك واهتمامات المستهلكين قد تغيرت بشكل واضح على مدار السنوات، وخصوصًا بعد الجائحة، فالجميع الآن يُنجز مصالحه وأشغاله بالاعتماد على الإنترنت والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، وليس على الروتينيات والمصالح الحكومية التي عفا عليها الزمن، فإن لم تتكيف وتتصالح المؤسسات مع هذه الحقيقة، فستهلك.
ما هي إيجابيات التحول الرقمي للأعمال؟
قبل أن نتطرق إلى الإيجابيات، يجدر بالذكر أن عملية التحول الرقمي ليست سهلةً على الإطلاق، بل محفوفة بالمخاطر، وسنأتي على ذكر ذلك لاحقًا مع سرد الأسباب، ولكن عليك أن تعلم أن هذا أمرٌ طبيعي؛ فمفهومٌ يحقق فوائد عظيمة كما التي سنذكر بعضًا منها الآن لا بد وأن يكون صعب التطبيق ويكون مليئًا بالتحديات. الآن، دعونا نُسلط الضوء على بعض إيجابيات التحول الرقمي، ولاحقًا سنُعطي أمثلة للتحديات.
1. تحسين جمع البيانات
كُل شيء أصبح يعتمد على البيانات، وتهافت الشركات على جمع أكبر قدر ممكن من بيانات المستخدمين هو أبرز دليل على هذه الحقيقة، ومع ذلك، فالأهم من جمع البيانات هو كيفية معالجتها وتحليلها بالطريقة الصحيحة، وذلك لكسب ثقة الجمهور المستهدف، ومن ثم نجاح "البيزنس" بشكل عام.
ونظرًا للقدرات التقنية عمومًا، ولقدرات الذكاء الاصطناعي على وجه الخصوص، لم يعد هناك بُد من الاتكاء على التقنية لجمع ومعالجة بيانات العملاء بأفضل طريقة ممكنة؛ فمن معلومات جامدة تبدو بلا قيمة من الوهلة الأولى، يُمكن للتقنية أن تُدهشك وتحول هذه المعلومات إلى ما يُشبه الطُعم لاصطياد العملاء، وبطريقة احترافية مبنية على الثقة بين العميل ومُقدم الخدمة في المقام الأول.
تُبنى هذه الثقة عندما يتم الاعتماد على التحول الرقمي، والذي يُحسّن مما يُعرف بـ"رحلة العميل Customer Journey" بشكل واضح، وذلك بفهم متطلباته وتوقع احتياجاته، ومن ثم تقديم تجربة تليق به وتجعله يعود مرارًا وتكرارا، وهذا أساس نجاح أي عمل أو "بيزنس".
2. إدارة أكبر للموارد
يدمج التحول الرقمي للأعمال جميع موارد الشركات أو المؤسسات بطريقة تُسهّل عليهم العمل بشكل واضح؛ الأمر أشبه بنظام "أبل" المتكامل والشهير بـ Apple ecosystem. من أجل توضيح الصورة، أريدك أن تتخيل مشفًى يتعامل مع المرضى بطريقة تقليدية؛ أي بحجز المواعيد ورقيًا وتسجيل الحالات بطريقة عشوائية قد تتسبب في ضياع أو تشتت استمارات المرضى من الأساس.
لحل هذه المشكلة، يُمكن للمشفى أن يستخدم نظامًا مثل السجل الطبي الإلكتروني "EHR"، والذي يُعد صورة من صور التحول الرقمي بالمناسبة، وبفضله سيتم الاحتفاظ بكل ما يخص الحالات أو المرضى من تاريخٍ طبي، إلى نتائج الفحوصات، إلى أساليب العلاج وهلم جرّا، وبدلاً من البحث عن هذه المعلومات بطريقة يدوية تضيع الوقت والجهد، سيوفّر النظام هذا العناء ويحسن من جودة خدماته.
3. تعزيز الثقافة الرقمية
الإنسان صنيعة بيئته؛ ضع شخصًا وسط مجموعة من الأوراق واعزله عن التكنولوجيا وسيكون رجلاً مكتبيًا بامتياز، ولكنه في نفس الوقت سيكون أشبه برجل الكهف. على الجانب الآخر، أحِط شخصًا بالتكنولوجيا وسيكون ممتازًا بها حتى وإن كان طفلاً.
إذًا فتَبَني المؤسسات أو الشركات لمفهوم التحول الرقمي لا يساعدها فقط في عملية تحليل البيانات وجمع الموارد، وإنما أيضًا في تعزيز الثقافة التكنولوجيّة ومحو الأمية الرقمية، وهذا شيء لو تعلمون عظيم، إذ لا يساهم فقط في تعزيز ثقافة الموظفين الرقمية، وإنما في الارتقاء بالمجتمع ككل؛ لأن الأميّ لم يعد من لا يعرف القراءة والكتابة، وإنما من لا يستطيع استخدام التكنولوجيا.
4. تحسين الإنتاجية
إذا لم تكن قد لاحظت بعد، فإن الاعتماد على التحول الرقمي يُعزز من الإنتاجية بشكل واضح، لا سيّما إن اخترت الأدوات التقنية الصحيحة التي تتماشى مع نشاط الشركة أو المؤسسة، فهذا سيساعدك على أداء المهام وإنجازها بشكلٍ أوتوماتيكي فيما يُعرف بـ"عملية الأتمتة Automation"، وهي المفهوم المضاد للعمل اليدوي، ولك في مثال المشفى الذي ضربناه بالأعلى خير شاهدٍ على ذلك.
5. زيادة معدل الذكاء
من شأن التحول الرقمي أن يوفّر على الموظفين وأصحاب العمل أطنانًا من الجهد، إذ يشتمل التحول الرقمي على الذكاء الاصطناعي الذي أصبحنا جميعًا على دراية بما يمكنه أن يفعل، ولنا في روبوتات الدردشة المُعتمدة على الذكاء الاصطناعي، مثل ChatGPT وBard، خير مثال.
بل أزيدك من الشعر بيتًا وأقول إن التحول الرقمي قد يزيد معدل ذكاء الموظفين بشكل أو بآخر، عن طريق تثقيفهم تقنيًا، وتسليحهم بمهارات جديدة تساعدهم على التفكير، خاصة وإن تحدثنا عن البرمجة، ناهيك عن أن التقارير تشير إلى أن التكنولوجيا توفر بيئة عمل مُريحة من شأنها أن تزيد من عملية الإنتاج.
ما هي استراتيجية التحول الرقمي للأعمال؟
قد يبدو مفهوم التحول الرقمي سهل الفهم والانتهاج، ولكن الحقيقة أن تطبيقه يتطلب مجهودًا مُضنيًا واستراتيجية ذكية؛ فالتحول الرقمي للأعمال لا يتمحور حول الاعتماد على التكنولوجيا فحسب، بل على تغيير فِكر المنظمة كاملة، وهذا يتضمن آليات العمل، وثقافة الموظفين، بل أحيانًا أهداف المؤسسة أو الشركة.
وبما أن أحد أهم أهداف التحول الرقمي تتمثل في خلق بيئة عمل سلسة وفعّالة، لكلٍ من الموظفين وأصحاب العمل، فإن هذا يعني تعاون الطرفين معًا للوصول إلى هذا الهدف. ولا يشمل عمل الطرفين الأمور التقنية والفنية فقط، بل يمتد إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، وبالتحديد إلى تبني فِكر انفتاحي وإبداعي للاستفادة من الأدوات والقفزات التقنية الواضحة، وبالطبع استيعابها، سواء كانت على مستوى الذكاء الاصطناعي "AI"، أو إنترنت الأشياء "IoT"، أو الحوسبة السحابية "cloud computing" وما إلى ذلك.
ولا تقتصر استراتيجية التحول الرقمي للأعمال على التغييرات الداخلية للمؤسسات والشركات فقط، بل الحقيقة أنها تتمحور حول العميل أو الجمهور المستهدف أكثر من أي شيء آخر، وهذا سيحدث عندما تُفهَم احتياجاتهم وسلوكياتهم من خلال تحليل البيانات، والحرص على أن تكون البيئة تفاعلية بين مُقدم الخدمة والعملاء لضمان ولائهم ورضاهم.
أزيدك من الشعر بيتًا وأقول إن كل هذه الأمور تعتمد على الوقت الذي تُطبَّق فيه؛ فلا يمكن الاعتماد على استراتيجية ثابتة أو مُوحدة، وهذا يعني أن المؤسسات أو الشركات عليها أن تواكب كل جديد عن طريق -مثلاً- تغيير الأنظمة التكنولوجية التي تعتمد عليها، أو حتى إعادة تقديم نفسها للجمهور Rebranding.
إذًا فاستراتيجية التحول الرقمي لا تعتمد فحسب على التكنولوجيا أو البيئة الداخلية، وإنما على التغيير الكامل للثقافة وطريقة التفكير، والاستعداد المستمر لتبني أفكار جديدة ومُبتكرة، وفوق كل ذلك التركيز على العملاء أكثر من أي شيء آخر لأنهم سبب نجاح أي مؤسسة أو شركة، فما التكنولوجيا إلّا وسيلة فقط.
وقبل أن نشارككم دراسة حالة لشركة قد نجحت نجاحًا ساحقًا بعد الاعتماد على التحول الرقمي، يجب أن نؤكد عليكم أنه دون تبني استراتيجية فعّالة وناجحة، فالتحول الرقمي برمّته لن يؤتي ثماره، أما في حالة تبني استراتيجية مدروسة وتغييرها بما يتناسب مع السوق باستمرار، فالنجاح سيكون مضمونًا.
أمثلة على أعمال نجحت في التحول الرقمي
هناك أمثلة كثيرة على شركات ومؤسسات استغلت مفهوم التحول الرقمي أفضل استغلال، وطبقت استراتيجياته بالطريقة المُثلى من الاهتمام بالعميل، وتبني أحدث الوسائل التكنولوجية، وتغيير الثقافة، وطريقة التفكير إلخ. من أمثلة هذه الشركات: Amazon وSpotify وAirbnb وNetflix، ودعونا نتخذ من هذه الأخيرة حالة ندرسها لنرى ما الذي يمكن للتحول الرقمي أن يفعله.
بدأت شركة Netflix "منصة البث Streaming العملاقة" كخدمة بريدية لتوزيع أقراص الـ DVD في عام 1997، والأمر كان بدائيًا جدًا بُحكم ذلك الوقت. وعندما وصلنا إلى عام 2007، توقع الخبراء أن أوان سقوط "Netflix" قد حان نتيجة للمنافسة الشديدة التي زُعِمَ أنها لن تقدر على مجاراتها، ولكن تُفاجئ الشركة الجميع وتصمد، بل تفوق التوقعات، وذلك لأنها اعتمدت على البيانات والتحليلات، واللذان يعدان بداية الطريق نحو التحول الرقمي.
طوَّرت "Netflix" محرك اقتراحات يُسمى "Cinematch"، وكان يتوقع تفضيلات الجمهور بدقة شديدة، وفي نفس العام -2007- قررت أن تدخل سوق البث Streaming من أوسع أبوابه كنوعٍ من المخاطرة المحسوبة والسابقة لأوانها. كان هذا القرار بالتعاون مع خدمات أمازون ويب AWS الحوسبية لبناء بُنية تحتية قوية على الإنترنت، ما سمح لهم بالانتشار والوصول إلى أكبر قدر ممكن من العملاء.
وكان مسلسل "House of Cards" الشهير هو الانطلاقة الحقيقية، والتجسيد الواضح لمجهودات "Netflix" المُكرَّسة ناحية التحول الرقمي. والحقيقة أن من يدرس ظروف إنتاج وعرض هذا المسلسل السياسي المصقول، سيعرف جيدًا أن نجاح "Netflix" نتيجة تحولها الرقمي لم يكن من قبيل المصادفة على الإطلاق، فاستراتيجية الشركة للوصول إلى هذا التحول اشتملت على عوامل مُبهرة مثل دراسة سلوك الجمهور جيدًا، والتركيز على الأوقات التي يستخدمون فيها المنصة، وبالتالي تطوير خوارزميات مبنية على أُسس صلبة.
من بعد ذلك المسلسل وحتى يومنا هذا وشركة "Netflix" أشهر من "النارِ على العلم" كما يقولون، وذلك رُغم المنافسة الضروس التي يشتد وطئها يومًا تلو الآخر، وخصوصًا مع وجود خدمات أخرى تقدمها شركات ذات شهرة وصيت مثل Disney+ وAmazon Prime وApple TV، ولكن تظل Netflix في المقدمة لمخاطرتها المحسوبة وريادتها الشجاعة في وقتٍ مبكر.
يُذكر أن عائدات "Netflix" السنوية تستمر في تحطيم التوقعات، حيث تجاوزت في آخر 12 شهرًا فقط "حتى سبتمبر الفائت" الثلاثين مليار دولار.
وتُجسد "Netflix" الحقيقة المؤلمة التي لا مفر للمؤسسات والشركات منها اليوم، وهي: التطور أو الاندثار؛ فتمسك الشركات والمؤسسات بالوسائل البالية سيعني هلاكها لا محالة، ولكن في نفس الوقت يوجد شعاع أمل يتمثل في التطور ومواكبة القفزات السريعة للتكنولوجيا، مثلما فعلت "Netflix" عندما قررت أن تتحول رقميًا.
تحديات ومستقبل التحول الرقمي
حان وقت التركيز على المُعوقات التي تحول دون تحقيق مفهوم التحول الرقمي، القادر على تغيير مصائر المؤسسات والشركات إلى الأفضل. بالتأكيد لن نستطيع إحصاء كل المعوقات والتحديات لأنها مقترنة بالزمن والتغيير، ولكن هناك بعض الثوابت التي ستظل موجودة إلى الأبد، أو على الأقل إلى عقود مستقبلية على ما يبدو، وعلى سبيل المثال:
1. ضعف الاستراتيجية المُتبعة للتحول الرقمي
الثابت الوحيد الذي لن يتغير مهما حدث، فالاستراتيجية هي حجر أساس التحول الرقمي مثله مثل غيره من المفاهيم الأخرى. إن كانت الاستراتيجية قوية ومبنية على الأُسس التي تناولناها بالأعلى "من انفتاح وابتكار وتغيير العقلية وتطوير الوسائل التكنولوجية"، فالتحول الرقمي سيتم بنجاح، وبالتالي ستعم فوائده الجمّة على الشركة أو المؤسسة، والعكس صحيح لا ريب.
ولعلنا لم نتحدث حتى الآن عن نقطة في غاية الأهمية للحكم على مدى نجاح الاستراتيجية، وهي: الخبرة، حيث يُفترض بأي مؤسسة أو شركة تريد أن تتحول رقميًا أن تكون على دراية بحيثيات ذلك، فضلاً عن الإلمام بكل المقومات، وليس من الرجاحة أن تتحول بشكل فُجائي ودون أي خبرة أو مقدمات.
هناك فجوة كبيرة في الخبرات، والمتمثلة في أشياء كثيرة منها المواهب، تعوق عملية التحول الرقمي؛ فبحسب استفتاء أُجري على العديد من المؤسسات، أبلغ 44% منهم أن الفجوة في المهارات ونقص الخبرات قد أعاقت عملية التحول الرقمي بشكل واضح، في حين أن 32% قد أفادوا بأن استقطاب الخبراء هو أمر مكلف للغاية، هنا يكمن التحدي الأول.
2. التأثير على مستقبل الوظائف
بعد اجتياح موجة الذكاء الاصطناعي للمشهد التكنولوجي، لم تعد القوى العاملة قادرة على إخفاء خوفها على مستقبل وظائفها، ونفس الشيء ينطبق في حالة التحول الرقمي الذي يضع بعض الوظائف على المحك نتيجة للتغيير السريع الذي يحتاج إلى مهارات معينة قد لا يكون هناك وقت لاكتسابها، فضلاً عن وجود معوقات أخرى بالطبع.
فالتحول الرقمي يعني الاعتماد بشكل كامل على التقنية كما فهمنا، وهذا يعني أن الموظف البيروقراطي المُعتاد على الأعمال الورقية والأعمال المكتبية بشكل عام، سيندثر دوره وعمله، في حين أن الموظف البارع باستخدام الأدوات التقنية ويعرف مداخلها ومخارجها، سيستطيع الانخراط في البيئة التكنولوجية الجديدة بسهولة، ومن هنا نود أن نُعيد التذكير بحقيقة التطور أو الاندثار التي لا مفر منها.
3. المشكلات الأمنية
أكثر ما تخشاه الشركات الآن هو المشكلات الأمنية والخصوصية، اللتان يدقان ناقوس خطر أي مؤسسة عادية لا تعتمد على التكنولوجيا، فما بالك عندما تتحول رقميًا لتعتمد على التكنولوجيا بشكل كامل؟
بحسب تقرير نشره المنتدى الاقتصادي العالمي في 2022، فإن الكثير من التدابير الأمنية التي تحتمي بها الشركات من المخاطر السيبرانية أصبحت قديمة، بل عفا عليها الزمن، وذلك بسبب التطور غير المسبوق للأساليب التي يتبعها مجرمو الإنترنت cybercriminals.
من أجل تقليل فرص هذه المشاكل الأمنية، سيتعين على المسؤولين أن يوفّروا أنظمة حماية مُعقدة ومكلفة للغاية، فضلاً عن تدريب الموظفين على الأساليب التي قد يتبعها المجرمون في اختراقهم أمنيًا، ولا ننسى تعيين أشخاص يعملون بمجال "السيكيوريتي" ليكون شغلهم الشاغل متابعة هذه المشاكل، وتشكيل ما يُشبه حائط الصد الأول لأي تهديد، وهذا مُكلف أيضًا.
4. التكلفة الباهظة
لا بد أنك لاحظت أننا لم ننفك عن ذكر التكلفة، وأن كل شيء تقريبًا للوصول إلى التحول الرقمي سيتطلب تكلفة مُعينة؛ فالحاجة إلى الخبراء مُكلفة، واستقطاب الموظفين المثقفين تقنيًا مُكلف، والتصدي للمشاكل الأمنية مكلف أيضًا، ناهيك عن بقية التحديات والمعوقات الأخرى التي لم نذكرها من الأساس.
وبعيدًا عن التكلفة الناجمة عن بقية التحديات الأخرى، دعونا لا ننسى التكلفة الأكبر -في البداية- وهي تكلفة العتاد الرقمي أو التكنولوجي نفسه الذي ستشتريه المؤسسة أو الشركة، والذي كلما كان أفضل وأكثر تطورًا، كان مُكلفًا أكثر، والحاجة للعتاد المتطور في حالة الشركات والمؤسسات ليست رفاهية كما نعلم جميعًا.
5. تقبل فكرة التحول الرقمي أساسًا
أتتذكرون ما قلناه بشأن تغيير العقلية والتأقلم مع الواقع التكنولوجي الذي يفرضه التحول الرقمي؟ ها نحن ذا نُدرج هذا الأمر ضمن التحديات أو المعوقات الموجودة في طريق الوصول إلى هذا التحول ذي الحدين. فبغض النظر عن الموظفين أنفسهم وأنهم قد يعجزون عن التكيف أو التأقلم مع التكنولوجيا، دعني أخبرك أن أصحاب العمل أنفسهم قد يعارضونه، هذا وإن وافقوا على تبنيه -التحول الرقمي-، حتى مع معرفتهم بفوائده وما قد يفعله بشركاتهم أو مؤسساتهم من قفزات نوعية.
6. احتياجات العملاء المتغيرة
لما لأهمية العملاء القصوى في نجاح أي مشروع، دعونا نُخصص التحدي الأخير الذي سنذكره لهذا العامل المهم للغاية. يجب أن نعرف جميعًا أن احتياجات العملاء تتغير دائمًا، وهذا قد يضع ضغطًا ويخلق تحديًا جديدًا أمام الشركة أو المؤسسة، والتي سيُفرَض عليها فعل شيء حيال تغير أهواء العملاء الفُجائية، وإلّا سيخسرون جزءًا، إن لم يكن كل العملاء.
يكمن جزءٌ من الحل في الاستثمار الصحيح في الأدوات التكنولوجية، والاستراتيجيات المرنة القابلة للتغير مع مرور الوقت. يجب أن تُبنى علاقة قوية بين العميل والمؤسسة أو الشركة، ووقتها فقط، سيُضمَن ولاء العملاء بنسبة كبيرة.
مرة أخرى، وأخيرة؛ تطور أو اندثر، حقيقة تفرض نفسها على جميع المؤسسات والشركات، إذ إنه دون مواكبة العصر والتسلح بالتكنولوجيا، وبالأخص بالتحول الرقمي، لن تكون هناك فرصة للنجاة في ظل احتدام المنافسة ووصولها لمستويات غير مسبوقة.